لديَّ بضع كلمات بشأن الدستور، تعمدت تأجيلها إلى ما بعد الاستفتاء. تجنبا لإساءة التأويل والقيل والقال. هذه الكلمات أوجزها فيما يلي:
٠ إن أي دستور هو وثيقة نخبوية بالدرجة الأولى، تتضمن المعالم الأساسية لمقومات المجتمع وشكل الدولة والعلاقة بين سلطاتها وضوابط الحقوق والواجبات والحريات، وغير ذلك مما يمكن أن يوصف بأنه حزمة إشارات عمومية تحدد اتجاهات السير، ولم يخطئ من وصفه بأنه بمثابة مجرد إعلان للنوايا، لم يقل أحد إنه يشكل نقلة نوعية لأي مجتمع، لكننا في حملة تسويقه اعتمدنا على أن المواطن العادي المشغول بأموره المعيشية لن يكترث بقراءته، فبالغنا كثيرا في تصويره وأوهمنا الناس بأنه باب سحري سيحل لهم اجتيازه كل ما يعانون منه من مشكلات، في الصحة والتعليم والإسكان...إلخ. ــ بل ذهبنا إلى ما هو أبعد وقال بعضنا ان التصويت لصالح الدستور هو «انتخاب للمستقبل»، وانه بمثابة كتابة تاريخ جديد للبلد. في ايحاء بأن مصر بعده ستختلف عنها قبله. وذلك تزَّيد حمـَّل الدستور بأكثر مما يحتمل وأحاطه بهالة خادعة من الأوهام التي أريد بها دغدغة مشاعر الناس ومداعبة أحلامهم.
٠ إن حياة الناس لا تغيرها الدساتير المكتوبة، ولكن تغيرها السياسات المتبعة والمؤسسات الفاعلة في المجتمع. وعادة ما يضرب المثل في ذلك بإنجلترا التي لا تملك دستورا مكتوبا، ولكنها محكومة بمجموعة القوانين التي أصدرها البرلمان، إضافة إلى المبادئ التي تم التوافق عليها واستقرت خلال الممارسة الديمقراطية. وللعلم فإن الدساتير المصرية التي صدرت منذ عام 1923 وحتى عام 2012 مرورا بدستور 1971 لم تكن سيئة وإن شابتها بعض النواقص شأن كل عمل بشري. وعلى حد تعبير المستشار طارق البشري فإن المشاكل التي عانت منها مصر قبل الثورة مثلا لم تكن ناشئة عن نواقص دستور عام 1971، ولكنها وردت كلها أو معظمها من أن الدستور لم يطبق ولم تنفذ أحكامه.
٠ دون الدخول في التفاصيل فإن الدستور الجديد يعاني من مشكلة بنيوية جوهرية، وهي انه وضع في ظل خلل خطير في ميزان القوى السياسية بالمجتمع المصري المنقسم. ذلك اننا إذا سلمنا بأن إعداد الدساتير يعكس موازين القوة على أرض الواقع، فإن الضعف الشديد الذي يعاني منه المجتمع المدني المصري ظهرت آثاره في مضمون الدستور، الذي تجاوز الحدود المتعارف عليها في صياغة وتضخيم دور المؤسسة العسكرية. وكان ذلك تعبيرا أمنيا عن ميزات القوة في الواقع الراهن، الذي تميل كفته بشدة لصالح تلك المؤسسة التي صارت الفاعل الأكبر في الساحة السياسية.
٠ إنني لم أسترح لأمرين في حملة التعبئة للتصويت على الدستور، الأمر الأول هو استخدام سلاح الفتاوى الشرعية سواء لإثناء الناس عن التصويت أو لتشجيعهم على ذلك. حيث أزعم أن ما قاله الطرفان لم يخل من افتعال وتزيد، لأن العملية لا علاقة لها بالحلال والحرام، حيث لا يوجد نص شرعي يحدد الحل أو الحرمة فيه. فالجميع يتصرفون في دائرة الحلال إذا صدقت نواياهم، الذين قالوا «نعم» متصورين أنهم بذلك يسهمون في استقرار البلد، والذين قالوا «لا» تعبيرا عن سوء ظنهم بما يجري، وحتى الذين قعدوا في بيوتهم واختاروا المقاطعة لحسابات معينة قدروها. فتلك كلها مواقف تدور في فلك الخطأ والصواب، وليس لها علاقة بالحلال والحرام.
الأمر الثاني الذي استنكرته هو دخول القوات المسلحة على الخط في حملة الدعاية وحث الناس على التصويت. ذلك أنني إذا كنت قد فهمت مشاركتها في تأمين العملية باعتبار ذلك من قبيل الحفاظ على أمن البلد، في ظروف لا تستطيع الشرطة أن تتحمل مسئوليتها وحدها، فإنني لم أفهم حملات الدعاية التي قامت بها إدارة التوجيه المعنوي التابعة للقوات المسلحة والسيارات التي أطلقتها داعية الناس للتصويت بنعم، ومكبرات الصوت التي استخدمتها في بث أغنية «تسلم الايادي». الأمر الذي أعطى انطباعا بأنه دستور المؤسسة العسكرية وليس دستور المجتمع المصري.
٠ إن الجهد الذي بذل للدعاية للدستور والتهليل له كان أضعاف الجهد الذي بذل لمناقشته. وللعلم فإن الإعلان الدستوري الذي صدر في 9 يوليو 2012 نص في المادة 29 منه الخاصة بالتعديلات الدستورية على ان لجنة الخمسين التي كلفت بإجراء التعديلات «تلتزم» بإنجاز مهمتها وإجراء الحوار المجتمعي حول التعديلات المقترحة خلال 60 يوما، وقد اغنانا السيسي حين ذكر في التسريبات المنسوبة إليه أن اللجنة تحايلت ولم تجر التعديلات وقامت بوضع دستور جديد (بعد الموعد المحدد). إلا أن ملاحظتي تنصب على أن لجنة الخمسين لم تجر الحوار المجتمعي الذي ألزمت به. ولم تتحرك إلا بعد صدور المشروع وعرضه على الاستفتاء العام.
وتولت قياداتها الدعاية للدستور في مهرجانات صاخبة. من ثم فإنه بدلا من مناقشته بشكل جاد في جلسات الحوار التي تنير الرأي العام وتقنعه. فإن الحديث عنه صار فقرة في سيرك السياسة. متبوعة بوصلات غنائية وراقصة. وكانت النتيجة اننا استمعنا إلى الزغاريد وهتافات نجوم السينما والغناء والرياضة بأكثر مما تلقينا من ملاحظات الباحثين والمتخصصين. حتى التبس علينا الأمر، فلم نعرف حدود الجد والهزل فيه.
لقد باعوا لنا الترام كما تقول القصة المشهورة، والمشكلة ان ذلك لا يسمح لنا بدخول التاريخ من أي باب، كما انه يجدد طرح السؤال الكبير: إلى أين نحن ذاهبون؟
نقلاً عن جريدة الشروق
واقرأ أيضاً:
الدم الفلسطيني المنسي/ حين اعتذرت إسرائيل لتركيا/ تمرد وتجرد وتشرد/ فاشية جديدة/ الشبيحة الجدد