الفصل الخامس عشر
قال سقراط مثل من أعطاه الله الحكمة وهو يعرف قدرها وهو بحرصه يعمل للدنيا وللمال الكثير كمثل من يكون في صحة وسلامة فيبيعها بالتعب والنصب فإن ثمرة الحكمة الراحة والعلاء وثمرة المال التعب والبلاء.
أظن أن حكمة الحكماء فيها العلاج والدواء لمن أراد إصلاح عيوبه، وحرص على تغيير عاداته السيئة، وبشرط أن تتفق حكمهم مع عقائد وأحكام العقائد السماوية، والحكمة عطاء من الله جلت قدرته يؤتيها من يشاء من عباده، وقد وجدت في حكم بزرجمهر كبير حكماء الفرس الكثير من الحكم التي نقلها لنا الإمام الغزالي في كتابه التبر المسبوك في نصح الملوك، ولكن قبل قراءة حِكَم "بزرجمهر" من الأفضل أن نأخذ فكرة عن بعض مواقف حياته والتي تُعد حكما عملية ليس لإصلاح الشعوب فقط ولكن حكم في إصلاح الحكام أيضا:
كبير حكماء الفرس "بزرجمهر"
الموصِي: بزرجمهر، أحد حكماء الفرس.
الموصَى: كسرى أنوشروان.
المناسبة: جلس أنو شروان يوما للحكماء ليأخذ من آدابهم.
فقال لهم وقد أخذوا مراتبهم في مجلسه: دلوني على حكمة فيها منفعة لخاصة نفسي وعامة رعيتي. فتلكم كل واحد بما حضره من الرأي وأنو شروان مطرق مفكر في أقاويلهم. وانتهى القول إلى بزر جمهر، فذكر له هذه الوصية.
فأمر أنو شروان أن تكتب بالذهب، وقال: هذا كلام فيه جميع أنواع السياسات الملوكية.
الوصية: قال بزرجمهر: أيها الملك، أنا جامع لك ذلك في اثنتي عشرة كلمة.
قال أنوشروان: هات، قال بزرجمهر:
أولاها: تقوى الله في الشهوة والرغبة والرهبة والغضب والهوى، فاجعل ما عرض من ذلك كله لله لا للناس.
والثانية: الصدق في القول، والوفاء بالعدات والشروط والمواثيق.
والثالثة: مشورة العلماء فيما يحدث من الأمور.
والرابعة: إكرام العلماء والأشراف وأهل الثغور والقواد والكتاب والخول، بقدر منازلهم.
والخامسة: التعهد للقضاة، والفحص عن العمال، ومحاسبتهم محاسبة عادلة، ومجازاة المحسن منهم بإحسانه، والمسيء على إساءته.
والسادسة: تعهد أهل السجون بالعرض لهم في الأيام، يستوثق من المسيء ويطلق البريء.
والسابعة: تعهد سبل الناس وأسواقهم وتجارتهم.
والثامنة: حسن تأديب الرعية على الجرائم وإقامة الحدود.
والتاسعة: إعداد السلاح وجمع آلات الحرب.
والعاشرة: إكرام الولد والأهل والأقارب، وتفقد ما يصلحهم.
والحادية عشرة: إذكاء العيون في الثغور لعلم ما يتخوف، فتؤخذ له أهبته قبل الهجمة.
والثانية عشرة: تفقد الوزراء والخول (هو الذي يُخوَّل لفعل شيء ما، ومنها اشتق "الخال والد")، والاستبدال بذوي الغش والعجز منهم.
ويُحكى أن كسرى سخط على بزرجهمر فحبسه في بيت مظلم، وأمر أن يصفد بالحديد؛ فبقي أياماً على تلك الحالة، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو مشروح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!.
فقال بزرجمهر: اصطنعتُ ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي التي أبقتني على ما ترون! قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلنا ننتفع بها عند البلوى:
فقال: نعم.
أما الخلط الأول: فالثقة بالله عز وجل.
وأما الثاني: فكلّ ما شاءه الله كائن.
وأما الثالث: فالصبر خير ما استمهل الممتَحن.
وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع ولا أعين نفسي بالجزع؟
وأما الخامس: فقد يكون أشدُّ مما أنا فيه.
وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.
فبلغ ما قاله كسرى؛ فأطلقه وأعزّه.
