الفصل العاشر
وعلى ذلك عندما تكون مهتما بالأمر اهتماما بالغاً، وفي نفس الوقت واثقاً من رأيك، فإنك لا تكتفي بمجرد الامتناع عن الحديث، بل تحاول فرض آرائك على الآخرين، ويكون من الطبيعي أن تزيد من ضغوطك عليهم، فعندما يجلس مجموعة من القادة والمديرين حول المائدة لمناقشة قضية هامة، تبدأ إحدى المديرات بالقول بأنها الوحيدة التي لديها رؤية حقيقية عن الموضوع، ثم يبدأ آخر في عرض الحقائق دفعة واحدة وكأنها سهام مسمومة، بينما يلجأ آخر –لديه معلومات خطيرة– إلى الصمت!. وعندما تتصاعد حدة المشاعر، تتحول الكلمات المختارة بعناية واللهجة الاحتمالية إلى حقائق مطلقة لا يجوز معارضتها!.
في النهاية نجد أن أحدا من المجتمعين لا يستمع لآخر، والكل إما صامت أو لجأ إلى أساليب العنف، ولم تعد هناك أي أفكار ذات قيمة لخدمة القضية الهامة التي جلسوا مجتمعين لمناقشتها، فلا تجد أي فائز؛ وهذا قد نراه أحياناً في بعض البرامج الحوارية العربية على بعض الفضائيات، عندما يستضيف مقدم البرنامج شخصين أو فريقين، لكل منهما وجهة نظر مناقضة للآخر، وبدلا من أن يظهرا مناطق الاتفاق بينهما ينتهي البرنامج وكلاهما يتبادلان أشنع السباب ولو استطاع أحدهما أن يتعدى على الآخر بالضرب أمام الجماهير لفعل وما توانى!. وهنا لابد من وقفة نتذكر فيها أهمية اختيارنا لكلماتنا، وأن لا نلجأ أبداً إلى التهجم بكلماتنا على الآخرين:
يقول الشافعي رضي الله عنه:
إن شئت أن تحيا سليماً من الأذى
وذنبك مغفور وعرضك صيــن
لسانك لا تــــذكر بــه عــورة امريء
فكلك عورات وللناس ألسن
كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الحد؟!
الأمر يبدأ حينما نشعر بالحاجة إلى فرض أفكارنا على الآخرين!؛ يكون ذلك بسبب اعتقادنا بأننا على صواب وأن الآخرين جميعا مخطئون، وأنه لا حاجة لإضافة المزيد من الأفكار لحل القضية أو المشكلة محل النزاع، حيث نشعر أننا نمتلك وجهة نظر محددة، كذلك نعتقد بشدة أن الواجب يملي علينا أن نقاتل في سبيل الحقيقة التي نتبناها، وأنه لشرف كبير لنا أن نفعل ذلك؛ وهذا بالفعل ما يقوم به أصحاب الشخصيات المسيطرة!.
بمجرد أن نقتنع بأن الواجب يحتم علينا القتال في سبيل الحقيقة!، نبدأ في تجهيز أقوى الأسلحة!، ونستخدم حيل الجدل التي خرجنا بها من خبرة السنوات الطويلة، إن الظهور بمظهر القائد هو القدرة على "إعداد العدة"، فنبدأ في إظهار المعلومات التي من شأنها أن تدعم أفكارنا، أو نشوه ما لا يدعمها، بعد ذلك نبدأ في إضافة التوابل اللازمة من خلال المبالغة: "إن الجميع يعرفون أن هذا هو السبيل الوحيد الذي علينا اتباعه"، وعندما لا ينجح هذا الأسلوب نبادر بإضفاء نكهة على لغتنا التي نستخدمها؛ وذلك من خلال الكلمات المتأججة، مثلاً: "إن ذوي الفكر السليم سيوافقونني الرأي".
من هنا نلجأ لاستخدام العديد من الحيل القذرة، فنتملق ذوي النفوذ قائلين: "حسنا، هذا ما يعتقده السيد الرئيس" أو "ذلك وفقا لتوجيهات سيادة الرئيس..."، ونهاجم الآخر فنقول: "في الحقيقة، ليس لديك الوعي والإدراك الكافيين لكي تصدق هذا؟!"، ثم نصدر التعميمات المتعجلة: "إذا كان ذلك قد حدث في عملياتنا بالخارج، فإنه سيحدث هنا بالتأكيد!".
مرة أخرى، كلما اشتدت محاولاتنا لإجبار الآخرين على قبول أفكارنا كلما ازدادت المقاومة التي نخلقها أمامنا، وساءت النتائج، وتمزقت علاقاتنا، وأعتقد أن هذا النموذج من التفكير والسلوك قد تم ممارسته من جانب القيادات المختلفة لشعوب أمتنا بين بعضهم البعض من حوالي خمسين عاما أو أكثر، وبينهم و بين شعوبهم، وعلى كل المستويات القيادية، بل وعلى مستوى الأسر في مجتمعاتنا، فنجد الأب أو الأخ الأكبر أو العم أو الجد هو المتسلط والفارض لأفكاره وما يتبعها من سلوكيات على باقي أفراد الأسرة التي يعولها؛ والويل لو عَانى أفراد أسرة ما من أخ أو أب مستبد ومتسلط!؛ فعندئذ تصبح حياة أولئك الأفراد جحيما لا يطاق!.
