لا أتحدث اليوم عن الإخوان المسلمين ولا حتى عن تيار الإسلام السياسي, ولكن أتحدث عن تيار أكبر بكثير غالبيته لا يمارس الفعل السياسي وبعضه اندرج في العمل السياسي بعد الثورة, أتحدث عن التيار الإسلامي, وهو يمثل قاعدة عريضة في المجتمع المصري قد يكون بعضهم غير متدينين بالمعنى الصحيح والكامل للتدين, وقد تكون فيهم كل عيوب الشخصية المصرية التي نشأت عن سنوات الفساد والإفساد, ولكن هذا التيار يحمل فكرة العودة إلى قيم الإسلام ومبادئه واستلهامها في حركة الإصلاح والنهوض الحضاري, ويحمل مشاعر إيجابية فياضة (وأحيانا مبالغ فيها) نحو المشايخ وعلماء الدين خاصة أولئك الذين يحركون فيه هذا الوعي الديني وينشطون تلك النزعة بشكل حماسي زائد وملب لاحتياجاته للشعور بالعزة والكرامة,
ويتبنى هذا التيار طقوسا حياتية خاصة تظهر في ملبسه أو هيئته (كاللحية أو الحجاب أو النقاب) أو طريقة معيشته. وقد لا يكون لدى هذا التيار مشروعا مكتوبا ومفصلا لما يريد تحقيقه, ولكن وعيه مشغول بفكرة استعادة الحضارة الإسلامية كما كانت في عصور الإسلام المبكرة. وهذا التيار الإسلامي قد ظهر وتبلور في مراحل متعددة كانت تتسم بالشعور بالعجز والمهانة والهزيمة أمام العدوان الخارجي أو الاستبداد والفساد الداخلي, فنشأ بعضه بعد الاحتلال الفرنسي, وبعضه بعد الاحتلال الإنجليزي وبعضه بعد هزيمة 1967م والاحتلال الإسرائيلي, ونشط أكثر بعد فشل المشروع الناصري والمشروع العروبي والمشروع اليساري والمشروع العلماني في تحقيق النهضة المطلوبة,
ونشط أكثر وأكثر إبان فترة حكم مبارك نظرا لتفشي الفساد والإفساد ولخلو الساحة من الأحزاب السياسية التي تستوعب طاقة الشباب, فاتجه معظمهم إلى المجموعات والجماعت الدينية (المعلن منها والسري) يعملون من خلالها وينتمون إلى قادتها ومرشديها ومشايخها. وكانت الفكرة البسيطة والمبسطة لدى التيار الإسلامي هي أن كل هذه المشروعات والأنظمة "العلمانية" أو "اليسارية" فشلت لأنها تأخذ الناس بعيدا عن جذورهم وعن دينهم, وتقتطع الأمة المصرية عن محيطها الإسلامي الأوسع وتنزع الشعب المصري من تاريخه المجيد وتجعله تابعا لحضارة غربية غريبة عليه وغالبا معادية له.
وهذا التيار الإسلامي نشأ شعبيا ولم ينشأ نخبويا أو سلطويا, ولهذا نلاحظ وجوده المتنامي وسط الناس خاصة في الطبقات الفقيرة والمتوسطة في القرى والأحياء الشعبية والمدن ثم وصل بعد ذلك إلى بعض الطبقات الاجتماعية العليا, وكان ينعكس هذا الوجود في انتخابات واستفتاءات ما بعد ثورة 25 يناير حيث كانت النتائج دائما في صالح خيارات هذا التيار بصرف النظر عما يقال من وسائل الحشد واستخدام وتوظيف العاطفة الدينية, وكل هذا قد يكون صحيحا ولكن في النهاية هناك تواجد شعبي مؤثر لهذا التيار نشأ أغلبه من وجود قواعد على الأرض ممثلة في مساجد وزوايا وجمعيات خيرية ومدارس ودور أيتام ومؤسسات دعوية وقنوات فضائية ومشايخ ودعاة محبوبين ولهم كاريزما هائلة وأتباع بالملايين وشعبيتهم تتجاوز المجتمع المحلي إلى المجتمع العربي والإسلامي والدولي
وباللغة السياسية نستطيع القول بأننا في المجتمع المصري أمام تيارين نشطين : الأول هو تيار اليمين الديني (التيار الإسلامي) وله هويته وأهدافه وتصوراته وطرق معيشته, والثاني هو تيار اليسار بكافة أطيافه وله أيضا هويته وأهدافه وتصوراته وطرق معيشته, أما غالبية المجتمع المصري فقد يتعاطفون بدرجات مختلفة مع هذا التيار أو ذاك ولكنه يميل إلى الوسطية ولا يستريح أو يقبل التوجهات المتطرفة لدى أي من الطرفين, وقد فرض هذا حالة من التوازن في الحالة المصرية بحيث يبقى الجميع في المنطقة الآمنة دون الاتجاه بقوة نحو اليمين أو نحو اليسار .
ولكن بعد الثورة ومع اتساع مساحة الحريات العامة وضعف القبضة الأمنية نشط الغلاة في التيارين وزادت حدة الاستقطاب واشتعل الصراع, وكانت الغلبة في الجولة الأولى لليمين الديني حيث كسب معركة الدستور وكسب بوضوح في انتخابات مجلس الشعب وبدرجة أقل في الانتخابات الرئاسية, ووجد الفرصة سانحة للإجهاز على غريمه الفكري والعقائدي والسياسي تيار اليسار فاستبعد كافة رموزه من منظومة الحكم وانطلق غلاة الدعاة والمشايخ هجوما وتجريحا وتسفيها لمعتقدات وشخصيات ورموز اليسار مما ترك حالة من الجرح العميق والمرارة الشديدة لدى تيار اليسار خاصة وأنه يشعر أنه لعب الدور الأساسي في إشعال ثورة يناير بما له من أفكار ملهمة وتحركات نوعية ورؤى استراتيجية وجسارة ثورية كان يفتقدها اليمين الديني.
ومن هنا نشأت الرغبة في إسقاط حكم الإخوان (رأس حربة اليمين الديني) واستعادة ثورة يناير أو القيام بثورة جديدة بمواصفات مختلفة يستبعد منها اليمين الديني تماما, ومن أجل هذا احتشدت كل تيارات اليسار لأول مرة في تاريخها مدفوعة بكراهية شديدة للإخوان وبالتبعية لليمين الديني الذي يمثل لهم قوى ظلامية متخلفة ودموية وإرهابية. وهكذا دخلت مصر في صراع هوية حقق اليمين الديني الغلبة فيه في الجولة الأولى بينما حقق اليسار الغلبة في الجولة الثانية ومازال يتربع على عرش القيادة الإعلامية والفكرية والسياسية حتى الآن مع إقصاء ثأري كامل لرموز اليمين الديني بل وللتيار بأكمله مع إنكار كامل لوجوده بما يخل بالتوازن المجتمعي المطلوب للاستقرار, وللحديث بقية.
ويتبع : انتبه .. العربة تجنح يسارا (1من2)
واقرأ أيضاً:
الصورة المزدوجة للرئيس / الشيخ المبتسم دائما! / العريفي يعرفنا بمصر التي لانعرفها / من مدرسة المشاغبين إلى باسم يوسف / هل تدخل مصر عصر الميليشيات؟