الفصل الرابع(5)
السؤال الثالث: كَيْفَ تصبح برامج التدريب على تأكيد الذات مفيدة ومؤثرة؟ وما هو المدى المطلوب لتنفيذ تلك البرامج؟
بالطبع فغالبا ما تحتاج لبعض الوقت لتحقيق تلك التدريبات ولكي تؤتي ثمارها. فهي عملية دائمة مستمرة. والمدى القريبِ الأول الوحيدِ لتلك التدريبات هو ذلك الجزءِ الرسميِ، والذي يهدّفُ إلى حل المشكلةِ الأوليةِ ويُعلّمُك المهاراتَ التي تساعدك على الاستمرار في تدريب نفسك على تأكيد ذاتك.
والنَتائِج الأولية لبرامج تأكيد الذات قَدْ تَتواْلي بإنصاف وبسرعة، لَكنَّهم يَخْدمونَ فقط كبِداية لبرنامجِ تأكيد الذات. كما تَبْدأُ بالرَبْط بين المواقف المختلفة والنماذج المختلفة من البشر، مع تقبل الاختلاف مع الآخرين دون حساسية مرضية، كما تَبْدأُ بالتَصرُّف بشكل مفتوح أكثر مع الآخرين، ويصبح الناس أقرب إليك. كما تَتعلّمُ الدِفَاع عن نفسك، وعن حقوقك؛ وذلك مع تعلمك أن الناس لديهم ردودُ أفعال مختلفةُ بالنسبة لك؛ وهذا سيعرضك إلى سلسلة مواقف جديدة في الحياة، والتي ستجعلك قادراً على المواجههُ والَتغيّر والنمو والتطور، وكنتيجة متوقعة، سيصبح لديك أفكارُ أوضحُ حول الذي تُريده ُ وتَحتاجه من الحياةُ. هذه التغييراتِ لا تَحْدثُ في يوم وليلة، ولكنها تحتاج إلى الكثير من الوقت والمجاهدة والصبر. ولن يمكنك أبداً الوَصوِلُ إلى درجة، أو قل إلى مستوى تقول عنده "لقد وصلت إلى ما أصبو إليه"، فهناك دائماً درجة ومستوى أعلى في مجالي النمو والتطور.
أما العقبات والصعوبات فسَتَحْدثانِ ولا محالة، لكن بمهاراتِ تأكيد الذات في قيادتِك، فأنت قادر على تجاوز تلك العقبات أَو معالجة تلك الصعوبات على الأقل. وهنا يأتي دور العزيمة والإرادة والإصرار على تأكيد الذات، فمن يحقق شيئا فهو يحققه لإيمانه بالقدرة على تحقيقه، وأي أمر لا تستطيع فعله في الحقيقة أنت تستطيع عمله لكن إذا غيرت تفكيرك وقناعتك، ومن المعروف أن ما يدركه ويؤمن به عقل الإنسان يمكنه أن يحققه؛ فللاعتقادات قوة كبيرة، وإن استطعت أن تغير اعتقادات أي شخص فإنك تستطيع أن تجعله يفعل أي شيء. ونحن كي ننجح لابد أولا أن تؤمن بأننا نستطيع النجاح.
السؤال الرابع: أليس عادة ما يكون هناك شخص ما -في السباق ِ أمام الجماهير- متولياً القيام بدور المناورة؟
الإجابة: نعم، يكون ذلك في المحاولاتِ التي تتم لتَعليمك السَيْطَرَة على نفسك، وتأكيدك ذاتك، فأَنْت تتعلم ألا يُسيطر الآخرون عليك.
