في مثل هذه الساعة منذ ثلاث سنوات انتصر الوعي الجديد الذي انطلق من أعماق المصريين على جهاز القمع الذي روعهم طوال تاريخهم، وظهر للعالم أن هذه الثورة إنما جاءت من / و-بـ وعي جديد- وبنقلة فيما يمكن أن أسميه: الوعي الروحي، من بعد طول موات، أو حياة تشبه الموت، وركود بلا حركة، جاءت الثورة لتحرك المستنقع بوعي جديد!!
ورغم أن هذا الوعي كان، وما يزال متواريا بداخلنا، كانت لدي شكوك منذ البداية أن أغلبية المصريين قد فهموا ما صدر عنهم بشكل يمكنهم من تعميقه وتطويره، ومبكرا جدا شعرت بالحاجة إلى ترجمة أو ترجمان لهذه الثورة، وعملت مجموعة على الفيسبوك في حينه بنفس الاسم (ترجمان الثورة)، بعد ذلك وجدت فيلسوفا يهوديا -غير مشهور- يقول: لا يكفي أن تصنع التاريخ، ينبغي أيضا أن تكون قادرا على تفسيره، أعتقد أنه يعني تفسير التاريخ، وتفسير هذا التغيير!! بدون التفسير النابع من فهم عميق، لا تنتظر التطوير!!
مشكلتنا كانت، وتبقى في الوعي بهذا الوعي، في الإمساك به، والتحقق به، والاحتفاء به، والبناء به!!
في الـ 18 يوم خرج إلى النور هذا الوعي الذي كان كامنا فينا، وعي إنساني روحاني يحمل إبداعا وتجريبا وحبا وتواصلا وجسارة تخصيب طاقات متراكمة، وإمكانات مخزونة، ونسج توليف جديد على الدنيا بأسرها، وما تزال ينابيع هذا الوعي تتفجر وتتيح أمامنا فرزا وتمحيصا دقيقا لنفوسنا، واستعراضا نادرا لتشريح مكونات هذه النفوس، وتكوينات وتداخلات الخير والشر فينا، وفرص الاستكشاف، والتعلم، والتعري النفسي لنرى -إن شئنا -المساحات التي كانت محجوبة عنا في أعماقنا، وبلدنا، وأهلنا، وما يزال هذا الوعي يتيح أمامنا الخروج من عزلة القماقم، والجيتوهات والطوائف والمعازل التي تربينا فيها مغتربين منقطعين، ويتيح أمامنا تجمعات ونقاشات ودوائر تتسع وتضيق، تلتئم وتنفرج لتنقل من يشاء من تبلد الجمود والركود القديم، إلى حيوية وسخونة وحساسية الحياة الإنسانية بحقائقها، وآلامها، وروعة التعرض إلى بانوراما من الاختبارات الكاشفة، مختبر ضخم للوعي والتجريب والنضج الروحي الإنساني العميق!!
لكننا سرعان ما هربنا، وما نزال نهرب من التحقق بهذا الوعي، وقراءة هذا النصوص الملهمة الكثيفة إلى النحيب على الشهداء -مثلا- بدلا من الاحتفاء بمكانتهم، ونهرب من دعم المعتقلين، والثكالى، والضحايا مكتفين بالألم لأجلهم، ونهرب بالتجاهل، أو حتى بصلابة وصمود المقاومة من استحقاقات ومرونة الانفتاح لتعلم مهارات وطرق وخبرات جديدة - من أخطائنا، وخبرات غيرنا- في مواجهة دأب أعداء الوعي، من أنصار غيبوبة الضمير، وظلمة الروح، وظلمات الخوف والظلم والبهتان!!
هذا هو أهم ما قدمته ثورة 25 يناير، وما تزال: نقلة في الإدراك، والتفكير، والوعي الروحي، والإنساني، وفرصة للبعث، والتحول العميق لمن يختار ذلك، وكل منا يختار أن يرى الجراح المفتوحة فرصة للعويل، والبكاء، والذهول، والانحباس في الألم، فرصة لإطلاق الغضب، وتكثيف الحزن، أو يراها نافذة يتسلل منها النور، كما يقول مولانا جلال الدين الرومي.
اللحظة الراهنة تحتاج إلى نقد ذاتي، وتضافر جهود، وتساند وتعاضد إنساني، ومصارحات، ومكاشفات، ومراجعات، وتأمل في مواضع الأخطاء، والخلل دون خجل، ولا وجل.
تحتاج اللحظة إلى سلك دروب جديدة، وتعلم، وتكوين شبكات ومعارف وتحالفات جديدة، تحتاج إلى مواساة، وتغافر، وتعاون بعد تواصل، دون خوف من الآخرين، ومهام مشابهة، وخطط معاونة، تكاد كلها تمر عبر بوابة استعادة وتطوير وتعميق الوعي الروحي الذي انبثقت منه جولة 25-28 يناير ثم تغافلنا عنه منغمسين في صراعات على سلطة وهمية، وكراهيات منفلتة بلا وعي، وتعامٍ واسع متبادل، وصدامات لذواتنا المزيفة ذات العنجهيات والجاهليات والعلل والتشوهات الموروثة عن آباء وأجداد في أزمنة، نريد طيها!!
الوعي الروحي الآني يعني تعاملا مختلفا مع الألم، والخوف، والحزن، والأخطاء، والفقد، والقهر، ويعني أن ندرك وننطلق من التشريف الرباني لكل واحد منا، في وعيه الإنساني العميق بأنه بشر مكرم ينتمي إلى الله سبحانه، روحا طاهرة نفخها الله فينا، ومن شأن هذا الاعتصام بالرابط الروحاني مع الله، وبين الناس أن يحمينا من الانحطاط تحت الضغوط، أو التيه وسط عتمة التضليل، أو الإحباط بسبب القيود، أو التسليم للبهتان، أو للظلم أن يمر ولو تحت أقنعة الخداع!!
ثورتنا، وعي، جديد، عميق، أصيل نحتاج لاستعادة الوعي به، منه ننطلق، وبه نحتفل في ليلة انتصر الإنسان على القوة الغاشمة، انتصر فيها الخيال على ميراث ثقيل، ومكملين.
ويتبع >>>>>>>>: عن.. هدر أغلى ما نملك
واقرأ أيضاً:
مسار الثورة 7 ديسمبر.... فرصة نادرة !/ فيما يرى الحالم المختبر.../ المشروع الثوري... الثورة والمجتمع والدولة