وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقت
كريمة غير أنثى العقل والحسب
لو سألنا أيا من أعضاء الحركات النسائية أو أنصار حرية المرأة عن رأيه"ها" فيما قاله المتنبي، وهل هو قدح أم مدح لما تردد"ت" في الإجابة أنه يحمل إهانة ما بعدها إهانة للمرأة، فهو يقول إنها وإن كانت أنثى إلا أن عقلها ليس بعقل أنثى، يبقى أن نشير إلى أن المتنبي قد قال ذلك في سياق حزنه وإبداء إعجابه وإكباره وتقديره لأعز من عرف وهي أخت سيف الدولة، ولم يجد ما يمدحه بها أفضل من أن يقول أن عقلها ليس عقل أنثى، ولو عدنا للماضي أكثر قليلاً ونظرنا لما قاله الإمام علي كرّم الله وجهه في معرض ذمه لمن خذلوه "يا أشباه الرجال ولا رجال حُلومُ الأطفال وعقول ريات الحجال" معيرا إياهم بعقولهم الأنثوية.
على مر الزمن تباينت وجهات النظر تجاه الاختلاف بين المرأة والرجل فمنهم من رد ذلك إلى المجتمع الرجولي وسيطرة الذكر وتداعياتها، ومنهم من رأى أن مصدر الفرق بيولوجي. وبداية لابد لنا من إلقاء نظرة قريبة على الدماغ البشري ومن ثم نحاول الوصول إلى الفروق في دماغ الذكر والأنثى، وطريقة عمل كل منها، وهل هذا بفعل التباين الاجتماعي أم هو صانع هذا التباين.
يتكون الدماغ البشري من حوالي 100 مليار خلية تتصل ببعضها عبر شبكة بالغة التعقيد من الحبال العصبية، ويصل عدد نقاط الاتصال على كل خلية حوالي 10 آلاف نقطة اتصال، وهذه الأرقام تعطينا فكرة عن تعقيد عمل هذه الشبكة. وتتجمع معظم هذه الخلايا لتشكل القشرة الدماغية ويتباين تركيزها وكثافتها في المناطق المختلفة لتشكل مجموعات عمل مختلفة تكون بمجموعها مجمل عمل الدماغ، وهو ما يسمى بالعقل، ويقسم الدماغ مناصفة إلى قسمين الأيمن والأيسر، ويقسم كل منهما إلى مجموعة فصوص، الجبهي والصدغي والجانبي … الخ، يؤدي تجمع الخلايا في كل منها جملة وظيفية تتكامل مع الوظائف الأخرى، فمثلاً يعنى الفص الجبهي بالحركة العضلية الإرادية في حين تعنى مقدمته بطبيعة الميول الشخصية للفرد، فيما يقوم الفص الجانبي بوظيفة التحسس، ويشتمل الفص الصدغي على الجهاز الحافي المسؤول عن العواطف والغرائز، ويعتبر قسم الدماغ المحتوي لمراكز الكلام هو الجزء المسيطر، وهو على الأغلب الجزء الأيسر في مستعملي اليـد اليمنى، مما يؤشر على أهمية اللغة في تكوين السلوك البشري، ويذكرنا بالحديث النبوي الكريم "المرء بأصغريه قلبه ولسانه".
بقي أن نعرف أنه فيما يتحدُد عدد خلايا الدماغ جينياً وخلقياً فإن الصلة بين هذه الخلايا تتكون بفضل التجربة البشرية بين البشر فيما بعضهم، وبينهم وبين البيئة وما يحتمل في داخل الفرد الواحد، ولعل كل تجربة خاصة أو ذات مغزى تخلق شبكتها وخطوطها الخاصة وتخزن في الذاكرة مما يمكن استرجاعها عن طريق الذاكرة، وكلما كانت التجربة أكبر وأكثر عمقاً كان ما تؤسسه داخل الدماغ وما ترسمه من خطوط أكثر وضوحاً، ولعل فيما يقال أدبياً أن الأيام تحفر أثرها على الدفاع البشري له جانب كبير من الصحة، وإذا كان الدماغ هو الجهاز فإن العقل يشكل الوظيفة الكلية، وفي اللغة العربية فإن العقل يعني الربط والنهي والسيطرة والتحكم وقد ورد في لسان العرب "العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها"، وهو ما يشابه المفهوم الفرويدي للأنا والأنا العليا، وقد لامس الشاعر الكبير المعري هذا المفهوم حين قال :
نهاني عقلي عن أشياء كثيرة
وطبعي إليها بالغريزة جاذب
موضحاً بذلك الدور الكابح للعقل على الغرائز والموائم بالتالي للرغبات الملّحة مع الواقع المتاح. وفي الفقه الإسلامي وردت كلمة عقل بالترادف أحيانا وبالدلالة الجزئية أحيانا أخرى مع ,قلب,روح, ونفس, فقد ورد في الذكر الحكيم"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" وقلب هنا بمعنى عقل. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لكل إنسان نفسان, إحداهما نفس العقل الذي يكون به التمييز, والأخرى نفس الروح الذي به الحياة.