السؤال الخامس: هَل من الممكن أن يصبح تغيير أسلوبك في الحياة، وذلك بعد تدريبك على برامج تأكيد الذات؛ سبّباً في وضع العراقيل أمامك؟ كطلاقك مثلا؟ أو قد يَجْعلُك تفَقْد عملك؟ أَو أن يكون سبباً في هجر بعض الأصدقاء والأقارب لك؟
الإجابة: نعم. وذلك إذا كان عِنْدَكَ أسلوبُ حياة غير مرض لك وأنت تريد أن تُغيّرُه، فلابد وأن يثير الوضع الراهن العراقيل في طريقك. على سبيل المثال: رجل لَرُبَّمَا تَعوّدَ على العَيْش مع زوجة تدميرية، شديدة التقلب، فالعصبية والسباب المرتفع هما شيمتها الغالبة، مع شكها المستمر، ليس في زوجها فحسب، بل حتى في أخوانها وأخواتها وأبويها، أما عن غيرتها المرضية على زوجها فحدث عن ذلك ولاحرج، وفوق كل ذلك ترفض مبدأ العلاج من عصبيتها وشكها!!، من الطبيعي أن ينشأ عن هذه التركيبة المعقدة من الاضطرابات النفسية سلوكا فظا لا يطاق ولا يحتمل من هذه المرأة نحو زوجها، ذلك الزوج الذي طالما اعتاد على سَيْطَرَة زوجتِه عليه مستكينا مستسلما، ولكنه غير راض عن ذلك الوضع في قرارة ذاته، مما دفعه إلى طلب الدعم النفسي من أحد الأطباء النفسيين، والذي عرض عليه فكرة العلاج بتأكيد الذات، ولقد أخبره الطبيب المعالج بأن هناك ثلاثة احتمالات بعد ممارسة تدريبات توكيد الذات:
(1) كل شريك يُرحّبُ بالتغيير، وقد تحاول هذه الزوجة طلب المساعدة النفسية أيضا كي تصبح أقل عصبية وتسلطا وغيرة، وكما قيل: "الذي يمكن علاجه يمكن تحمله".
(2) الشريك الغيور الفظ المتسلط قد يَتغيّرُ إلى الود والتراحم وتحكيم عقله في أمور الحياة، عندما يجد الشريك الآخر مصرا على تأكيد ذاته، وعدم التنازل عن حقوقه، ولو أدى ذلك إلى الطلاق والانفصال، وأذكر هنا مثلا شائعا: "ما الذي فرعنك يافرعون، قال لم أجد من يصدني"، ولقد أكد سبحانه وتعالى نفس المعنى في قرآنه فقال: "فاستخف قومه فأطاعوه إنه كانوا قوما فاسقين" ، الآية 54 من سورة الزخرف.
(3) الشريك قَدْ يَكُون غير راغبَ أَو غير قادر على القيَاْم بالتغييراتِ الضروريةِ للتوافق مع شريك حياته، وعندئذ سيكون الحل الأخير هو الانفصال أو الطلاق؛ فموقفكَ الجديد المؤكد لذاتك قَدْ يَُرْبحك العديد مِن الفوائدِ، لَكنَّك يَجِبُ أَنْ تَدْفعَ ثمنا ما، وقد يكون غاليا، كي تستعيد ثقتك بنفسك مع إحساسك بتأكيد ذاتك. وسأتوقف هنا قليلا كي أشرككم هذه القصة التاريخية الطريفة، والتي فيها من تأكيد الذات والاعتزاز بالنفس، واحترام حقوق الغير ما يجعلنا نجل ونحترم بطلها:
استقامة أحمد بن طولون كانت سببا في وصوله إلى حكم مصر
حكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر أن طولون لم يكن أبا لأحمد ولي عهده وخليفته في حكم مصر، وإنما تبنى طولون مولاه وخادمه أحمد؛ وذلك لتدينه وحسن صوته بالقرآن وظهور نجابته وصيانته لجوارحه منذ صغره، وقد اتفق أن بعثه طولون ليأتيه بشيء من دار الإمارة، فذهب وإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة فأخذ حاجته التي أمر بها وكر راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، وتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى فجاءت إلى طولون فقالت إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الأمراء ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب "أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إلى"، فذهب بالكتاب من عند طولون وهو لا يدري ما فيه، فاجتاز بطريقه بتلك الحظية فاستدعته إليها، فقال إني مشغول بهذا الكتاب لأوصله إلى بعض الأمراء.
