بدأ العام الجامعي في مصر بعد تأخير متعمد لاستكمال استعدادات أمنية مكثفة لم تمنع المشهد المتوقع .. بل زادت من حدته!! تم تدعيم الأسوار الحديدية المعتادة بألواح من المعدن بحيث تحجب الرؤية تماما وتعطي نفس انطباعات جدران الزنزانة، وتم التعاقد مع شركة أمنية خاصة لتأمين بوابات الدخول، وتم القبض على طلاب قبيل بدء أيام الدراسة خوفا من نشاطهم السياسي. الإجراءات التي اعتبرتها السلطة ضرورة لتأمين عام دراسي جديد توقعته ساخنا هي نفسها قد وضعت الطلاب في مزاج سيئ على خلفية احتقان سياسي، ومجتمعي كبير!
الصدام في الجامعات هو التجلي الأوضح لأزمة الأزمات، وأم الكوارث في مصر .. المتمثلة في الفشل الكامل بالتعامل مع أهم موارد رأسمال المال الاجتماعي فيها، وهو الشباب الذي يمثل الكتلة الأكبر من عموم السكان!!
الفشل ليس فقط في سياسات أجهزة دولة منهكة لم يتبق منها سوى القمع والتعذيب والتزييف والإيهام الإعلامي، بل يمتد إلى المجتمع المفكك بكياناته التقليدية الطائفية، غير القادرة على فهم تنوعه واستثمار ثراء طاقاته وتشغيلها عبر أوعية مستقلة هي أنشطة الحياة المختلفة من معرفة وفنون وتحريك جسد وتنمية مستدامة! الفشل يمتد إلى الأسرة كوحدة رعاية وإنضاج .. فلا يكاد يمر يوم حتى يقابلني أحدهم أو إحداهن، أقصد أب أو أم، والشكوى واحدة من عدم القدرة على فهم الأجيال الأصغر، وصعوبات التواصل والتعامل بالتالي!
أعطيت لزميلة من دفعتي بالجامعة دليلا مترجما لطريق التربية والتواصل بين الوالدين والأبناء، قرأته جيدا وعادت تقول: ما هذا الذي نفعله بهم وبهن؟؟ لماذا غابت تلك الأفكار والبرامج السلسة النافعة عن التغطية في الإعلام، أو حتى النقاش العام بين الناس؟؟
الحب منعدم أو شبه منعدم، والتواصل منقطع، والغضب يتراكم داخل كل نفس وكل بيت، والسلطة مصرة على استعادة نهج وأسلوب تآكل في الدنيا كلها، وسقط في مصر سقوطا مروعا بضربات شباب يناير، ثم تاهت البدايات بين نخب متهافتة عاجزة وسلطة عجوز!
مرة جديدة يقف الشباب _ وحدهم هذه المرة _ في مواجهة الضياع الذي تأخذنا إليه الأفكار والممارسات والآمال والأساطير منتهية الصلاحية التي تتداولها السلطة مع قطاعات كبيرة من الناس في تواطؤ على تخريب الحاضر والمستقبل تحت شعارات الاستقرار والخوف من الفوضى / التغيير الحقيقي، وشعارات أخرى وطنية، ورطانة قديمة سمعها ورآها من عاش بدايات وانكسارات نظام يوليو 1952 الذي ما زال يحكم مع تغيير .. الوجوه!
يقف الشباب بصدورهم العارية وأحلامهم المنكسرة وطموحهم في غد أفضل، ويدفعون الثمن غاليا من مستقبلهم الدراسي وحريتهم بالاعتقال العشوائي وما يتلوه من تنكيل، ويدفع بعضهم حياته بالرصاص الحي!!
مانشيت إحدى الصحف، وكل الصحف في مصر حاليا تتكلم بنفس اللغة .. إلا نادرا،ي قول المانشيت عن الحراك الطلابي الصاخب: ورقة الإخوان الأخيرة! وفي وسائل الإعلام ينسبون الغضب الطلابي - كما أي غضب أو حراك - للإخوان بحيث يؤمنون بهذا البطش به، والقسوة المفرطة معه تحت نفس الكليشيهات التي روجوها عن الجماعة "المحظورة"!!
والباحث عن إنصاف لهؤلاء الأبناء في إعلام أو من سلطة فهو كالباحث عن ماء يجري وراء السراب، وإنما يجب على كل أنصار التغيير الثوري أن يتكاتفوا ويحتضنوا هذا الحراك؛ دعما وتشاورا وتأمينا وتكوينا وتطويرا فكريا وروحيا ونفسيا، وصيانة من حرق الطاقة الطلابية في إطار صراع بين قطبين تكتشف أعداد متزايدة من المصريين أنهما يرويان نفس السردية مع اختلاف أدوارهما فيها!!
في نفس ذات الوقت الذي يواجه فيه الطلاب بطش السلطة،تشتكي بعض مراكز حقوق الإنسان من التضييق الأمني عليها، فماذا ينتظر القائمون على هذه المراكز، وماذا ينتظر الطلاب؟؟ ولماذا يتأخر التعاون والتواصل بين هؤلاء وأولئك، وكلاهما يحتاج إلى الآخر!! الطلاب تحتاج إلى ثقافة وأدوات النضال الإنساني الحقوقي بأنواعه وتاريخه الزاخر ومهاراته، والمراكز الحقوقية تحتاج إلى سند شعبي ومصداقية جديدة وسط الناس التي لا تعرف عنها الكثير وتراها - مع تشويه السلطة لها- غريبة ومريبة!!
ماذا ينتظر المثقفون المحترمون أو من صمد منهم؟ وماذا تنتظر الدوائر والمبادرات المجتمعية جميعا؟ ولماذا يتأخرون في التواصل مع هذا المعين الثري للغاية دعما واستلهاما وتقوية للجميع؟ بل لماذا تتباطأ بدايات هذه الموجة الجديدة المسماة بالخضراء ومن شأنها أن تنقلنا إلى أرضية شديدة الأهمية والثراء والحيوية والاتصال بالعالم المكافح من أجل غد أفضل وأقل فسادا؟!!
مبروك .. عودة التلامذة .. وما تطرحه بداية الدراسة من أسئلة عميقة على كل من كان له قلب، أو ألقى السمع، وهو شهيد. الصحفي اللامع وجيه أبو ذكري (رحمه الله) كتب كتابا في سبعينات القرن الماضي عن قتلانا الضباط المصريين في حروب ثورة اليمن في ستينات نفس القرن (يقدر عددهم بعشرين ألفا) .. اختار أبو ذكري لكتابه عنوانا مؤثرا علق بذاكرتي منذ رأيته في طفولتي، وتذكرته وأنا أتابع الحراك الطلابي طوال الشهور الماضية .. عنوان الكتاب: الزهور تدفن في اليمن!
لا أحسب أن أبو ذكري قد أشار إلى أن دفن الزهور سيتحول إلى عادة يدفن فيها المصريون زهورهم في تراب الوطن!
واقرأ أيضا:
أهل الكهف/ معضلة الجماعة/ المزحة/ رمضان بدون إخوان !/ بعد سكوت المدافع/ تراويح/ نسيم النفحات/ تعلموا من العراق/ الذي انهزم/ أوهام الكهف