الفصل العاشر
تحدث بشكل احتمالي
إذا راجعت الصور الموجزة التي تحدثنا عنها حتى الآن فستلاحظ حرصنا على وصف كل من الحقائق والقصص في شكل احتمالات؛ فنقول مثلا: "لقد كنت أتساءل إذا ما كنت.....؟".
إن التحدث بشكل احتمالي يعني ببساطة أننا نميل إلى أن نحكي قصتنا على أنها مجرد قصة أكثر من ميلنا إلى تقديمها في شكل حقيقة، فعبارة مثل: "ربما كنت غير مدرك لأبعاد ذلك الموضوع!"، تعني أنك غير متأكد بالمرة، أما عندما تقول "في رأيي أن حل هذه المشكلة هو كذا"، فإنك هنا تشارك برأيك، وأنك لا تقدم مجرد اقتراح!.
عند إشراك الآخرين في قصة ما، عليك بالمزج بين الثقة بالنفس والتواضع، وهذه خير الطرق لتأكيد ذاتك. شارك بطريقة تعبر عن قدر ملائم من الثقة في استنتاجاتك بينما تظهر في نفس الوقت رغبتك في الاستماع إلى استنتاجات مخالفة؛ ولكي تتمكن من ذلك عليك أن تغير عبارة "الحقيقة هي كذا" إلى "في رأيي أن كذا"، وكذلك استبدل عبارة "الكل يعلم أن" بعبارة "لقد تحدثت مع ثلاثة من الموردين الذي يرون أن". خفف من حدة الحديث بأن تستبدل عبارة "من الواضح لي أن" بعبارة "لقد بدأت أتساءل إذا ما كان"، وتذكر دائماً قول كوناري أن: "الإفراط في الثقة بالنفس جالب للخطر".
يقول الشاعر:
الرأي كالليل مسودا جوانبـــه والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
ومعناهما: إن الرأي كالليل المعتم لا يستنير إلا بالصبح المنير، وآراء الرجل كالمصباح المضيء؛ فاجمع أنوار مصابيح الرجال إلى نور مصباح رأيك يكون النور أعظم. ومن معنى هذين البيتين ننتقل إلى السؤال التالي:
لماذا يجب علينا أن نخفف من حدة الرسائل التي نوجهها للآخرين؟!؛ لأننا نحاول المشاركة بأفكارنا -والتي تحتمل الصواب و تحتمل الخطأ– إلى أفكار الآخرين؛ لذا لا يجب علينا أبداً أن نفرض آراءنا على الآخرين، أما إذا مارسنا الإجبار والفرض لأفكارنا ووجهات نظرنا فلن يتقبلها الآخرون، فضلا عن إننا لسنا واثقين بشكل مطلق في صحة حقائقنا وقصصنا، فملاحظاتنا قد تكون خاطئة، وقصصنا أيضا ما هي إلا تخمينات بارعة. وأجمل ما قيل في هذا المعنى قول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخرين خطأ يحتمل الصواب". ولله در الشاعر حين يقول:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر فالحق لا يخفى على الاثنين
للمرء مرآة تريه وجهــــه ويرى قفاه بجمع مرآتيــن
ومعنى البيتين: استفد من رأي غيرك فإن الصواب لا يخفى على اثنين معاً والمرء لا يستطيع أن يرى إلا وجهه بالمرآة ولكن لو جمع مرآتين استطاع أن يرى وجهه وقفاه.
