الفصل التاسع
كيف تتحدث بإقناع، لا بغلظة
يقول الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والعظم
لقد تعرضنا حتى الآن لمشاق عظيمة في إعداد أنفسنا للحوارات المؤثرة، وها هي الأمور التي تعلمناها. إن قلوبنا بحاجة لأن توضع في مكانها الصحيح، ونحتاج أيضا إلى الانتباه الجيد للحوارات المؤثرة البناءة، وخاصة حين يبدأ الآخرون في الشعور بعدم الأمان، والامتناع عن اختراع القصص الكاذبة أو غير المفيدة لتبرير ما نقوم به من أفعال لأنفسنا.
إذن نحن الآن مستعدون تماما للتحدث وبدء إشراك الآخرين في حوار حاسم يصعب علينا فيه أن نتخذ قراراً حاسماً. وهذا صحيح تماما، لأننا بالفعل في طريقنا للتحدث والتحاور. في معظم الأحيان ندخل في حوار، ثم تسير الأمور بتلقائية، "مرحبا، كيف حال الأبناء؟ كيف تسير أمور العمل؟" هل هناك ما هو أسهل من مثل هذا الكلام؟! نحن نعرف آلاف الكلمات وننسج منها ما يناسب احتياجاتنا من مناقشات.
غير أن الأمر يختلف حين يتعلق الأمر بموضوعات ذات حساسية خاصة وتتدخل فيها مشاعرنا، ففي هذه اللحظة قد نبدأ في التحدث ولكن بدون أداء جيد؛ في هذه اللحظة نجد أن مناقشاتنا كلما ازدادت أهمية كلما بدونا في أسوأ حالاتنا السلوكية، ولكي نكون أكثر تحديدا، فإننا عند تلك اللحظة نقوم فقط بالتعبير عن وجهات نظرنا، أو ندافع عنها ولكن على نحو سيء تماما.
ولكي نطور ونحسن من مهاراتنا في الإقناع، سنتعرف على موقفين يمثلان تحديا في هـــذا المجال. فدعونا نرى:
أولا: هناك خمسة عيوب من عيوب مهارات الحديث تجعل ما تقوله سبباً في اتخاذ الآخرين مواقف دفاعية منك.
ثانياً: سنستكشف مدى قدرة نفس تلك العيوب على تدمير علاقاتنا بالآخرين، وذلك على الرغم من أن تلك الصراحة في التعبير قد تساعدنا على أن ننفس عما يدور في خلدنا من آراء نؤمن بصحتها، ونعتقد أن الإفصاح عن آرائنا تلك هو نوع من تأكيد الذات!!، ولكن بعد فترة قصيرة من الوقت نكتشف أنه وسيلة إلى مزيد من انغلاق الآخرين نحونا، وذلك بدلا من انفتاحهم على أفكارنا.
المشاركة في المعاني والتي قد تمثل مخاطرة:
لاشك أن إضافة معلومات إلى بوتقة المعاني يمكن أن تمثل صعوبة كبيرة، وبالذات عندما تكون هذه المعلومات أو الأفكار موجهة إلى وعي شخص ما وهي تحمل وتتضمن آراء حساسة، أو غير جذابة، أو موضع جدل بالنسبة إلى ذلك الشخص، مثلاً قد أقول لزميلتي: (أنا آسف يا "غادة"، ولكن الناس لا يحبون العمل معك، لذا تطلب الإدارة منك أن تتركي فريق المشروعات الخاصة)!!!.
إن مناقشة حاجة الشركة إلى تغيير نظام الاتفاقيات والصفقات يختلف تماما عن إخبارك لشخص ما: إنه عدواني، أو غير محبوب، أو أن لديه أسلوبا قياديا مسيطرا؛ فحين يتحول الموضوع من الأشياء إلى الأشخاص فإنه دائما يزداد صعوبة، ولن تكون مفاجأة لأحد حين نعرف أن هناك بعض الناس يتعاملون مع هذا الأمر بلباقة و بشكل أفضل من غيرهم.
حين يتعلق الأمر بالتشارك في معلومات ذات حساسية معينة فإن أسوأ المحاورين يختارون بين التعبير عن أفكارهم بدون لباقة وبين التزام الصمت التام، فهم إما يبدءون حديثهم بعبارة: "على غرار"، "لن يروقك ما سأقول، ولكن لا بد أن يكون هناك شخص صادق وأمين..."، وهذا يُسمى: (أسلوب الاختيار بين سيء وأسوأ التقليدي، ولكن إن لم يستطع المحاور أن يكون دبلوماسياً فعليه ببساطة أن يلتزم الصمت، وهذا الكلام يذكرني بالحديث النبوي الشريف: "من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمُت".
إن من يجيدون الحوار يعبرون عن بعض ما يدور في أذهانهم، ولكنهم يُصرِّحون بآرائهم على نحو أقل مما تقتضيه الحقيقة خشية إيذاء مشاعر الآخرين، حيث يخشون أن تؤدي آراؤهم تلك إلى تدمير علاقاتهم القوية بالآخرين، إنهم يتحدثون عما يجيش في صدورهم، وما يدور في عقولهم، ولكنهم يغلفون أفكارهم قبل أن يعبروا عنها بكلمات عذبة معسولة، وجمل رشيقة منمقة، كل ذلك كي تكون أفكارهم الصادمة القاسية مستساغة إلى -حد ما- ممن يتحاورون معهم.
أما أفضل المحاورين فهم الذين يُعبَّرون بالكامل عما يدور في أذهانهم بطريقة توفر للآخرين ما يحتاجونه من المحافظة على ماء وجوههم مع الأمان في الإنصات لما سيُقال لهم، والاستجابة له بصدر رحب، فهم يتسمون بكل من الصراحة والاحترام الكاملين عند حديثهم مع الآخرين.