قالت هلم فلي إليك حاجة، وأرادت أن تحقق في ذهن الملك طولون ما قالت له فحبسته عندها ليكتب لها كتابا ثم استوهبت من أحمد الكتاب الذي أمره طولون أن يوصله إلى ذلك الأمير، فدفعه إليها فأرسلت به ذلك الخادم الذي وجده أحمد معها على الفاحشة، وظنت أن به جائزة تريد أن تخص بها الخادم المذكور، فذهب بالكتاب إلى ذلك الأمير، فلما قرأه أمر بضرب عنق ذلك الخادم وأرسل برأسه إلى الملك طولون فتعجب الملك من ذلك وقال: أين أحمد؟ فطلب له، فقال: ويحك أخبرني كيف صنعت منذ خرجت من عندي؟ فأخبره بما جرى من الأمر، ولما سمعت تلك الحظية بأن رأس الخادم قد أتي به إلى طولون أسقط في يدها وتوهمت أن الملك قد تحقق الحال فقامت إليه تعتذر مما وقع منها مع الخادم، واعترفت بالحق وبرأت أحمد مما نسبته إليه، فحظي عند الملك طولون وأوصى له بالملك من بعده!!.
وصدق الله العظيم حين يقول: "ومن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، ويقول أيضا ومن يتقي الله يجعل له من أمره يسرا".
والآن نعود إلى بعض الأسئلة والأجوبة المتعلقة بتأكيد الذات:
السؤال السادس: هَل بالإمكان أَنْ تُصبح مؤكدا لذاتك جدا، لدرجة الغرور، أو لدرجة التعدي على حقوق الآخرين؟
الجواب: "لا"؛ فجزء من تعريفِ تأكيد الذاتِ هو أن يكون ذلك السلوكِ ملائمَ وبأسلوب لبق. فإذا كان كذلك، فهو لا يَُعطي انطباعا عن َ كونه "مؤكدا جداً لذاته"، وفي تلك الأثناء يبدأ الشخص المؤكد لذاته في التخلص من تلك الروحِ الخجولةِ السابقة. إن برامج تأكيد الذات تعلّمك كَيفَ تَعِيشُ على نحو خلاق في مجتمع معقّد وقلق، وذلك بتدريب نفسك على المهاراتِ التي تحتاجها لِكي تَكُونَ الرجلَ أَو المرأة اللذان يُواجهان ويُرحّبانِ بالتحديات. وأُكرّر: كما اكتسبت من الظروف المحيطة بك وبنفسك لِكي تَكُونَ عُصَابياَ، يُمْكِنكُ أَنْ تُعلّمَ وتدرب نفسك كي تَكُونَ طبيعياَ. ولكن بشرط: "إذا أردت أن تعمل وتنجح فلابد أن تهدأ وتصبر وتُثابر".