مقتل بزرجمهر - للشاعر خليل مطران
ـ خليل مطران، شاعر عربي، جزل الأسلوب، عميق الفكر، ولد عام 1871 بمدينة بعلبك بلبنان، وتوفي بالقاهرة عام 1949
ـ أقام في فرنسا عدة سنوات ثم استقر في مصر
ـ تعلم بالمدرسة البطريركية ببيروت
ـ لقب بـشاعر القطرين
ـ عمل في مصر في الصحافة والتجارة وتولي إدارة الفرقة القومية للتمثيل
ـ صدر له : ديوان الخليل في أربعة أجزاء
مقتل بُزَرْجَمَهْر:
سَجَدوا لِكِسرى إذ بدا إجلالا ** كسُجُودِهِم للشَّمْسِ إذ تتلالا
يا أُمَّةَ الفُرْسِ العريقةِ في العُلى ** ماذا أحالَ بكِ الأسُودَ سِخالا
كُنْتٌمْ كِباراً في الحروبِ أعِزَةً ** واليومَ بِتُّمْ صـاغـريـنَ ضئالا
عُبَّادَ "كسرى" مانحيهِ نفوسكم ** ورقابكُمْ والعِرْضَ والأموالا
تستقبلونَ فِـعالــهِ بوجــوهِـكُــمْ ** وتُـعـَفـِّرونَ أذلــةً أوكـــالا
التبرُ "كسرى" وحْده في فارس ** ويَعُـدُّ أمـةَ فـارسٍ أرذالا
شرُّ العيالِ عليهمُ وأعقهمْ ** لهـمُ ويَزْعُمُهُمْ عليـهِ عِــيـَالا
إنْ يؤْتهِمْ فضلاً يَمُنَّ وإن يَرُمْ ** ثأراً يُبْدِهُمْ بالعدوِّ قتالا
وإذا قضى يَوْماً قضاء عادلا ** ضرب الأنامُ بعهدهِ الأمثالا
يا يوم قتْلَ "بزرجمهر" وقدْ أتوْا ** فيه يُلبُّــونَ النداءَ عِجالا
متألبيْنَ ليشهدوا مَـوْتَ الذي ** أحيى البلادَ عدالةً ونوالا
يُبْدونَ بِشْراً والنفوسُ كظيمةٌ ** يجفلن بين ضلوعهمْ إجفالا
تَجْلوا أسِرَّتَهُمْ بُرُوقُ مَسَرَّةٍ ** وقلوبهمْ تَدْمى بِهِنَّ نِصالا
واذا سَمِعْتَ صِياحَهم ودويَّهُمْ ** لمْ تَدْرِهِ فَرَحَاً ولا إعْوالا
ويَلُوحُ كِسْرى مُشْرِفاً من قصرهِ ** شمساً تضيءُ مهابةً وجلالا
شبحاً "لأرموز" العظيمِ مُمَثَّلاً ** ملكاً يَضُمُ رداؤهُ رئبالا
يزهو به العرشُ الرفيعُ كأنه ** بسنى الجواهر مشعلٌ إشعالا
وكأنَّ لؤلؤةً بقائمِ سيفه ** عينٌ تَعُدّ عليهمُ الآجـــالا
ما كان كسرى اذ طغى في قومه ** إلا لما خلُقُوا به فَعَّالا
هُمْ حَكَّموه فاستبدَّ تحكماً ** وهم ارادوا أن يصولَ فصالا
والجهل داءٌ قد تقادم عهدهُ ** في العالمينَ ولا يزال عُضالا
لوْلاالجهالة لمْ يكونوا كلهمْ ** إلا خلائقَ إخوةً أمثالا
لكنَّ خَفْضَ الاكثرينَ جناحهم ** رفع الملوكَ وسَوَّد الابطالا
وإذا رأيتَ الموجَ يعلو بعضهُ ** ألْفَيْتَ تاليهُ طغى وتعالى
نقْصٌ لفطرةِ كلِّ حيٍّ لازمٌ ** لا يرتجي معهُ الحكيمُ كمالا
وإذ استوى كسرى وأجلسَ دونهُ ** قُوَّاَده البُسَلاءَ والأقيالا
صَعِدَتْ إليه من الجماعة صيحةٌ ** كادتْ تزلزلُ قصره زلزالا
وإذا الوزير "بزرجمهر" يسوقهُ ** جلادهُ متهادياً مُخْتالا
وتروحُ حَوْلهما الجموعُ وتَغْتَدي ** كالموجِ وهوَ مدافعٌ يتتالى
سَخِطَ المليكُ عليهِ إثْرَ نصيحةٍ ** فاقتصَّ منهُ غوايةً وضلالا
"أبزرجمهرُ" حكيمُ فارسٍ والورى ** يطأُ السجونَ ويحملُ الأغلالا؟؟!
