لا يستطيع المرء إخفاء هاجس قوي يؤرقني بأننا في مصر مقبلون على نكسة قاصمة وهزيمة جديدة أخرى كنتيجة طبيعية انطلاقًا من مقدمات كارثية من احتراف الكذب وتسويق الأوهام للشعب عبر ماكينة إعلام السلطة الحاكمة، في استنساخ يكاد يكون مُطابق للحقبة الناصرية في الخمسينيات والستينيات؛ حيث نعيش إرهاصات نكسة تلوح في الأفق، لتستيقظ الأمة العربية والإسلامية على كابوس مشابه لنكسة 5 يونيه 1967 المُذلة فيما سُمي حينها بحرب الأيام الستة احتل العدو الصهيوني خلالها شبه جزيرة سيناء والجولان السورية والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة وما تبقى من الأرض الفلسطينية.
انتهجت دولة 23 يوليه الناصرية العسكرية نهج الحكم الشمولي الديكتاتوري الذي لا يؤمن بتداول السلطة أو الحريات أو المعارضة، فكان الزعيم الأوحد والحزب الأوحد والصوت الأوحد والإعلام الأوحد الموجه (إذاعة وتليفزيون وصحف تحت التأميم وأفواه مُكمّمة تحت الرقيب العسكري)، واقتصاد موجه (اشتراكي)، وقضاء مُسيّس إلا من رحم ربك، فدفعت مصر والأمة العربية والإسلامية كلها ثمنًا فادحًا، ودرسا قاسيا نتيجة للعنتريات الناصرية الصبيانية، والخطابات الحنجورية الفارغة، على وقع هزيمة مروعة على كافة الأصعدة، عنوانها الأكبر هو الاستبداد، أصل كل داء.
في الحقبة الناصرية العسكرية خدعونا بأسطورة الجيش المصري العربي القومي حائط الصد لكل جيوش المنطقة العربية، بل والمقهورين في أفريقيا وآسيا من حركات التحرر الوطني، فنقرأ في صحف ناصر قواميس من الأكاذيب الصارخة من عينة صاروخ الرائد الذي يبلغ مداه 1000 كم والذي يستطيع اختراق نطاق الجاذبية الأرضية إلى الفضاء الخارجي، ونقرأ أيضًا: انتصار علمي وعسكري ضخم للجمهورية العربية المتحدة؛ حيث تمت تجربة أول طائرة مقاتلة صُممت وصُنعت في مصر تفوق سرعة الصوت مرتين، السر الكبير الذي حفظته القاهرة حتى تحقق، هكذا قال الخبر، وياللهول!.
وقرأنا على صدر صحف الديكتاتور مانشيتات مضحكة من عينة: قواتنا تتوغل داخل إسرائيل، والجيش العربي يزحف إلى تل أبيب، وأسقطنا العشرات من طائرات للعدو، والعدد في زيادة والبركة في بيانات مكتب المشير عبد الحكيم عامر، إلى ما هنالك من البيانات العسكرية التي كانت تذيعها إذاعة صوت العرب بالأمر المباشر عن أمجاد العرب والجيش المصري الذي لا يُشقّ له غبار!.
أما في الحقبة السيساوية العسكرية أيضًا، فلقد تخطينا مرحلة الكذب إلى الأحلام وتسويق الأوهام، فنقرأ أن مصر خالية من الإرهاب خلال أيام، وتمر الأسابيع والشهور لنقترب من العامين دون تحقيق أهم هدف وهو الأمن والأمان، وأن مصر مقبلة على رخاء اقتصادي غير مسبوق وتفجر ينابيع الخير التي تجعلنا في مقدمة أغنى دول المنطقة قريبًا، وسط ادعاء الجنرال الحاكم الدائم بأن (مصر أم الدنيا وحتبقى أد الدنيا) ولم نرَ شيئا غير الضنك والفقر ولم نرَ غير سياسة التسول ومد اليد للعدو قبل الصديق.
خدعونا بأن الجيش المصري خارقٌ للعادة، وعابر للقارات بصولاته وجولاته، فخرج علينا أحد هؤلاء الدراويش بلباسه العسكري السامي ليزف إلينا وللعالم أم الاختراعات، ودرّة الاكتشافات العلمية، وهو جهاز علاج مرضى فيروس سي فضلاً عن مرض الإيدز فيما عُرف وقتها بعلاج "الكفتة"، وإذ بنا نكتشف "الفنكوش الكبير"؛ حيث لا يعدو كونه أحد أهم تجليات حكم العسكر في تسويق الأوهام واحتراف الكذب، وسيظل هذا الاختراع الأضحوكة عالقًا في الذاكرة كأحد أكبر مساخر الانقلاب والحكم العسكري عامةً، المضحكة المبكية في آن واحد.