هند بنت المهلب والحجاج بن يوسف الثقفي:
كانت هند بنت المهلب من جميلات عصرها، بل ومن أرجح النساء عقلا، وأكرمهن نسبا في عصرها كذلك، وإخوانها عشر من الذكور كلهم من القادة والمجاهدين، وأبوها من فاتحي دول المشرق الأوائل، في صدر العصر الأموي، وجدها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوالها: الطاعة مقرونة بالمحبة، فالمطيع محبوب وإن نأت داره، والمعصية مقرونة بالبغض، فالعاصي ممقوت وإن مسك برحمة ونالك بمعروف، وقد حبس الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أخاها لكبره وتسلطه على الرعية، فدخلت عليه هند و سألته: يا أمير المؤمنين علام حبست أخي؟ قال: تخوفت أن يشق عصا المسلمين، فردت على الخليفة قائلة: فالعقوبة بعد الذنب أم قبل الذنب؟!!، وكان الحجاج قد مات قبل ولاية عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد قال عمر بن عبد العزيز فيه: "لو جاءت أمم الأرض كل أمة بظلمها وبطشها، وجاءت أمتنا بظلم وبطش الحجاج وحده لرجحت"، ويشاء الله أن تكون هند إحدى زوجات الحجاج في مقتبل عمرها، بل وتحمل منه، فيطير صوابها، وتجلس تعزي نفسها وهي تتلمس بطنها، وتردد البيتين التاليين:
وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها بغل (تقصد أنها حملت من الحجاج)
فإن ولدت فحلا فلله درها وإن ولدت بغلا فوالده البغل
فسمعها الحجاج فطار صوابه، وأرسل إليها من يبلغها أنه قد طلقها طلاقا بائنا لا رجعة فيه، وذلك نكاية فيها، حيث لم يبلغها هو بنفسه، وإنما أبلغها ذلك الطلاق واحد من خدامه، فقال لها رسوله:
"كنت فبنت"، فردت عليه بقول يدلك على قوة شخصيتها مع فصاحتها:
" كنا فما سعدنا، وبنا فما أسفنا ".
ثم أعطت الرسول مؤخر صداقها ابتهاجا ببشارته السعيدة، وهي مفارقة الظالم الباغي لها.
ويشاء الله أن يعوضها خيرا، بل وينتقم لها من الحجاج فقد أرسل الخليفة من الشام خاطبا لها فأجابته:
"إن الإناء قد ولغ فيه كلب" وذلك إشارة إلى زواجها من الحجاج، وحتى لا يعيرها الخليفة فيما بعد بذلك الزواج السابق، والذي تكره ذكره، فاشتد إعجابه بها أكثر وازداد تمسكه بها، فاشترطت على الخليفة أن يقود الحجاج بنفسه هودجها من العراق إلى دمشق، ففعل الحجاج ذلك بأمر الخليفة، (لاحظ هنا شخصية هذا النوع من عُبَّاد السلطة، الذين هم قد يركعون ويسجدون لمن هو أعلى منهم سلطة، بينما هم لا يتورعون عن حبس وقتل وتعذيب من يشتبهون فقط في أمره أو يخالفهم في أتفه الأشياء، ويقال أن الحجاج عند موته كان في سجنه بالعراق فقط مائة ألف مسجون، غير مئات الألوف الذين قتلهم و عذبهم في حياته)، وفي الطريق إلى قصر الخليفة بدمشق تتعمد هند أن تلقي دينارا على الأرض وهي فوق جملها في هودجها، ثم تخاطب الحجاج قائلة:
"أيها الجمال وقع مني درهما على الأرض فناولنيه!!"
وينظر الحجاج في الأرض فلا يجد إلا دينارا فيناوله لها وهو يقول لا أرى إلا هذا الدينار.....
فتقول له: "الحمد لله سقط منا درهم فعوضنا الله عنه بدينار" (وكأنها تقول له إن الله أبدلني من هو خير منك ألف مرة). فتفحم واسود وجه الحجاج باقي الطريق!.
حقيقة يالها من سيدة قوية حازمة مؤكدة لذاتها، لم ترض الاستمرار في معاشرة رجل ظالم، ولم تكن راضية عن حملها منه، لأنها تخشى أن يكون المولود مثل أبيه في صفاته السيئة، وهي لا تحزن من طلاقه لها بل تفرح، وتعتبر هذا الطلاق بشارة خيرلها، فمن الصعب أن يجمع سقف واحد بين امرأة صالحة عاقلة ورجل ظالم سفاك للدماء، ويعوضها الله بمن هو خير من زوجها خلقا ومنزلة.
ويتبع >>>>>>>>>>> تطور العلاج السلوكي