بالإضافة إلى أننا عندما نستخدم اللغة الاحتمالية مع من نحاورهم فإنها لا تعبر بدقة عن آرائنا غير المؤكدة فقط، وإنما تساعد أيضا على التقليل من التوجه الدفاعي لدى هؤلاء الذين نتناقش معهم، كما توفر هذه اللغة الاحتمالية الأمان للآخرين بشكل يدفعهم إلى إبداء وجهات نظر مختلفة تفيد الجميع، ومن إحدى المفارقات الحوارية أننا نبدي أفكارا جدلية عند احتمال وجود مقاومة من أطراف أخرى، وبالذات عندما تزداد ممارستنا لفرض هؤلاء الآراء؛ ولذلك فإن درجة إقناعنا تضمحل تدريجيا. باختصار، نجد أن الحديث بلغة احتمالية ترجيحية يمكن أن يزيد من تأثيرنا، وصدق رسولنا الكريم حين قال: "أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن ترك المِراءَ (الجدال) وهو مُحِق".
يقول الشاعر:
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أجل شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائــص
ومعناهما: إذا أتاك الرأي السديد والمشورة الصحيحة من إنسان ناقص الخلق فلا تزدريه، فإن الجوهر واللؤلؤ الثمين -وهو أثمن شيء يقتنيه المرء- لا ينقص من قيمته هوان الغواص الذي جمعه.
ترجيح لا تردد
يخشى البعض من الظهور بمظهر الفارض لرأيه لدرجة أنهم ينحرفون إلى المسار الآخر، فيترددون أو ينسحبون من خلال اتخاذ خيار البديل الواحد. إنهم يتصورون أن الطريقة الوحيدة الآمنة لإشراك الآخرين في المعلومات الحساسة هي التعامل معها كما لو كانت معلومات أو آراء غير هامة.
"قد أبدو ساذجاً أحياناً؛ لذلك قد لا تقتنع بفكرتي" أو "قل عني أنني مجنون –إن شئت- ولكن"، فعندما تبدأ حديثك بالإنكار والتنازل وتتحدث بنبرة تشير إلى الشك، فإنك تضر بالرسالة بأكملها. إن التواضع والصراحة شيء، وكونك مريضا بالتردد شيء آخر مختلف تماما. و أذكر هنا قولا مأثورا، ألا وهو: "تتضاعفُ الشجاعةُ بالجرأة، ويزدادُ الخوفُ بالتردُّد"؛ لذا يجب على كل مفكر أو صاحب رأي منا أن يستخدم لغة تفيد بأنه يتشارك برأيه مع الآخرين، وليس لغة تشير إلى أنه شخص عصبي منهار!.
اختبر قصتك أو فكرتك
كي تكتسب إحساساً جيداً بأفضل صورة تشرك فيها الآخرين قصتك، والتأكد من أنك لست قاسيا للغاية أو متساهلا للغاية؛ أمعن التفكير في المواقف التالية:
تســـاهل زائد : "قد يكون هذا غباء، ولكن"
قســـوة زائدة : "كيف يتأتى لك أن تخوننا؟"
الأسلوب الصحيح : "يبدو وكأنك ستأخذها معك إلى المنزل لاستخدامك الخاص، هل هذا صحيح؟"
تســـاهل زائد : "إنني أخجل من مجرد ذكر ذلك ولكن"
قســـوة زائدة : "متى وبالتحديد بدأت في تعاطي المخدرات القوية بالتحديد؟"
الأسلوب الصحيح : "إن ذلك يقودني إلى استنتاج أنك بدأت في تعاطي مخدرات أقوى، هل لديك تفسير مختلف يشير إلى أنني مخطيء في ذلك؟!"
تســـاهل زائد : "يحتمل أن يكون خطأي، ولكن"
قســـوة زائدة : "إنك حتى لا تثق في قدرة أمك على سلق بيضة!"
الأسلوب الصحيح : "بدأت أستشعر أنك لا تثق بي هل هذا صحيح؟ إذا كان الأمر كذلك، فأود أن أعرف ما الذي فعلته أنا لتفقد ثقتك بي؟!"
