في الآونة الأخيرة انتشرت بين المصريين مزحة يتهكم قائلها على عبارة يرددها بعض من يدعون للصبر على ما يجري حاليا في مصر بدعوى أن حالنا هكذا أفضل من سورية والعراق .. وبالتالي فإن أي شيء يحصل مهما كان سيئا سيظل أهون وأخف ضررا .. من أن نصبح مثل سورية والعراق .. لا قدر الله!
المدهش أن من يتأمل تاريخ القطرين الشقيقين سيكتشف أن السكوت على ما يجري للمصريين وما يقع منهم هو تماما نفس الذي أوصل الأمور في كلا البلدين لما وصلت إليه!!
في سورية حكمت وتحكم عائلة الأسد بقبضة من حديد وأجهزة مخابرات وسجون سرية وعصابات متوحشة متعطشة للدم، ارتكبت مذابح في حماة، وتاريخها الدموي في القمع والاستبداد يملأ ملايين الصفحات، وسكت أغلب السوريين رعبا ورهبا على البطش بالإخوان المسلمين وكل من تسول له نفسه أن ينطق بكلمة نقد لحكم العصابات، وكانوا يقولون وقتها: فليكن ما يكون فهو أفضل من أن نصبح مثل مصر .. مثلا!!
وكانت مصر/ الدولة/ العصابات .. في ستينات القرن الماضي، ثم سبعيناته وثمانيناته وتسعيناته تخوض معاركا عاتية ضد من تصفهم بأنهم أعداء الدولة/ الأجهزة ممثلين في الإخوان ثم الجماعات الإسلامية الأكثر شبابا .. والتعامل كان يجري خارج الشرف والقوانين وخارج العقل ليفرز أجيالا من الضحايا والأسر الممزقة والجراح المفتوحة!! وكان أغلبية المصريين يسكتون على هذا الإجرام خوفا من الأسوأ!!
الاستقرار الشكلي المؤقت لحكم البعث في سورية كان يغطي على تشظي وتفتيت البنية النفسية والمجتمعية وتحويل المجتمع إلى جيتوهات وطوائف وتسعير الكراهية بين السوريين ومن ثم حين تحصل فرصة ويرتفع الغطاء قليلا يندلع مخزون القيح والصديد والسموم وتنفجر صهاريج الكراهيات المدفونة فتصبح حرب الكل ضد الكل، وتظهر داعش مسخا مشوها هو الابن الشرعي لكل الخطايا والبشاعات المسكوت عليها سابقا!!
وليس بعيدا عن هذا دور المخابرات والأجهزة الغربية التي تريد المنطقة هشة ومفككة وفي سبيل هذا تزرع وتنعش كل عوامل البوار والدمار والشقاق، وتدعم الكل ضد الكل حتى يصفوا وتبقى لها الغنيمة.
العراق كان فيه بعثه القابض على الرقاب بعد سلسلة انقلابات دموية أطاحت بآمال دولة لكل العراقيين ليحل مكانها كابوس صدام الذي يبني ويعمر في مشاريع ومباني ومنشأت .. بينما يدمر الإنسان على غرار النموذج النازي، وبكفاءة وكفاية أقل .. وعندنا دائما النسخة الأكثر رداءة وانحطاطا!!
وفي الوقت الذي بدا فيه العراق مزدهرا وموحدا بقبضة الحديد وأجهزة الخوف وقوات الرعب المسلحة وخاض فيها النظام الحرب تلوالحرب .. كان المجتمع يتدمر ويتفتت ويراكم أسباب الكراهية والتمييز والانقسام الطائفي .. تحت القشرة الخادعة!!
وحين تنشرخ القشرة وتتحطم .. تندفع الحمم كالبركان وتندلع المعارك والثارات .. حتى يحتار الحليم بين أيهما أسوأ : جحيم صدام البارد .. أم حرب الكل ضد الكل!
ولا يكاد يلتفت أحد إلى أن هذه من حصاد تلك .. ومن أن تمرير العبث والظلم الفادح بحجة عدم الوقوع في الأسوأ .. لا يؤدي إلى الأسوأ منه فحسب .. بل يصعب إصلاحه، وعلاج آثاره!!
وفي مصر تنعاد التواريخ والخبرات، ولا عزاء ولا أمل لمن لا يقرأون تاريخ غيرهم القريب، ويتعلمون منه!! والإفراط في استخدام الإنكار والنفي كآلية نفسية دفاعية يتعامى بها الإنسان عن رؤية الحالات والمآلات مصيره إلى انهيار الإنكار ليجد الناس أنفسهم أمام حرب الكل ضد الكل، وهي نتائج البذور التي تنزرع حاليا في سياق تخارس وتجاهل وعجز وتلاوم!
قتلى ومعتقلون بالألاف .. لا يكاد يعبأ بهم أحد، وسط أخبار متلاحقة عن مشاريع كبرى ستنقل مصر نقلة غير مسبوقة!! وإعلام داعر يسوق للضلال والأوهام بوصفها أحلام، بل وحقائق، وملايين تستسهل تمرير الأكاذيب الكبرى المفضوحة، وتمسك بتفاصيل تافهة وتصفق منتشية منتعشة بقتل أعداء الدولة!! وتردد كليشيهات لفظية مكررة عن هدم الدولة، أو الحفاظ عليها، وتنسى الثورة وتهيل عليها تراب النسيان والتجاهل بل والإنكار .. أيضا!!
نفس المشهد الذي حصل في سورية والعراق مع بعض اختلافات في رتوش وتفاصيل .. يرى هذا من يراه، وينكره من ينكره، فيحرم الناس أنفسهم من التعلم حتى من تجاربهم!!
نعوذ بالله من عمى البصيرة، ومن قلة الاعتبار بما يصير وصار، وتلاعب الأهواء بالعقول، ومن الهلاك بفساد التقدير!
واقرأ أيضاً:
السيد الرئيس... لا تمش في الأرض مرحا/ نسيم النفحات/ رمضان بدون إخوان !/ أزمة ثقة .. أزمة وطن/ بعد سكوت المدافع/ هل نحن نصنع بطلا أم ننتخب رُبّانا؟