"كسرى" أتُبْقي كُلَّ فَدْمٍ غاشمٍ ** حيَّاً وتُرديْ العادلَ المفضالا؟
وتَدُقُ في مرأى الرعيةِ عُنْقهُ ** ليموتَ مَوْتَ المجرمينَ مُذالا؟
أينَ التفردُ من مشورةِ صادقٍ! ** والحكمُ أعدلُ ما يكونُ جدالا؟
إن تستطع فاشربْ من الدمِ خمرةً ** واجعلْ جماجمَ عابديكَ نِعَالا
واذبح ودَمِّرْ واستبحْ اعراضهمْ ** واملأ بلادهم اسىً ونكالا
فلأنت "كسرى" ما ترى تحريمه ** كان الحرامَ وما تُحِلُ حلالا
وليذكرنَّ الدَّهرَ عَدْلُكَ باهراً ** ولتحمدنَّ خلائقاً وفعالا
لو كان في تلك النعاجِ مقاومٌ ** لك لم تجيءْ ما جئتهُ استفحالا
لكنْ ارادتْ ما تريدُ مطيعةً ** وتناولتْ منكَ الأذى أفضالا
ناداهم الجلادُ: هل من شافعٍ ** "لبزرجمهرَ" فقال كُلٌ لا لا
وأدارَ "كسرى" في الجماعةِ طَرْفه ُ** فرأى فتاةً كالصباحِ جمالا
تَسْبي محاسنها القلوبَ وتنثني ** عنها عيونُ الناظرينَ كَلالا
بنتُ الوزيرِ أتتْ لتشهدَ قَتْلَهُ ** وترى السَّفاهَ من الرشادِ مُدَالا
تَفْريْ الصفوفَ خَفِيَّةً منظورةً ** فرْيَ السفينةِ للحبابِ جبالا
بادٍ على مُحَيَّاها فأينَ قناعها ** وعلامَ شاءتْ أن يزولَ فزالا
لا عارَ عندهمْ كَخلْعِ نسائهمْ ** أستارهُنَّ ولوْ فَعلْنَ ثكالى
فأشارَ "كسرى" أن يُرى في أمرها ** فمضى الرسولُ الى الفتاةِ وقالا:
موْلايَ يَعْجَبُ كيفَ لمْ تتقنعي ** قالتْ له : أتعجباً وسؤالا؟
انظرْ وقد قُتِلَ الحكيمُ فهلْ ترى ** إلا رُسُوماً حوله وظلالا؟؟
فارجعْ إلى الملك العظيمِ وقل له ** مات النصيحُ وعشْتَ أنعمَ بالا
وبقيتَ وحْدكَ بعدهُ رجلاً فَسُدْ ** وارعَ النساءَ ودَبِّرِ الأطفالا
ما كانت الحسناءُ ترفعُ سِترها ** لوْ أنَّ في هذي الجموعِ رجالا
شرح مجمل الأبيات:
يا يومَ قتل بزر جمهرَ وقد أتوا فيه يلبّون النداء عجالا. ما أقسى هذا اليوم الذي قتل فيه بزر جمهر وقد استجابت الجماهير المستكينة لأمر الملك وانطلقت مسرعة.
متألبين ليشهدوا موتَ الذي أحيا البلاد عدالةً ونوالا، لقد احتشد الناس في ساحة الإعدام ليروا مصرع ذلك الوزير الذي نشر العدل، وحقق أماني الناس.
إنهم يتظاهرون بالرضا والسعادة بينما هم يكظمون الغيظ الشديد في نفوسهم التي تضطرب خوفاً وهلعاً.
وإذا الوزيرُ بزر جمهرُ يسوقهُ جلاده متهادياً مختالا، ها هو ذا الوزير يصل إلى ساحة الإعدام يقوده جلاده المتكبرّ وهو يمشي في غرور وصلف.
وتروح حولهما الجموعُ وتفتدي كالموجِ وهو مدافع يتتالى، راحت الجماهير تتجمع وتتفرق في كل جيئة وذهاب كأَنها أمواج البحر المتلاطمة المتعاقبة.
سخط المليك عليه إثر نصيحةٍ فاقتصَّ منه غواية وضلالا، لقد غضب الملك عليه بعد أن قدّم له نصيحة صادقة فانتقم منه ظلماً وتعسفاً.
ناداهم الجلاد هل من شافعٍ لبزر جمهرَ فقال كلٌّ: لا لا
ارتفع صوت السيّاف قائلاً للجماهير هل من أحدٍ يطلب الرحمة للوزير فردت الجماهير الخائفة بالرفض.
وأدار كسرى في الجماعةِ طرفَه فرأى فتاةً كالصباحِ جمالا، وكان كسرى ينظر في الجماهير فأثار انتباهه فتاة مشرقة الوجه تحاكي الصباح جمالاً وإشراقاً.
فأشار كسرى أنْ يُرى في أمرِها فمضى الرسول إلى الفتاةِ وقالا:
طلب الملك أن يعرف سبب ما فعلته الفتاة فأرسل إليها من أجل ذلك رسولاً .
مولاي يعجب كيف لم تتقنّعي قالت له أتعجباً وسؤالا؟!
قال رسول الملك إن سيدي الملك يستغرب كيف خلعت حجابك فأجابته ولمَ الاستغراب والسؤال ومشهد الظلم أمامك؟! .
فارجع إلى الملك العظيم وقل له: مات النصيحُ وعشت أنعمَ بالا
عد إلى ملكك المبجل وقل له: لقد مات من كان ينصحك فعشْ هادئ البال مرتاح النفس .
انظر وقد قُتل الحكيم فهل ترى إلا رسوماً حوله وظلالا؟!.
ألا ترى أنَ عادل الأمَة يعدم غدراً فلا تشاهد حوله إلا أشباه رجال لا حياة فيهم ولا نخوة.
ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أنَ في هذي الجموعِ رجالا
لم تكن الفتاة الجميلة لتكشف من جمالها لو أنها وجدت بين هذه الجماهير رجالاً حقيقيين.
ويُقال أن كسرى أنوشروان لم يقتل بزرجمهر وعفا عنه في اللحظة الأخيرة.
يتبع >>>>>>>>>>> كيف يغير الحكماء بعضاً من عاداتهم السيئة2