وبما أننا نسير على خطى شهريار زمانه "الخديوي إسماعيل" في البذخ والترف والإسراف من خزينة الدولة الخاوية على مظاهر الأُبهة الفارغة، والذي فتح الباب أمام التدخل الأجنبي الذي أفضى بالتبعية إلى الاحتلال الفعلي، بما يُظهر مدى التناقض والازدواجية في التعاطي مع الركود الاقتصادي المريع الذي يشهد به العدو قبل الحبيب، ودعوات شد الحزام، والطنطنة على مصطلحات من عينة "مفيش" و"معنديش"، فضلاً عن توجيه دعوات أبواق إعلامية تابعة للنظام مؤخرًا للشباب بضرورة السفر للخارج وعدم الاعتماد على الحكومة (المفلسة).
تعكف الدولة السيساوية على تفريغ خزائن الدولة الفارغة أصلاً بفعل النهب والسرقة، على افتتاح قناة السويس الجديدة أغسطس القادم، وإنشاء صندوق جديد لتمويل الحفل الأسطوري؛ حيث ذكرت مصادر صحفية عن إنشاء 20 نصبا تذكاريا بارتفاعات مختلفة، لا تقل عن 30 مترًا، تُعبّر عن تاريخ مصر بمراحله المختلفة، وتزيين المجرى الملاحي للقناة (برا وبحرا وجوا) في محافظات القناة الثلاث (الإسماعيلية والسويس وبورسعيد).
هذا في الوقت الذي يعلن فيه بعض الخبراء وعلى رأسهم أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة د.حازم حسني عدم جدوى المشروع اقتصاديًّا، لأنه كان موجودًا بالأساس لدى هيئة القناة وتم رفضه لتكلفته العالية، وأن العائد منه غير مجدِ.
الأخطر من ذلك كله أن هذا المشروع الأسطوري كما يروج النظام وإعلامه، قد يكون مقدمة لاحتلال سيناء مرة أخرى قريبًا؛ حيث نشر الدكتور محمد الإبياري، رئيس قسم الجيولوجيا بجامعة حلوان، بحثًا يؤكد فيه أن مشروع القناة يخدم إسرائيل لأسباب عدة، أهمها أن احتلال سيناء في المستقبل لن يُمكّن مصر حينها من استعادتها مرة أخرى، لأن المشروع فصل سيناء عن مصر نظرًا لاتساع عرض القناة.
وأكد "الإبياري" في بحثه: أن "المشروع الجديد عند إضافة مساحته العرضية إلى عرض القناة الحالي سيكون 313 مترًا، وهو عرض يستحيل معه وضع رؤوس جسور على طول القناة من الجانبين، وذلك لقوة الأمواج، وبالتالي فإن هذا المشروع يخدم دولاً على الجانب الآخر من القناة (ويقصد إسرائيل بالطبع) ربما تطمع في احتلال سيناء يوماً ما".
ما أشبه الليلة بالبارحة وكأن التاريخ يعيد نفسه ويأبى إلا أن يُفزعنا بهزيمة جديدة تُضاف لسجل هزائم العسكر في الحكم، ونكسة محققة على كل المستويات لا أتمناها بطبيعة الحال لبلادي حتى وإن اختلفت مع الحاكم العسكري الذي يختطف الوطن، لكن المقدمات السيئة تدل على النتائج الكارثية، فالسيسي يسير على خطى عبد الناصر في تكرار الأخطاء والسيئات من وأد للحريات والقتل والاعتقال والتعذيب للآلاف القابعين في المعسكرات والسجون.
ذلك أن أي نكسة ميدانية جديدة ستكون قاصمة ماحقة لن يتعافى منها الوطن سريعًا مع عشرات من الأجيال القادمة التي سيُكتب لها البؤس لسنوات طوال إذا ماكتب الله لهذا الانقلاب الاستقرار جاثمًا على مقدرات البلاد والعباد أكثر من ذلك، لكن العاصم الوحيد من تلك النكسة بعد الله هو بقاء جذوة الثورة في نفوس الأحرار حتى النصر.
واقرأ ايضاً:
الاستبدادية الإعلامية/ الدم الرخيص/ إقبال المصريين على مشروع القناة