عندما قامت ثورة 1919 في مصر لم تقم لحل أزمة وقتية ما في مصر، بل قامت من أجل مستقبل مضيء لمصر وشعبها، فلم ترفع شعار التعايش مع المحتل البريطاني أو تحقيق الممكن، بل رفعت شعار "الاستقلال التام أو الموت الزئام"، وهم يعلمون تماما أن طريق الثورة طريق طويل وشاق، وأنهم إن جلسوا يوما ما على مائدة التفاوض للتفاوض مع المحتل، لن يتفاوضوا على تحقيق الجلاء من عدمه ولكنهم سيتفاوضون على ترتيبات الجلاء وتوقيتاته.
وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية وأسست منظمة التحرير الفلسطينية لم تقم لحل أزمة وقتية للشعب الفلسطيني أو تحسين ظروفه المعيشية، بل قامت من أجل تحرير فلسطين المغتصبة، فلم ترفع شعار التعايش مع المغتصب الصهيوني، بل رفعت شعار "ثورة حتى النصر"، وهم يعلمون تماما أنهم إن جلسوا يوما ما على مائدة التفاوض، للتفاوض مع المغتصب، لن يتفاوضوا على استرداد الحق من عدمه ولكنهم سيتفاوضون على ترتيبات استرداد ذلك الحق.
لقد مرت الثورة المصرية بمراحل متعددة من الصراعات مع قوى الهيمنة الدولية والمحلية، والتي مرت بعدة محطات هامة، منها ثورة 1952، واتفاقية الجلاء، ومرحلة تصدير الثورة أو الثورة العربية الشاملة، ثم كارثة 1967 فكارثة كامب دافيد، لتنتهي بالتبعية التامة، وهي الاحتلال غير المباشر، والذي أوصل مصر لحالة من الفساد الشامل، فساد أوجب ثورة الشعب ليستكمل تحرره وامتلاك مقدراته، فكانت ثورة ينابر 2011.
عندما بدأ الحراك الشعبي في 25 يناير 2011، وقف المصريون في الداخل والخارج في ذات الخندق يتطلعون إلى تحقيق حلم الاستقلال التام الذي قُوض على أيدي الثورة المضادة من العسكر والدولة العميقة بدعم شامل من المنظومة الدولية والإقليمية دفاعا عن سيطرتها وفرض التبعية حماية لمصالحها التي يرعاها المغتصب الصهيوني.
وعندما وقع الانقلاب في 3 يوليو 2013، انقسم معارضيه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول رأى أنه من الحكمة الاستسلام التام والتعايش مع الانقلاب لأنه الأقوى ومحاولة تغيير الأوضاع من داخله، والقسم الثاني رأى أنه من الضروري رفض الانقلاب ومقاومته سلميا والتمسك بالشرعية لأنها هي النهج المبدئي الوحيد الذي يضمن للثورة الحياة بين المتغيرات الإقليمية والمنظومة العالمية ويمثل تثبيتا لحق الشعب في الاختيار ورفض شرعنة الانقلاب والقبول بنتائجه، والقسم الثالث رأى أن رفض الانقلاب مع عدم التمسك بالشرعية يعطي فرصة أكثر واقعية لتحقيق شيئا ما يحقق حياة أفضل للمصريين، حتى وإن تأخر تحقيق أحلام الثورة.
واستمر الحراك السلمي الرافض للانقلاب، وكلما طالت المدة ازدادت الثورة صمودا وتحول حلم يناير إلى حلم الثورة الشاملة، إلا أن الأمر لم يخلو من تراجع البعض بدعاوي مختلفة، منها أفكار تدعوا لإيجاد حل لتحسين الظروف المعيشية للشعب الذي يعاني على الأرض، ومنها إيجاد البديل المقبول من المنظومة الدولية. وهذا ما يعرف باسم فريق الاصطفاف التام، وهو يدعوا للاصطفاف مع كل من رغب تحت راية إسقاط رأس الانقلاب، بلا مبادئ ولا معايير محددة، ويرون ضرورة التعايش مع الدولة العميقة والمنظومة الدولية حتى يتم التخلص منها في المستقبل، والعجيب في الأمر أن ذلك الاتجاه هو من انتقد د. مرسي والإخوان لعدم استكمال الثورة والمهادنة مع الدولة العميقة والمنظومة العسكرية.
لقد ذكرني ذلك الحوار بمنظمة التحرير الفلسطينية، عندما تصورت أن دورها إيجاد حل أزمة وقتية للشعب الفلسطيني، فانحرفت عن مسارها وانجرفت لطريق الاعتراف بالأمر الواقع تحت شعار تحقيق الجزء الممكن الذي قد ترضى به المنظومة الدولية، وتأجيل الثورة الشاملة المنشودة، فلم تحقق الجزء الممكن بل قتلت الثورة، ولم تحد من معاناة الشعب الفلسطيني بل تحولت إلى منقذ للمغتصب من أزمته وزادت من معاناة الشعب الفلسطيني.
إن أي تراجع عن الثورة الشاملة سيمثل استسلام وردة لما قبل 25 يناير 2011، استسلاما لمنظومة الدولة العميقة التي تعتمد على بطش القوى العسكرية في الحفاظ على سيطرتها، وإسقاطا لحقوق الإنسان المبدئية من العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومساهمة منا في منع شعبنا من تحقيق الحلم، وكفرا بالإرادة الشعبية التي تملك القدرة على الصمود وانتزاع حقوقها.
بالنسبة للمجلس الثوري المصري وبالنسبة لي، فالأمر واضح لا خلاف عليه والرؤية محددة في الثورة الشاملة، والمبادئ المستقبلية التي رسمتها وثيقة حماية الثورة التي رسمت صورة شاملة لمجتمع مصري سوي نحلم به ووضعت الخطوط العريضة لكيفية تحقيق ذلك المجتمع بعد إسقاط الانقلاب. في ذات الوقت لا نسمع من أي من القوى الأخرى سوى أنغام الاصطفاف التام وتأجيل كل الأمور، بدعوى العودة لـ 11 فبراير 2011، وحينها تتوه الأمور بين نخبة فاقدة للرؤية وعسكر متمسكين بالدور المرسوم لهم، وهذا ما سيؤدي حتما لقتل الثورة واستقرار الأمر لدولة مبارك الفاسدة بدون شخص مبارك.
إن من يدعون للاصطفاف التام بلا رؤية ومن يدعون إلى إخراج رأس الانقلاب، واهمون بأنهم يخففون العبء عن الشعب ويحلون أزمة وقتية، بينما هم في الحقيقة يساعدون النظام على الخروج من أزمته.
واقرأ أيضاً:
لا تجهضوا الثورة / مبروك لمصر، ولكن المعركة طويلة / أمن المنطق أن نؤيد الانقلاب...!