صعوبات التواصل: التواصل غير الملائم
الفصل الخامس
الناس قَدْ يَفْشلونَ في منطقة واحدة مِنْ مناطق الإصرارِ وتأكيد الذات ويَنْجحونَ في أخرى. يُمكنك أَن تكونَ قادراً على إبداء مشاعرك الودّية بشكل مفتوح في مواقف وأماكن معينة، وإلى الآن، ولكنك قد لا تَكون قادرا على إظهار مشاعرِكَ في مواقف و أماكن أخرى، والعكس بالعكس. وبمعنى آخر؛ قد يكون رجل خلاصةَ الاستسلامِ في المكتبِ، ويَتصرّفُ بصورة مستبدة ّ في البيت. أَو أَنْ يَتصرّفَ شخص بشكل حازم في العمل، وفي علاقاتِه الاجتماعيةِ، ومَع أطفالِه، ولكنه وإلى الآن يعجز عن إظهار الحزم وتأكيد الذات مَع زوجتِه.
مثال على تأكيد الذات المشقوق:
الدكتور محمد طبيب ناجح جدا في عمله، ولكنه ضعيف جدا أمام زوجته وطلباتها، وهو دائم التحمل لعصبيتها وغيرتها، وفي كثير من المواقف التي تحتاج إلى قرارات مصيرية تخص مستقبل كل الأسرة يتنازل الدكتور محمد عن رأيه، ويطيع زوجته، (والتي قد يكون رأيها في كثير من الأحيان بعيدا عن الصواب، حتى أن زوجته جعلت أهل الدكتور محمد، وبالذات والدته تكره زيارة ابنها!؛ وكذلك زملاؤه من الأطباء، ومن الغريب في الأمر أن أيا من أخواته أو إخوانه إذا أرادت أن تسأل أو يسأل عنه فعليها أو عليه أن تكلمه أو يكلمه في عيادته؛ وإلا انفتح مع محمد تحقيق، وسين وجيم، طبعا من جانب زوجته التي تغار على زوجها حتى من أهله، وعندما يتحدث زملاء وأقارب الدكتور محمد مع بعضهم البعض في بعض المناسبات الاجتماعية التي تجمعهم، لابد وأن يتذاكروا العلاقة الغريبة التي تربطه بزوجته، وكيف تحاول هذه الزوجة دائما إبعاده عن أهله وأصدقائه؟، وهم يحاولون أن يتفهموا تصرفاتها وعاداتها الشاذة، ولكن هيهات أن يتوصلوا إلى نتيجة مقبولة ترضي الجميع، ولله في خلقه شئوون، فمن قائل هي معقدة لأنها أقل منه اجتماعيا وعلميا، فهو لديه مؤهل عالي، وهي لم تحصل إلا على الشهادة الثانوية فقط، وأهل الدكتور محمد أرقى بكثير من أهل زوجته ماديا وعلميا واجتماعيا، فيقوم أحد أصدقاء محمد بالرد مندهشا؛ ولكن لماذا محمد منقاد وراءها بهذا الشكل العجيب؟!، يمكن تكون عاملة له عمل "سحر"!.
فترد أخت من أخواته: والله غير مستبعد!، ويتساءل أخ آخر: يمكن هو بيحبها كده لأنها متوسطة الحال؛ وكما تعلمون فإن أخانا حنون، ولا يطيق رؤية بائس إلا ساعده بكل ما يستطيع!، يعني حبه لها من باب الشفقة!، فترد أخته قائلة: ولكنها طغت وافترت حتى على حماتها، أم زوجها. فيرد زوج أخت الدكتور محمد قائلا (وهو من المعروفين ببعض الجرأة في الرأي): ألم تلاحظوا أن هذه الزوجة تشبه أم الدكتور محمد في حزمها وقوة شخصيتها (وكأنه يُعرِّض بسيطرة حماته على أولادها وبناتها)، فترد زوجته (أخت الدكتور محمد) قائلة: أعوذ بالله يا شيخ: هو فيه مثل أمنا؟!، فيستطرد زوج هذه الأخت قائلا: هذا صراع بين القديم والجديد، وبين الماضي والمستقبل، وأعتقد أن الجديد له اليد العليا وله السيطرة، هذه طبيعة الكون، وبإذن الله فإن أولاد وبنات هذه الزوجة سيقطعون رحمها بعد أن يصبحوا رجالا ونساء مستقلين، ولهم بيوتهم وعائلاتهم، فهذا هو حال الدنيا: "سلف و دين حتى المشي على الرجلين".
