السلوك العنيف العدائي الموجه ضد الآخرين في اضطراب الاكتئاب لا يجهله أي ممارس في مجال الصحة النفسية. الحديث والبحوث في هذا السلوك مع اضطرابات الشخصية والفصام لا يخفى على أحد وعملية تقييم المخاطر Risk Assessment في الممارسة المهنية أصبحت يومية ولا يجرأ أي طبيب على عدم القيام بها وتدوينها ومشاركة الآخرين بنتائجها في كل مرة يقابل بها المريض.
ولكن الحديث عن السلوك العنيف الموجه ضد الآخرين في اضطراب الاكتئاب طقس محرم إلى حد ما، وبدلاً من مناقشته بصورة علمية واستحداث الإرشادات والتوصيات لمراقبته اتجه الطب النفسي إلى إسقاط اللوم على العقاقير المضادة للاكتئاب. خير ما يوضح تحريم الحديث عن العنف مع تشخيص الاكتئاب هو رد فعل الإعلام والعاملين في مجال الصحة النفسية بعد نشر دراسة علمية الشهر الماضي من السويد لا غبار على منهجها العلمي والأسلوب الإحصائي وتحت إشراف جامعة "أكسفورد البريطانية".
لم تكن هذه الدراسة ممولة من قبل شركات الأدوية وإنما من منظمة خيرية عالمية مشهورة مقرها لندن يلجأ إليها العاملون في جميع العلوم سنوياً من أجل الفوز بتمويل لبحث علمي وتدعى بـ Welcome Trust. على ضوء ذلك لا يجرأ أحد على القول بأنها دراسة متحيزة من جراء تمويلها.
تم إجراء البحث على مدى تسعة أعوام ما بين 2001 إلى 2009. حرص فريق البحث على عزل جميع العوامل الخارجية التي قد تؤثر على العملية الإحصائية ومنها (تاريخ عنف عائلي واستعمال المخدرات)، وكانت النتيجة واضحة للغاية وهي أن الجريمة في الإنسان المصاب بالاكتئاب وبعد التشخيص تزداد بشكل كبير (ثلاثة أضعاف) مقارنة بالآخرين. كانت التوصية بأن الإرشادات السريرية يجب أن تتضمن تقييم لهذه الخطورة في الممارسة المهنية.
ماذا كان رد الفعل؟
لم تثر الدراسة إعجاب الإعلام والكثير من العاملين بالصحة النفسية وبدلا من دراستها بصورة موضوعية خالية من التحيز تم إصدار التعليقات العاطفية واتهام الفريق بإضافة وصمة عار أخرى إلى سجل وصمات الاضطرابات النفسية. هناك العديد من التعليقات ومنها: بأن الدراسة تتحدث عن إدانة الفرد وليس عن ارتكابه الجريمة، والبعض الآخر على أن المريض بالاكتئاب يسرع إلى الاعتراف بجرمه مقارنة بالآخرين. هذه التعليقات العاطفية تتميز بغياب النهج العلمي في انتقاد البحوث العلمية.
وماذا حدث بعد ذلك؟
بعد أربعة أسابيع من الهجوم الإعلامي (24 مارس) على الدراسة أعلاه أقلعت طائرة ايرباص A 320 لجرمان وينكس Germanwings رحلة 4U 9525 من برشلونة إلى ديسلدروف. وصلت الطائرة إلى ارتفاع 38 ألف قدم وتم تعيين مسارها التلقائي نحو الهدف وخرج كابتن الطائرة إلى استعمال دورة المياه. أغلق مساعده الباب ومنعه من العودة وبدأ يهبط تدريجيا ليحطم الطائرة في جبال ألبز التي طالما زارها سابقاً ليقتل جميع الركاب.
أيام معدودة وتم اكتشاف سر مساعد الطيار "أندرياس لوبتز" الذي أصيب بأول نوبة اكتئاب جسيم قبل 6 أعوام، وزاره الاكتئاب ثانية قبل أسابيع وتم منحه إجازة مرضية. لم يخبر شركته بمرضه ولم يجرأ الطبيب على إعلام الشركة بحالة مريضه الذي لم يكن مؤهلاً لقيادة الطائرة بل وحتى قيادة سيارة. لو فعل الطبيب ذلك لتم وقفه عن العمل بتهمة عدم ائتمانه على سر المريض.
أما لو كان الطيار مصابا بالصرع لما تردد الطبيب في إعلام السلطات بأن مريضه لا يصلح لقيادة أية سيارة فكيف بقيادة طائرة؟!.
وماذا عن العقاقير المضادة للاكتئاب؟
شغل الطب النفسي وخصومه بقضية السلوك الانتحاري والإجرامي من جراء استعمال مضادات الاكتئاب والسلوك الانتحاري والإجرامي. جميع هذه النشرات تفتقد لقوة إحصائية ومعظمها وصف لحالة مرضية. ولكن في الممارسة المهنية وعند تدقيق حالات الانتحار والجريمة سواءً في الاكتئاب أو الذهان يتوصل فريق التحقيق إلى استنتاجات أصبحت في غاية التكرار منها:
٠ عدم علاج المريض بسرعة.
٠ عدم وصف العقاقير بصورة صحيحة.
٠ عدم تعاطي المريض العقار.
هذه النتائج على عكس ما ينشره الإعلام بتوجيه الاتهام إلى العقاقير المضادة للاكتئاب وخاصة في قضايا قانونية لتعويض الضحايا ضد شركات الأدوية.
وماذا عن الموقع؟
٠ علاج الاكتئاب ضرورة ليس لحماية المريض بل وحماية الآخرين. على ضوء ذلك لابد من الإشارة إلى تقييم المخاطر بصورة واضحة.
٠ العلاج بالعقاقير وبأسرع وقت يجب أن تكون التوصية الأولى وبعدها التوصية بعلاج كلامي لتثبيت التحسن ومنع الانتكاسة.
المصادر:
1- Faze S, Wolf A, Chang Z, Larsson H, and Goodwin G, Lichtenstein P (2015): Depression and Violence: a Swedish Population Study. Lancet 3: 224-232.
2- Reynolds S (2015): Why linking depression to violent crime could be a red herring. The Guardian 26 February 2015.
واقرأ أيضاً:
علاج الاكتئاب بالعقاقير بين العلم والفن / الاكتئاب / الحواجز المانعة للشفاء من الاكتئاب