تســـاهل زائد : "قد أكون بالغت في تجاهلك ولكن"
قســـوة زائدة : "إذا لم يكن لديك القدرة على التقاط إشاراتي، فسأترك المكان"
الأسلوب الصحيح : "أعتقد أنك لا تقصدين ذلك، ولكنني بدأت في الإحساس بأنني غير مرغوب"
شجع اختبار أفكارك
عندما تطلب من الآخرين أن تشاركهم آراءهم فإن الكيفية التي تصيغ دعوتك لهم تُحدِث فارقا كبيرا، فلا يكفي أن تدعو الآخرين للكلام، وإنما عليك أن تفعل ذلك بطريقة توضح أنك ترغب في سماع أفكارهم وقصصهم مهما بلغ مدى اختلاف الأفكار عن أفكارك وقصصك. يحتاج الآخرون للشعور بالأمان لإبداء ملاحظاتهم وقصصهم حتى ولو كانت مختلفة!، وما لم يتوفر ذلك فإنهم لن يتحدثوا، ولن تتمكن من اختبار دقة وجهات نظرك و أفكارك ومدى صلتـــها بالموضوع.
إن هذا الأمر يصبح ذا أهمية خاصة عندما تكون مقدما على إجراء محاورة حاسمة مع أشخاص ربما يتجهون إلى التزام الصمت، وفي هذه الظروف يفضل البعض اتباع أسلوب الاختيار بين سيء وأسوأ؛ أي: (الصمت أو العنف)، حيث يخشون من اتجاه الآخرين للصمت إذا شاركوا بآرائهم الحقيقية، لذا فإنهم يختارون بين التعبير عما يفكرون فيه والاستماع إلى الآخرين، ولكن المتميزين في الحوار لا يفاضلون بين الصمت والحديث، إنهم يتكلمون ويسمعون ويعرفون أن الشيء الوحيد الذي يزيد من مدى القوة -التي يمكن لأي شخص أن يعبر بها عن رأيه- هو استعداد ذلك الشخص لإبداء قدر من المرونة يشجع الآخرين على تحدي آرائه.
يقول أبو العتاهية الشاعر:
عامل الناس برأي رفيق والق من تلقى بوجه طليق
فإذا أنت جميل الثنــاء وإذا أنت كثير الصــديق
ومعنى البيتين: لتكن معاملتك مع الناس برفق وروية وليكن وجهك طليقا مبتسما، وهذا يجعلك محموداً بين الناس ويكثر الإخوان والأصدقاء حولك.
دع مجالاً للآراء المعارضة
إذا رأيت أن الآخرين قد يترددون في إبداء وجهات النظر المخالفة لك فأعلنها صراحة أنك ترغب فعلا في سماع وجهات نظرهم أيا كانت، إذا لم يتجاوبوا مع هذه الدعوة كررها، وإذا تجاوبوا وجاءت آراؤهم مخالفة لك، أو حتى مثيرة لحساسيتك فعليك بإبداء تقديرك لشجاعتهم في التعبير عما يدور في أذهانهم. إذا كانت حقائقهم وقصصهم مختلفة فإنك بحاجة لسماعها؛ كي تستطيع استكمال الصورة الكلية للموقف. تأكد من إتاحة الفرصة أمامهم للمشاركة بأن تدعوهم دعوة صادقة للقيام بذلك. على سبيل المثال: "هل هناك من يرى الأمر بشكل مختلف؟"، "ما الذي نسيته ولم أذكره هنا؟!"، "إنني حقا أود سماع وجهات النظر الأخرى في هذه القصة".
وخير مثال لطلب الرأي والمشورة هو موقف نبينا الكريم في يوم الفرقان "غزوة بدر" عندما طلب رأي المهاجرين ثم الأنصار في حرب جيش كفار قريش؛ فيروي ابن إسحاق قائلاً: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم وهو بمكان يُقال عنه "ذفران"، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله! امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (موقع بالقرب من اليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس. قال: وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم أكثر من ثلثي الصحابة الخارجين لعير قريش، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليه نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: له سعد ابن معاذ: لعلك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر (يقصد البحر الأحمر!) فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى.