ويرد أحد زملاء الدكتور محمد قائلا: هناك بعض الناس يستمتعون بإيذاء الآخرين لهم، فهل محمد من هذا النوع؟، لكن لا فأنا أعرفه؛ هو لا يطيق أن يتعدى أحد على كرامته، فلماذا يخضع لتسلط زوجته عليه بهذا الشكل؟!.
ثم يدلي أحد الإخوان بدلوه قائلا: يمكن هي بتحاول تنتقم منا لأن بعضنا لم يكن متقبلها في بداية ارتباط أخينا بها؟!، ولكن هذا لا يصح منها لأننا بعد زواجها من أخينا عاملناها أحسن معاملة إرضاء ومجاملة له!.
ويستمر الجدل بهذا الشكل حول تصرفات هذه الزوجة المتسلطة، أما الحقيقة في سبب استسلام زوجها لها بهذا الشكل فقد يكون أحد أو بعض الأسباب التي يتجادل فيها أقارب الدكتور محمد، أو قد يكون هناك سبب آخر لم يعرفه أحد، حتى الدكتور محمد وزوجته نفسيهما!.
ومدى تأكيد الذات لدى الدكتور محمد في هذا المثال مشقوق أو لنقل مُنْقَسِم، ويُمكنُ أَنْ يَكُونَ هذا الشق ضيّقَ جداً، فهو مؤكد لذاته في عمله، ومع إخوانه وأخواته، ومع جيرانه وأصدقائه، ومع مرضاه في المستشفى والعيادة ومع أبنائه، وحتى مع الأغراب الذين يتعامل مع بعضهم لمرة واحدة في حياته ولكنه تابع لأهواء ومطالب زوجته، وهي شخص معين واحد.
وبعض الناس قَدْ يَكُون حازمَا ومؤكدا لذاته عندما تكون علاقته بشخصين اثنين فقط؛ ولكنه يفتقد توكيده لذاته في المجموعاتِ. وبعض الناس يُمكنُهم أَنْ يَكُونوا حازمينَ مَع كُلّ شخصِ في العالمِ ماعدا عمّتهم أو خالتهم، عُموماً لضيق المنطقة، فمن الأسهل تغييّر هذا السلوك بتدريب توكيد الذات. ولقد ذكرني موقف الدكتور محمد من زوجته بقصة من التراث الفارسي. ما رأيكم في أن نستمع إليها؟!:
كيف أكد ملك الفرس ذاته أمام زوجته؟
يُحكى أن الملك خسرو بن برويز ملك الفرس كان محبا لأكل السمك، وكانت زوجته شيرين الجميلة تتدخل دائما برأيها عندما يدير بعض أمور ملكه، و تكون جالسة بجانبه، ودخل عليه ذات يوم صياد بسيط، ولكنه يحمل سمكة غريبة كبيرة ولكنها جميلة نادرة تثير الانتباه، فانبهر الملك بها، وكان الملك عطاءً، فأمر للصياد بأربعة آلاف درهم مكافأة على هديته للملك، وكعادة شيرين فقد أخبرت الملك في أذنه أن هذه المكافأة ضخمة لمثل هذا الصياد البسيط، وكم سيعطي الملك بعد ذلك خواص خدمه وحاشيته، إذا أراد لهم المكافأة، ولأنها تعرف أن كلام الملوك لا يرد فقد قالت لزوجها الملك دعني أحتال لك في هذا الأمر، ولحب الملك لها، فقد قال لها كما تشائين، وأمر برد الصياد عليه، والذي كان فطنا أريبا على الرغم من تواضع حاله، وسأله الملك بعد أن أشارت عليه الملكة بأن يسأل زوجها الصياد، هل هذه السمكة ذكر أم أنثى؟، فإن قال ذكرا رد عليه الملك: إنما كنت أريدها أنثى!، إن قال أنثى، قال له: إنما كنت أريدها ذكرا!.