حافظ على الأمان
لكي نتحدث بأمانة حينما يمكن للأمانة أن تُغضِب الآخرين، فلابد أن نجد طريقة للمحافظة على حالة الشعور بالأمان. قد يكون ذلك مماثلا لطلبك من شخص ما: أن يلكم شخصاً آخر في أنفه دون أن يؤذيه!!!؛ ولكن كيف لنا أن نتكلم عما يصعب الكلام فيه؟!، وأن نحتفظ باحترامنا لمن نتحدث إليهم في نفس الوقت؟!؛ في الواقع، إن هذا ممكن إذا عرفت كيف تمزج بعناية بين ثلاثة عناصر هم: الثقة والتواضع والمهارة. ومن جميل ما ذكر عن الشعور بالأمان: "يتلاشى الأمان من دنيا الإنسان إذا ابتعد عن الله، وينطفئ سراج الأمل عند الإنسان في ظل المعصية". وفي هذا المقام أذكر أيضاً قولاً للأصمعي: "أوصى بعض الحكماء بنيه فقال: يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوء به النائبة فيحتمل فيها؛ فيستعير من أخيه وأبيه ومن صديقه ثوبه، ولكنه لا يجد من يعيره لسانه!!!". كما أن هناك حكمة تؤكد هذا المعنى وهي: "نصف العقل مداراة الناس، وكل العقل مداراة السفهاء"، والمداراة هي: "أن تخاطب الناس على قدر عقولهم".
والآن، فلنناقش الثلاثة عناصر اللازمة لتحقيق الأمان في الحوارات المؤثرة أو "الصعبة"
1- الثقة:
إن معظم الناس لا يعقدون حوارات مؤثرة وحاسمة!!، أو على الأقل لا يعقدونها مع الأشخاص المناسبين. على سبيل المثال: يعود صديقك "هشام" إلى منزله مساء ويقول لزوجته: إن "حسن" –رئيسه في العمل– يولي اهتماما زائدا عن الحد للتفاصيل، ويردد نفس القول على الغذاء مع زملائه. لقد علم الجميع بالطريقة التي يفكر فيها "هشام" في رئيسه "حسن" ما عدا "حسن" بالطبع!.
إن من لديهم مهارات حوارية عالية لديهم من الثقة ما يجعلهم يقولون ما يحتاجون لقوله للشخص الذي عليه أن يسمع ذلك. إنهم واثقون بأن آراءهم تستحق أن يُعبِّروا عنها بلباقة لمن يضايقونهم، وواثقون أيضا من قدرتهم على الكلام بصراحة دون القسوة على الآخرين أو مهاجمتهم وإغضابهم بلا وجه حق.
وسأذكر هنا مثالاً لحوار أحد المساجين المظلومين مع أمير العراق المشهور بالبطش ألا وهو الحجاج بن يوسف الثقفي، فلنقرأ معاً تلك القصة:
قيل إن الحجاج حبس رجلا ظلما، فكتب هذا الرجل للحجاج رقعة فيها: "قد مضى من بؤسنا أياماً، ومن نعيمك في الدنيا أياماً، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحكم لا يحتاج إلى بينة".
وهنا تظهر فصاحة المسجون مع ثقته بعدل ربه، وذلك بعد أن فقد الأمل في أن يلين الحجاج أو يرق قلبه، فاختار هذا المسجون لغة التهديد والوعيد بعذاب الله لمن يظلم، وهو بالتأكيد يعلم أن الاستجابة من الحجاج سوف تكون بأحد أمرين: إما أن يرتدع ويراجع موقفه مع هذا المسجون، وإما أن يستمر في غيه أو يزيد بقتله لهذا المسجون المظلوم!.
2- التواضع:
إن الثقة لا تساوي الغرور، أو التشبث بالرأي. إن الماهرين في الحوار يثقون بأن لديهم شيئا يقولونه، ولكنهم يدركون أيضا أن الآخرين لديهم ما يقولونه. إن لديهم من التواضع ما يكفي لإدراك أن الحقيقة ليست حكراً عليهم. إن آراءهم تمثل نقطة بداية، ولكنها ليست الكلمة الأخيرة. قد يعتقدون شيئا ما في الوقت الحاضر، ولكنهم يدركون أنهم قد يغيرون من تفكيرهم عند وصول معلومات جديدة لهم. وهذا يعني أنهم على استعداد للتعبير عن آرائهم ويشجعون الآخرين على نفس الشيء، وما أجمل الحكمة التالية: "العظيم لا يعظم نفسه"، والحكمة القائلة أيضاً: "ومن ركب الحق غلب الخلق".
3- المهارة:
طالما وجدنا أن من يتحدثون مع الآخرين بصراحة ويُعبِِّرون عما يضايقهم من الآخرين بلباقة لديهم القدرة على امتلاك ناصية الثقة بأنفسهم في المقام الأول، مع تأكيدهم لذواتهم في التحدث عما يضايقهم من الآخرين. إنهم لا يقعون في فخ الاختيار بين سيء وأسوأ؛ لأنهم وجدوا طريقاً يسمح بالصدق في الرأي، والشعور بالأمان فـــي ذات الوقت. إنهم يتحدثون عما يصعب على الآخرين الحديث عنه؛ ولذا يقدر الآخرون أمانتهم. وما أجمل الحكمة القائلة: "الكلام اللين يغلب الحق البين".
ويتبع >>>>>>>>>>> ليلة سعيدة، ولكن!!!