وأنا شخصيا –وحتى أكون صادقاً مع نفسي- كمسئول عربي عن أسرة صغيرة أشعر أحيانا في نفسي وفكري وسلوكي بالاستبداد والتسلط في بعض قراراتي المتعلقة بأسرتي الصغيرة؛ لذا أعتقد أن جميع الأشخاص في مجتمعاتنا العربية والإسلامية –صغيرهم وكبيرهم- بحاجة إلى وقفة مع أنفسهم!، وبالذات أصحاب القرار؛ فلا يُعقل أن نطالب من يقودوننا ويحكموننا بالديموقراطية ومعظمنا يفتقد إلى الديموقراطية حتى في نطاق أسرته الصغيرة!!!.
أحترم وجهات نظر الآخرين
جاء في الصحيحين "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل -عليه السلام- فقال: قد وضـعت السلاح؟!، والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا"، وأشار إلى بنى قريظة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم– إليهم، ونادى -صلى الله عليه وسلم- ألا يُصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة، فسار الناس، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم، لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، وذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحداً منهم".
لقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- بتصرفه الحكيم هذا، والذي لم يعنف فيه أحداً من الفريقين، قاعدة إدارية وتربوية مهمة يتحتم بموجبها احترام وجهات النظر في فهم النصوص.. وذلك يمثل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد بريء وصحيح، وأصبح هذا الموقف الفقهي المرن من النبي صلى الله عليه وسلم من قواعد أصول الفقه التي تُدرس لطلاب العلم الشرعي.
كيف نتغير؟
إن حل مشكلة التأييد المفرط لأفكارنا بسيط للغاية فقط إذا أقدمت على قبوله والعمل به، عندما تجد نفسك تكافح كفاحا مريرا فقط لإقناع الآخرين بأن طريقك هو الأفضل، توقف وأمعن التفكير فيما تريده بالفعل لنفسك، وللآخرين، وللعلاقة، ثم أسأل نفسك: "كيف أتصرف إذا ما كانت هذه هي النتائج التي أريدها بالفعل؟"، وحين تهبط نسبة الأدرينالين في دمك عن النسبة العادية وهي 0.05%، عندئذ ستكون قادرا على استخدام مهارات الحوار الخمس التي تناولناها سابقا.
أولا انتظر اللحظة التي يبدأ فيها الآخرون إظهار المقاومة، وحول انتباهك من الموضوع (مهما كانت أهميته) إلى نفسك. هل تنحني بجسدك إلى الأمام؟، هل تتحدث بصوت أعلى؟،هل بدأت المحاولة للفوز؟!، هل تطيل في الاستئثار بالحديث وتستخدم الحيل القذرة؟ وتذكر: كلما ازاد اهتمامك بقضية ما كلما قل احتمال أن تسلك على أفضل وجه.
ثانيا قلل من تحيزك لآرائك، وأعطي نفسك فرصة للاعتقاد بأن الآخرين قد يكون لديهم ما يقال، وقد يكون لدى أحدهم قطعة من اللغز!، ثم أقدم على دعوتهم للمشاركة بآرائهم. بالطبع هذا ليس سهلا؛ إن التراجع عندما نكون في قمة الاهتمام بأمر ما لا يتوافق تماما مع ما يدور في أذهاننا في تلك اللحظة لدرجة أن أغلبنا يجد صعوبة في الوصول إليه، فليس من السهل أن نخفف من حدة اللغة التي نتحدث بها، فحتى حينما تكون مقتنعا بشيء فكيف لك أن تطلب من الآخرين الإدلاء برأيهم وأنت على يقين من أنهم مخطئون؟!.
في الواقع إن الإنسان قد ينتابه الإحساس بأنه مخادع عندما يتحدث بلغة احتمالية عندما تثار الشكوك حول اعتقاده الذي يؤمن به إيمانا قويا ويصبح محل استجواب بالطبع إنك إذا ما تحدثت بلغة حين ترى الآخرين يتحولون من الحوار الصحي إلى فرض الآراء على الآخرين، يصبح واضحاً لك أنهم إذا لم يتراجعوا عما يفعلونه فلن يقتنع أحد بوجهات نظرهم. هذا في حالة مراقبتك للآخرين، ولكن ماذا عنك؟، كثيراً ما ستجد نفسك ممارساً ضغوطا شديدة لفرض رأيك على الآخرين، أليس هذا صحيحا؟!.
دعنا نواجه الأمر بصراحة، وحين يتعلق الأمر بأقوى آرائنا، تصبح عاطفتنا أول أعدائنا. لاشك أن الإيمان القوي بشيء ما ليس سيئا في حد ذاته، فلا بأس من أن يكون لدينا آراء صلبة، ولكن المشكلة تظهر حين نشرع في التعبير عن هذه الآراء.
