مؤخرا رصدت الصحف والقنوات وصفحات شبكات التواصل انتحار عدد من المواطنين المصريين بأعمار وخلفيات اجتماعية ومناطق سكنية مختلفة فمنهم من أشعل النيران في نفسه، ومنهم الذي تدلى مشنوقا في إطار إعلان ضخم معلق على ارتفاع كبير!! عدا سجلات التحقيقات وإثبات الحالة بالأقسام والنيابات لا يملك المصريون إحصاءا دقيقا بعدد حالات الانتحار غير ما ينشر بوسائل الإعلام، وأرقام الإعلام ليست دقيقة، ولكنها قد تعطي فكرة ما، فهل تعطينا هذه الأرقام الأخيرة أية دلالة نفسية أو مجتمعية في لحظة تاريخية ملتبسة لا يكاد يتضح فيها شئ عن حقيقة مزاج المصريين، أو سلامهم النفسي، أو سكينة أرواحهم!!
مفهوم طبعا أن المصريين لا يأخذون كلهم حكما واحدا، وفي جلسة ضمتني بمجموعة أكثرها من الشباب قال أحدهم: أشعر بفرحة غامرة وزائدة نسبيا مع قدوم هذا الأضحى، وعلل فرحه باحتمال وسبب إعلان خطبة صديق له، وصديقة .. من أقرب الناس إليه!!
بالتأكيد هناك مصريون يستقبلون هذا العيد بغير ما يستقبله هذا الشاب من مشاعر، وأحسب أن بعضا من مشاعر الخوف والقلق والتوتر والألم هي الأغلب عند كثيرين .. والتفكير في الموت مسيطر على عقول قطاع واسع منا، والمفارقة هي في أنني أرى اللحظة تحمل فرصة غير مسبوقة للحياة!! البعض يتعلق بآمال نجاح محاولات من تصدر لتحمل المسئولية، ويملأ نفسه ثقة –تشبه الإيمان بالغيب- في كفاءة وقدرة أجهزة الدولة، وبالأخص القوات المسلحة، وأنا أرى فرصة الحياة في مساحات أخرى لا يكاد يلتفت إليها أحد!
السلطة في مصر وقد قتلت واعتقلت، وما تزال، وفي محاولاتها الدؤوبة لمواجهة تحديات تدبير وإدارة العيش اليومي فهي تبدو مفتقرة تماما للتعاون من الناس، ومصداقية عندهم، ويتيح هذا أمامنا –نحن الناس- فرصة للحركة أحسب أن أغلبنا لا يكاد يراها، فضلا عن أن يستمتع بها ويستثمرها!!
السلطة من هذه الجهة تبدو محتاجة لحركة الناس، وبالتأكيد تحاول تلافي الصدام الواسع مع سعيهم، وأنا هنا لا أتكلم عن السعي والاحتكاك الصراعي، ولكن عن أشكال حركة تنموية وإبداعية وتوعوية .. وكل أشكال إيقاظ الحياة في أرواح تبدو مستسلمة لعوامل الإفناء المتاحة! ومع افتقار السلطة للمصداقية الإنجازية، وحاجتها لحركة الناس تبدو قدراتها على السيطرة التقليدية متآكلة بفعل عوامل بعضها يرجع لتكوينها، وبعضها يرتبط بحجم ومدى وأطياف تنوع ووفرة أعداد المصريين وأنشطتهم، وبعض هذه العوامل يرتبط بما حصل من متغيرات في حياة كل البشر حول العالم فيما يخص الاتصالات، وسهولة الحركة، ووفرة وتبادل الأفكار والخبرات!
طاقة الشباب الأصغر من الأغلبية الساحقة في سكان مصر(أكثر من ستين بالمائة من سكان مصر تحت الخامسة والثلاثين) ما تزال هادرة ومهدرة تنتظر من يستثمرها، وتنتظر من يحتضن بذورا كثيرة متناثرة، ومبادرات كثيرة واعدة ومبدعة لا يكاد أحد يلتفت إليها بعين الرعاية، ولا حتى الإشادة والتقدير!
انكسار شوكة الإسلاميين قد حرم الناس من ظهير شعبي كان يشد من عضدهم في مواجهة السلطة، إلا إن نفس الانكسار قد أزاح من طريق الناس عقبات كثيرة، وقيود لطالما وضعها الإسلام الحمائي (نسبة لتضخم وسواس الحماية) وانزواء تأثير وخفوت أصوات الكهنة الرسميين والشعبيين، وإفلاسهم النضالي والفكري في ملاحقة المرحلة يوفر فرصة غير مسبوقة لميلاد أفكار جديدة، وأطروحات كانت ممتنعة بسبب نفوذهم وسطوتهم المتحالفة مع السلطة بشكل مباشر أو غير مباشر! انكشاف عورات النخب السياسية والفكرية من كافة الاتجاهات، وسقوط الأسماء الكبيرة تاريخيا في انحطاط المواقف، وهاوية التقديرات على أساس من مصالحهم الشخصية الضيقة .. هذا التحطم في الأصنام تباعا أفرغ الساحة، وفتح الفضاءات كلها أمام من يريد طرح وعي جديد، أو بناء أوعية جديدة!!
موجات الهجرة الحالية المتلاحقة إلى بلدان غربية تحمل جموع المصريين إلى فرص جديدة لحل مشكلة العوز والعبودية الاقتصادية التي عاشوها لعقود، وتتيح أمامهم فرصة هائلة للتعلم والتثاقف والتعرف إلى خبرات غيرهم، والتخلص من جهلهم التاريخي المزمن بأحوال الخلق وتجاربهم عبر الدنيا كلها، ومن شأن هذا حال حدوثه أن يحرك الداخل في مصر باتجاه وعي أرقى، وآفاق أرحب من الجحور التي نحبس أنفسنا فيها!
الأحداث الجارية في عالم اليوم تكشف تباعا عن خطوط وعي يتنامى، وروح متمردة على كافة أشكال التسلط والسيطرة والعنصرية والظلم، وقد ظهر هذا جليا في التحركات الرافضة والمواكبة للعدوان الصهيوني الأخير على غزة، والتحركات الواسعة لأرباب الوعي البيئي حول العالم محذرة من الآثار الخطيرة للاحتباس الحراري، وكلها حركات نضالية متمردة على الفساد والتمييز والتلاعب بمصالح وحريات الناس، وإن كنا ما نزال نعزل أنفسنا عن فهم هذه الأفكار والكيانات، وعن التواصل معها!!
يمكننا أن نضع أنفسنا حيث شئنا، وفي الداخل والخارج فرص هائلة للحراك والتحريك، وبإمكاننا أن نستسلم لغوايات السقوط والتردي والانقسام والانهيارات فننتقل من وضع المصائب الحالي إلى مرحلة الكوارث .. والاختيار دوما .. لنا!
السبت, 04 أكتوير2014
واقرأ أيضا:
الليلة والبارحة / أين الخلل ؟ / المجد للطلاب / كسر الصمت عن .. هدر أغلى ما نملك / التربيط / المشروع الثوري ثورة داخل الثورة