ما أجمل موقف الرسول الكريم وهو يستشير صحابته في حرب جيش قريش، والذي تحرك من مكة ليغزو المدينة، وانظر معي إلى أنه لا يكتفي -صلى الله عليه وسلم- برأي المهاجرين فيطلب رأي الأنصار، وعندما اتفقت الآراء على حرب قريش انتصر المسلمون في بدر؛ وبعد هذا النصر الحاسم بدأت خريطة العالم في التغير السريع، ليصبح المسلمون سادة للأرض، وفي وقت قياسي!!.
خذ الأمر بجدية
في بعض الأحيان تبدو الدعوة للمشاركة وكأنها تهديد أكثر من كونها دعوة مشروعة لإبداء الآراء؛ مثلاً: "حسنا، هذه رؤيتي ولا أعتقد أن هناك من يرى عكس ذلك، أليس كذلك؟!".... إن المطلوب هو دعوة الآخرين ليعلنوا عن آرائهم والصدق في التعبير عنها بالكلمات والإيماءات، والتي توحي برغبة حقيقية من جانبك في الاستماع إليهم، يمكنك أن تقول على سبيل المثال: "أنا أعلم أن البعض قد يتردد في الحديث عن هذا الموضوع، ولكنني حقا أود أن أسمع كل الآراء"، أو "أعرف أن هذه القصة لها جانبين على الأقل؛ هل لنا أن نستمع منكم إلى رؤاكم المختلفة؟!؛ وما هي المشكلات التي يمكن أن يسببها القرار الذي اقترحته عليكم؟!".
عارض آراءك نيابة عن الآخرين
يمكنك أن تقول لنفسك بين الحين والآخر أن الآخرين لم يرضوا على حقائقك أو قصصك، ولكنهم أيضا لم يعلنوا آراءهم!، فعلى الرغم من دعوتك لهم للمشاركة وإبداء الرأي وتشجيعك لهم على إبداء الآراء المخالفة لرأيك فإن أحداً لم يقل شيئا؟!، إذا حدث ذلك يمكنك حينئذ أن تقوم بهذا الدور بدلاً ممن لم يعلنوا عن آرائهم!... قم بتشكيل رأي معارض من خلال معارضة آرائك، ومناقشة آراء مختلفة مثل: "قد أكون مخطئا في هذه النقطة؟!، ماذا لو أن العكس هو الصحيح؟!، ماذا لو أن السبب في انخفاض المبيعات هو عدم قدرة منتجنا على منافسة المنتجات الأخرى؟!.
الاعتقاد القوي
نتحول الآن بانتباهنا إلى تحد آخر من تحديات التواصل. وهذه المرة لن تقدم رأيا فيما قاله غيرك، أو قصصا مشكوك في صحتها، إنك الآن مقدم على الدخول في مناقشة والدفاع عن وجهة نظرك، وهذا أمر تقوم به يوميا في المنزل والعمل، ومعروف عنك أنك لا تكف عن إبداء الآراء حتى ولو كنت واقفا في انتظار دورك في محل السوبر ماركت!.
لسوء الحظ، حين تزداد أهمية الموضوع ويبدأ الآخرون في الجدال حول وجهات نظر متباينة –وأنت تعلم في داخلك أنك الوحيد صاحب الرأي الصحيح، وأن الآخرين مخطئون– تبدأ في ممارسة الضغط والإجبار على نحو بالغ، إنك تعتقد أن الانتصار حقك، وأن هناك أمورا كثيرة في خطر، وأنك الوحيد الذي يملك الأفكار الصائبة، ولو تركتهم يطبقون أفكارهم فسيدمرون كل شيء!. صحيح: "من تبع كبرياءه ضل، ومن خضع لشهواته ذل"، ويقول كونفوشيوس: "الكبر عنوانه الحماقة"، ويقول المثل الإيطالي: "المغرور ديك يعتقد أن الشمس تشرق كل صباح لكي تستمتع بمهارته في الصياح".
ويتبع >>>>>>>>>>> تأكيد الذات مشركة1