على سبيل المثال، حين نؤمن بقوة بصحة فكرة أو قضية، تدفعنا مشاعرنا الجياشة إلى محاولة فرض أفكارنا على الآخرين، وحينما تدخل مشاعرنا وانفعالاتنا، تتوقف هذه الأفكار عن التدفق نحو المشاركة الجماعية في مناقشة قضية ما، حيث تتدافع الكلمات من أفواهنا كتدافع الماء من فوهة صنبور لإطفاء حريق مشتعل، وعلى الفور يتخذ الآخرون مواقف دفاعية، وحين يحدث ذلك؛ و تتحول انفعالاتنا وأفكارنا إلى سيل عارم؛ فعندئذ تصبح مشاعرنا أول من يقتل أفكارنا بدلا من أن ندعمها؛ وصدق القائل: "من عرض معابه، فلا يلم من أعابه".
تمالك نفسك فيما يجب عليك عمله، تمالك نفسك قبل أن تبدأ في العزف المنفرد و الإطالة في الحديث، ولاحظ أنك إذا بدأت في الشعور بالسخط أو وضع تصورات عن سبب عدم اقتناع الآخرين –وسيظهر ذلك بوضوح– فاعرف أنك على وشك الدخول في منطقة خطيرة!. تراجع عن التسلط والعنف، والتزم بلغة الإقناع الحاسمة، ولكن بالتأكيد ليس مطلوبا منك التراجع عما تؤمن به. تمسك باعتقادك، فقط خفف من حدة أسلوبك. ولقد سبق القرآن الكريم بتأكيد تلك المعاني؛ يقول تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل125). ومن تفسير ابن كثير للقرآن العظيم، والذي يستخدم آيات القرآن في تفسير بعضها لبعض فيقول:
"يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة "والموعظة الحسنة"، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى، وقوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن" أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم" (العنكبوت 46)، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" (طه 44)، وقوله: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله" (القلم 7)، أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده، "إنك لا تهدي من أحببت" (القصص 56)، "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء"(البقرة 272).
ومن جميل ما ذكره الإمام شرف الدين بن يحي النووي في كتابه الأذكار: [ومما يذم من الألفاظ: المراء والجدال والخصومة، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله، المراء: طعنك في كلام الغير لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه. وقال الإمام أبو حامد الغزالي أيضاً: وأما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها. ويستطرد الإمام الغزالي قائلاً: وأما الخصومة فلجاج في الكلام ليُستَوفي به مقصوده من مال أو غيره، وتارة يكون ابتداءاً، وتارة يكون بحق، وقد يكون بباطل، قال الله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت 46)، وقال تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل125)، وقال تعالى: "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا"(غافر 4)، فإن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزيل النصوص الواردة في إباحته وذمه، والمجادلة والجدال بمعنى واحد. قال بعض السلف: ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة ولا أشغل للقلب من الخصومة.
فإن قلت: لا بد للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.
فالجواب: ما أجاب به الإمام الغزالي أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي، فإنه في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو؛ فيخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم أيضاً من يطلب حقه لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والكذب للإيذاء والتسلط على خصمه، وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي!، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج عن الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس حراماً، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرج كل واحد منهما بالإساءة إلى الآخر، ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيه اشتغال القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره متعلق بالمحاجة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة، والخصومة مبدأ الشر، وكذا الجدال والمراء. فينبغي ألا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها، وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه عن آفات الخصومة.
روينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بك إثماً ألا تزل مخاصماً". وجاء عن علي رضي الله عنه قال: "إن للخصومات قُحَماً".
قلت: القحم بضم القاف و فتح الحاء المهملة: هي المهالك]. انتهى
وانظر معي أخي العزيز إلى كم المحذورات التي ذكرها الإمام الغزالي قبل أن تشرع في الجدل والمراء، فلابد أن تكون على علم، و أنك تسعى لتحصيل حق ضائع أو إظهار أمر هام من أمور الدين والعقيدة، وألا يؤدي الجدل إلى خصومة و عداوة مع إخوانك!.
وبعد كل المحاذير السابقة فعلى من يشرع في الجدل ألا يحتد وألا يغضب وألا يكون الجدال من باب العناد مع الخصم وحسب، وألا يطلق لسانه ويبسطه في شخص وعرض من يجادله، وألا يسعى إلى سحق خصمه وكسره أثناء المجادلة!.
وبالطبع فبعد ذكر كل تلك الآداب في الجدال والمراء أظن أننا الآن نستطيع مناقشة قضايانا ومشاكلنا العسيرة الصعبة بروح من التفاهم والود مع الآخرين، وأن يكون هدفنا من النقاش دائماً هو الوصول لأفضل الحلول لأي مشكلة وبوجهات نظر متعددة، وكي نصل إلى تلك الدرجة من النضج علينا أن يغير كل واحد منا نفسه أولاً.
ويتبع >>>>>>>>>>> غير نفسك أولا