اللغة سجن المعنى، وهي قصره المنيف، ولا يحل هذا الإشكال إلا الشعر..
يبدأ الشعر بتفكيك اللغة باعتبارها البنية الأساسية التى تهتز وتختل وتعجز عن أن تحيط بحركية وعي الشاعر المقتحِم المبدع، وهو يغامر بكل شيء وهذا ما يمكن أني نطبق عليه تعبير البياتي «عبورٌ من خلال الموت»، لكن تظل الكلمة هي الأداة المتاحة للتعبير الممكن عن كل من البنية المتفككة لتتخلّق، فيترجّح الشاعر - بوعي فائق - بين هذا وذاك.
يتسلم الشاعر شكل الكلمة القديم، وهي دالة على ما لم يعـد يريده، ثم هو لايجد أداة لقول ما يعتمل به وعيه من حركية وألحان، إلا نفس الكلمات التي ما اضطر إلى الشعر إلا ليتجاوزها، ثم إن الكلمة إذ تنفصل عن سياقها القديم تصبح مستقلة عائمة حتى تهدد بالتناثر، وكأنه إرهاصات الفصام، والشعر هو القادر أن يحيل هذا التناثر الخطر إلى تشكيلات تخليق لغته الجديدة المصورة المتناغمة اقتحاما مبدعا، وذلك بأن يمتطي صهوة الكلمات الطليقة، ليعود بها في سياق تشكيلي إيقاعي بديع ، ينسجه بنفس الكلمات بعد أن تصبح ليست هي نفس الكلمات: فهو الجدل الشعر: يخلِّق الحياة من جديد.
وبعد .. هذا ما مررتُ به أحيانا، أعني ما عانيته، وأنا لست شاعرا
ولأبدأ بهذه القصيدة لعلها تبرئني من اقتراف الشعر
-1-
ياليت شعري .. لستُ شاعرا.
لا أضربُ الدفوفَ فى مواكبِ الكلامْ،
ولا أدغدغ النَّغـَمْ ْ
لا أنحتُ النقوشَ حول أطرافِ الجُمَلْ،
أو أطلبُ الرّضَا.
ولا أقولُ ما يقرّظ الجمالَ
(يمسخه)
أو يُسكر الثوّار بالأمل
(جريمةٌ مزركشةْ)
-2-
تدقُّ بابِي الكلمةْ
أصدّها.
تُغافل الوعي القديمَ،
أنتفضْ.
أحاولُ الهربْ،
تلحقـُـنِي.
أكونُها،
فأنسلخْ.
-3-
أمضي أغافلُ.. المعاجِمَ الجحافلْ،
بين المَخاضِ والنحيبْ.
أطرحُني:
بين الضياع وَالرُّؤى.
بين النبيّ والعدَمْ.
أخلّق الحياة أبتعثْ.
أقولُني جديدا،
فتولًدُ القصيدةْ.
ثم حضرني ما يؤيد ما ذهبت إليه في هذا الخاطر، وهو مقتطفات من قصائد متباعدة (لم تـُنشر منها إلا الأخيرة) وقد رأيت أنه ربما يوضح نفس الفكرة بصورة أدقّ، وإن كانت أكثر إيجازا، وأرخم تركيزا، وأهم بعض ذلك ما يلي:
(1)
"...من ينقذني من صفع الكلمات القاهرة المحفورة،
من ركل حوافر تطعن في الطبقاتِ المستوره"
(من قصيدة: العربة والجنية)
(2)
"... وصراخ أجنة أفكارٍ تبحثُ عن ثوبٍ ما سبقَ لأحدٍ مسَّه
ما وطِأته الأحذيةُ الألسنةُ القتلةْ
[لم تلدُ القطة -بيضاء بغير علامة- قططا رقطاء].
(من قصيدة: العربة والجنية)
(3)
"...تهتز حروف الكلماتُ على طرْف المعنى
تـُهمٍلـُني،
أتضوَّر جوعا.
تتغافلُ عني،
أتراجع، أطفو، أتلاعبْ.
تنساني، أرنو أترقبْ"
(من قصيدة: اللعبة والدوائر)
(4)
".. خـفـتـتْ أضواءُ الكلمةْ،
وتلاشتْ أحرُفـَهَا داخلَ أصلِ الصوتِ النغمهْ.
فانقلبتْ همهمةٌ غامضةُ المغزى،
أذَّن فى الناسِ بلالٌ أخرسْ
(من قصيدة: وجها عملة)
(5)
تحتضنُ الفكرةُ معناهَا
يستأذنُ لفــظٌ:
"يعلنُها؟"
تتأبى، تتململ، تهجعُ في رحم الفجر القادم.
تتملص من قضبان الكلمة
(من قصيدة: البرعم والأنغام)
(6)
يا أسيادي، يا حفَّاظ السرِّ الأعظمْ
يا حملة سر المنجمْ
يا كهنة محراب الفرعون،
يا أفخم من لاكَ الألفاظَ تموءُ كقطَطٍ جوعَى في كهفٍ مظلمْ
هل يأذن حاجبكمْ أن أتقدّم
لبلاطكمو ألتمس العفو
أنشر صفحتيَ البيضاء
أدفعُ عن نفسي
أتكلـّمْ؟
هل أطمعُ يوما أن يُسمح لي، أن يُسمع لي؟
أحكي في صمتٍ عن شيءٍ لا يُحكى
عن إحساسٍ ليس له اسم
إحساسٍ يفقدُ معناهْ، إن سكنَ اللفظَ الميت
....
وفتحتُ فمِي، لم أسمعْ إلا نفسًا يتردَّدْ
إلا نبضَ عروقي
وبحثتُ عن الألف الممدودة، وعن الهاء،
وصرختُ بأعلى صمْتي،
لم يسمعـْني السادة
وارتدَّتْ تلك الألفُ الممدودهْ،
تطعنُنِي في قلبِي
وتدحرجت الهاءُ العمياءُ ككرةِ الصُّلب
داخلَ أعماقِي
....
من قصيدة : "صراخ الأبكم"
(الوحيدة التى نشرت فى ديوان: سر اللعبة)
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
واقرأ أيضا:
اكتمال / قل هو الموت / هوامش نص / كوفاد / ماكانش ساحر..ولا / حتى آخر الصلصال / حيث في كلّ خطوة قمر مكسور