ولكن إجابة الصياد كانت مبهرة للملك وزوجته، فلقد قال الصياد أظن يا مولاي أن هذه السمكة النادرة خنثى، فلم ير صياد نظيرا لها، ومن شدة إعجاب الملك بإجابته؛ فقد أمر له بأربعة آلاف درهم أخرى، ولقد وضعها رجال القصر للصياد في جراب شديد الامتلاء، لعظم المبلغ، وعندما هم الصياد بحمل الجراب سقط من جيب سترته العلوي درهما على الأرض، وانزلق على أرضية القصر يجري فجرى الصياد خلفه حتى أمسك به وأعاده إلى جيب عميق في سترته، فلم تسكت الملكة، واستغلتها فرصة لتوغر صدر الملك على الصياد، فقالت للملك أنظر كيف يطارد هذا الرجل الجشع الدرهم الذي وقع على أرضية القصر؟!، وكأنه غير آبه ولا مهتم بمقامك العظيم!!، وأنت قد أعطيته من الدراهم ما يكفيه ويزيد عن حاجته وحاجة أسرته مدى الحياة!، فناداه الملك غاضبا وقال له: يا جشع يا خسيس، تطارد درهما وقع على أرضية القصر، ولا تهابني، وقد أعطيتك ما يزيد عن حاجتك وحاجة أهلك مدى الحياة، لأنزلن بك أشد العقاب، فسجد الصياد مرتاعا باكيا بين يدي الملك قائلا: إنما دفعني إلى فعل ذلك يا مولاي أن على أحد وجهي هذا الدرهم صورتك، وعلى وجهه الآخر كلام عظمتك، ولذا فقد طاردت هذا الدرهم حين انزلق من جيبي خوفا من أن تطأه قدم أحد دون قصد عندما يكون منبهرا عند دخوله عليك من فرط عظمتك، فازداد إعجاب الملك به، بعد أن نطق لسانه بهذا الرد البليغ، و أمر له الملك بأربعة آلاف درهم ثالثة!، من شدة إعجابه بقوله وحجته، ولكن أراد الملك علاجا لتدخلات زوجته فيما يصدره من قرارات؛ بعد أن تناقل الخاصة والعامة خبر الملك وزوجته والصياد، فاختار حلا صعبا، ولكن لعله أن يكون مجديا مع الزوجات المتسلطات واللاتي يفتقدن الحكمة في اتخاذ القرارات، فأمر مناديه أن ينادي في الناس: ألا يتدبر أحد برأي النساء؛ فإنه من تدبر برأيهن، وأتمر بأمرهن خسر دراهمه!.
وهنا وقفة لابد منها؛ ألا وهي أن موقف هذا الملك من زوجته ليس للتعميم، فإن هناك من السيدات من يرجح رأيهن رأي عشرات الرجال، ومنهن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، زوج نبينا صلى الله عليه وسلم، عندما دخل خيمتها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً، بعد صلح الحديبية، وقد أمر أصحابه بحلق رؤسهم، فلم يستجيبوا لقوله صلى الله عليه وسلم، غيظا وحنقا أنهم وصلوا حتى حدود مكة محرمين يريدون أداء العمرة، فمنعتهم قريش، بعد أن عاهدته صلى الله عليه وسلم، أن يعود هو و أصحابه العام القادم فتخلي لهم قريش الحرم في العام القادم كي يؤدوا عمرتهم؛ فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين قدموا مكة محرمين من المدينة لأداء العمرة بحلق شعورهم وحل إحرامهم، فكبر ذلك على نفوسهم، وكانوا يريدون دخول مكة وأداء العمرة وإن كلفهم ذلك قتال قريش، فتباطئوا في تنفيذ أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه السلام هلك أصحابي، فأشارت عليه أم سلمة أن يقوم هو بالحلق أولا، فإن رأوه فسيقتدون بفعله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان عين الصواب ما أشارت به فبمجرد رؤيتهم للرسول صلى الله عليه و سلم مشرعا في حلق رأسه تسابق أصحابه صلى الله عليه وسلم في حلق رؤسهم جميعاً، ونجوا جميعا من هلاك مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.
ولقد ذكرت هذا الموقف لأم سلمة رضي الله عنها كي أشير إلى أنه من النساء من يفقن الرجال رجاحة عقل ورزانة وحكمة، ولكن تبقى المشكلة فيمن يستبد برأيه ويتسلط على الآخرين سواء أكان رجلا أم امرأة!!.
(5) الشخص الذي يعاني من بعض النقائصِ السلوكية:
مثل الأشخاص الذين لديهم مشاكل في التواصل البصري، أَو اللغوي، أو مقطب الجبين في وجه الآخرين دائما، أو لديه مشكلة في بداية المحادثة مع الآخرين، هذه المهاراتِ المتعلقة بتأكيد الذات يُمْكِنُ أَنْ يتم تعلّمَها.
ويتبع >>>>>>>>>>> صعوبات التواصل: معوقات معينة