من بؤس شعوبنا العربية أنها وهي تتحرك لمواجهة الظلم بحراك سلمي راقي وغير مسبوق ونادر الحصول في تاريخ الإنسانية، عجزت عن فهم ما تمارسه، وغابت عن الوعي بما تنجزه، وبالأساس النظري الذي تستند إليه فيه فكان أن نكصت عنه إلى مهاوي التخبط والعنف وإعادة إنتاج البؤس!!
حين كنت أنزل إلى ميدان التحرير وأعود إلى منزلنا القريب ممتلئا بالفخر والهواجس والتساؤلات،كنت أحس وأدرك أننا بصدد شئ كبير جدا وهش جدا، وأكبر نقاط ضعفه ليست ما قيل وما يقال عن غياب القيادة أو غياب الخطة أو غياب الهياكل التنظيمية، ولكن أن أنصار الثورة تحلق بهم الأحلام وهذا رائع، لكنهم غير مستوعبين حقا لما يقومون به، وما أنجزوه وما جمع الناس حولهم، وبالتالي كيف يمكن أن تستمر حركتهم وتتطور وتحقق خطوات ملموسة في التغيير المنشود!! كان المصريون المتحمسون يهتفون بأشياء لا يكادون يعرفون معالم الطريق من نقطة وقوفهم في الميدان إلى آفاق تحقيقها، وكنت أتصور أن لهذا الذي يحدث آباء ورعاة في التنظير والتأصيل والتنبؤ، ولما كنت من غير أهل التخصص حملت أسئلتي وطفت أبحث لها عن إجابات!!
في كلية السياسة وقفت أتساءل، وعلى المنصة أساتذة بالكلية هم من نجوم الإعلام حينذاك، ومداخلتي تحديدا تتناول التدمير الذي يلحق بالثورة حين تم حشرها في مسار سياسي معوق لن يصل بنا ولا بها .. إلى شيء!! كأنني لم أعلق ولم أتساءل!! وما تلقيت إجابة إلا من أحدهم حين قال: أنا أدرك ما ترمي إليه من أن للثورة نهج آخر ينبغي أن تسلكه، لكن الإمكان الذي أرانا نملكه –يقصد نفسه وزملاءه- هو أن نشتبك مع الجاري من حراك سياسي محاولين تطويره!!
وذكرني هذا بلقاء سابق وقع بعد تنحي مبارك بأسبوعين حين انتهزت فرصة وجود أستاذ النظرية السياسية (من نفس الكلية) في لقاء شبابي انعقد بنقابة الأطباء، وقلت له يا سيدي أنتم تدرسون لطلابكم علما مزيفا أسقطته الجموع التي نزلت في الميدان، بينما طلابكم يملأون الشاشات بهتانا ولغوا يتغطى بأستار العلم والمنهجية، وكلها ليست سوى الأساطير التي يروجها كهنة التيار السائد في العلوم السياسية .. وعلم السياسة الحديث أصلا إنما نشأ لإخضاع المجتمعات والأفراد لهيمنة أجهزة الدولة التي تحولت إلى عصابات مصالح تحكم باسم الديمقراطية بعد أن تم تفتيت كل الكيانات التي يمكن أن تقاوم الهيمنة والإخضاع، وبعد أن تم تحويل البشر إلى أسرى تحت مسمى المواطنة!! لم يدهشني كثيرا أن الأستاذ وافقني وقال: ينبغي أن تتعدل المناهج والنظريات بحيث ندرس للطلاب علم سياسة جديد ينبني على فقه إرادات الشعوب، ويبدو أنه لم يتحقق من هذا شيء!!
عقب الانتهاء من تصوير الحلقة التلفزيونية الفضائية صرخت في الاستشارية الطيبة أستاذة علم الإجتماع: أين أنتم ياسيدتي؟؟ أليست الثورة حركة مجتمع، والمجتمع هو تخصصكم؟؟ وفي مصر ما يربو على العشرين من أقسام الاجتماع تخرج الألاف كل عام!! ابتسمت وقالت لي: إهدأ حتى أشرح لك .. ثم أردفت: الصغار لم يتعلموا شيئا بشكل جيد، والكبار كلهم ضد الثورة!!
وهكذا تركت الثورة لأعدائها يخططون ويتفنون في القضاء عليها، بينما الجمهور منشغل بما يلقى إليه من لعب بلاستيكية ومعارك بيزنطية وتقسيمات وهمية وبهلوانات السيرك يتقافزون على الشاشات يتلاعبون بالعقول المنهكة المسطحة، والناس تثرثر في لغو فارغ، بينما المعرفة التي تلزمهم على الأرفف أو يمكنهم الحصول عليها بضغطة على الزر الصحيح!! كما تركت الثورة للسذج متواضعي الخبرات والمعارف من أشباه السياسيين أصحاب الحناجر والكلمات الرنانة الجوفاء يدمرونها تدميرا، وقد فعلوا !! وما جرى في سورية واليمن وليبيا لم يختلف كثيرا عما جرى في مصر، وتونس تتأرجح، وما تزال موجات الربيع العربي تائهة تبحث عن شاطئ، وما يزال الوعي بها صعب المنال، وما تزال أسئلتها الحقيقية مغيبة لحساب أسئلة البؤس والغيبوبة!
في الإسكندرية كنت على موعد مع الدهشة حين اجتمعت مع كوكبة من الشباب المصري من الجنسين بصحبة أستاذ متخصص في علم الإنسان (الأنثروبولوجي) نناقش مقدمة كتاب فرنسي صدر في 1980، ولم يلق من الحفاوة ما يلقاه مؤخرا حيث ترجم إلى عدة لغات أوربية، وترجم إلى العربية في العام2011.
السعادة الطفولية تملكتني وأنا أقرأ مقاطع مقدمة المؤلف وهو يؤصل لبعض ما أكتب فيه وعنه طوال سنوات تربو على الأربع!! لسبب ما أجهله تماما تزامن اكتشافي للنص المدهش مع استعادة الأصدقاء على الفيسبوك لبوست قديم قلت فيه: ناس كثيرة فهمت إن نجاح الثورة يكمن في نقل أدوات السيطرة / السلطة .. من سيد إلى سيد!! الناس دول كثير قوي ..ولبسوا ولبسونا .. في الحيط!!
المفارقة بقى إن أغلبية كبيرة ممن يعتقدون أنفسهم ثوريين .. محبطين قوي .. عشان قال إيه .. الثورة .. لم تحكم، وبيرددوا كلام الأفسال اللي بيطلعوا يقولوا الكلام ده على الفضائيات!! يعني الثوريين دول محبطين إن الثورة .. لم تسيطر .. على أدوات السيطرة!!
مع إن طول الوقت في الرواية التاريخية تبقى الفاشية مسيطرة على أدوات السيطرة، ودور الثورة .. المرة دي ممكن يكون أكبر من مجرد نقلها من سيد إلى سيد!! فإذا بالنص المدهش يفاجئني بما أحاول شرحه من أن ثورتنا نجحت حين سكنت الأشياء الصغيرة، وربما ما تزال هناك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!
8/11/2014
واقرأ أيضا:
فرصتنا للحياة / عقوبة أم نعمة / أنغام معركة الأمل / أحاديث الإسكندرية