وعودة لموضوعنا فإذا ما ألقينا نظرة مقارنة على عقل الرجل والمرأة فإننا نجد الفروق تتكون على النحو التالي: يزيد عدد الخلايا في عقل الرجل عن تلك في عقل المرأة بحوالي 4% في حين تزداد بشبه شبكات الاتصال في عقل المرأة أكثر من الرجل، وهذا يعني بالواقع العملي أن النساء أكثر تأثراً بالتجارب من الرجال وأكثر احتفاظا بها، وتذكرا لها وفي العلاقات بين الرجل والمرأة قد يلاحظ الرجل تذكر المرأة للآثار الشخصية للأحداث بما يدهشه أحياناً كأن تذكر بأنه لم يتذكر عيد ميلادها قبل 10 سنوات أو أنه أو أمه قد قالت لها كلمة جارحة في أحد المواقف من سنوات.
وفيما يتعلق بتمايز وظائف عن أخرى نجد أن المناطق المتعلقة باللغة استقبالا أو إرسالاً هي عند المرأة أكبر من الرجل بنحو 13% استقبال و23% إرسال، في حين أن المناطق المتعلقة بالقياس والأبعاد والتجسيم هي عند الرجل أكثر، وبهذا نجد في الحياة العملية أن المرأة تميل للتحدث أكثر وشرح المشاكل في حين يميل الرجل للصمت. وقد تشكو المرأة من أنها لا تجد آذاناً صاغية من زوجها في حين قد يشكو هو من كثرة تدقيقها وحديثها في التفاصيل، وحتى في المجال العاطفي فإن المرأة تتأثر بحديث الرجل, بل وحتى في نغمة حديثه, وسلوكه الدافئ أكثر من مظهره "فالأذن تعشق قبل العين أحياناً"، في حين أن الاستثارة العاطفية عند الرجل تبدأ بالمظهر, وبالمصطلح العلمي فإن الرجل يكون Visuspatial في حين أن المرأة Verbal.
الرجل أبرع في قياس المسافات والأبعاد والاستدلال على الأماكن وأقل براعة في قراءة التفاصيل والعواطف, من الصعب أن يضيع الرجل طريقه أو تضطرب عليه الاتجاهات أو تقدير المساقات أثناء السياقة لكن من السهل جدا أن يضيع مفاتيحه, قلمه ساعته ويبحث عنها فلا يجدها في حين تجدها زوجته بلمحة بصر. فهل لاحظت سيدتي كيف ينفعل زوجك إذا تدخلت في طريقة سياقته ؟ هل لاحظت سيدي كيف أن زوجتك تكتشف أية نظرة مختلسة لسيدة أخرى مهما كانت خاطفة، وفيما يتعلق بالصلة بين الدماغ الأيمن والأيسر نجد أن هذه الصلة أوسع لدى المرأة ولذلك في بعض حالات الجلطات الدماغية المؤثرة على مراكز النطق يكون تأثر المرأة أقل وشفائها أسرع. ويقال إن الأبحاث قد أثبتت أن كتلة الألياف العصبية الواصلة بين نصفي الدماغ, أكثف بنسبة 30% لدى المرأة, مما يسمح بوجود تواصل أكبر بين الخلايا العصبية. والنصف الأيسر مسؤول عن التفكير المنطقي والتحليلي, الرياضي والحسبي في حين أن الأيمن مرتبط بالتفكير العاطفي, الخيالي والإبداعي وأحيانا يقال إن النصف الأيسر رياضي والأيمن موسيقي.
لدى الرجال يقال إن النصف الأيسر أكثر تطورا لدى الرجل أما لدى المرأة فهما متساويان, كما أن اتصالهما عند المرأة أقوى لذا بإمكانها أن تشغلهما معا أما الرجل فهذا صعب عليه ... عمليا ماذا قد يعني ذلك ؟ يعني أن دماغ الرجل قد يكون تراتبيا ووظيفيا أما دماغ المرأة فيكون شموليا، فالمرأة لا تستطيع فصل عواطفها عن تفكيرها، إذا تحدث معها الرجل تستقبل المعلومة والنبرة، إذا تحدثت هي فتريد التواصل وتوصيل المعلومة لا مجرد التوصيل فقط, وهذا ما قد نلاحظه مثلا في استعمال الهاتف, المرأة قد تتصل بصديقة فقط لمجرد الحديث, الرجل على الغالب يتصل لسبب محدد, للاستفسار أو للطلب ومكالمته عادة أقصر وأكثر تحديدا... الكلام عند المرأة يصدر عن نصفي الدماغ وعند الرجل عن الأيسر...!
عقل الرجل المنظم والمقسم وظيفيا يغلب عليه أن يكون متوجها لهدف دوما وليس لمجرد التواصل, فمثلا في الحديث عن أي موضوع قد يتوه الرجل إن أغرقت المرأة في الحديث عن التفاصيل وقد يفقد تركيزه ويبدو عليه الضجر وعدم الاهتمام كلما تأخر الوصول للنتيجة النهائية, لذلك في كثير من الأحيان تنصح المرأة بعدم الاستغراق بالتفاصيل أو ربما يكون من الأجدى أن تبدأ حديثها من الآخر..
المرأة تتحدث وتسمع في آن معا أما الرجل فذلك بالنسبة له صعب ولذلك دوما يستغرب الرجال من الجلسات النسائية وبالذات إذا تحدثت أكثر من سيدة في آن معا. ويقال إن الفتاة بسن الثالثة تمتلك ضعف مخزون الفتى من الكلمات, وأن المرأة تتكلم معدل 7000 آلاف كلمة في اليوم في حين لا يتعدى الرجل الـ 3000. ينطبق الأمر نفسه تقريبا على الزيارات الاجتماعية ففي المعدل زيارات المرأة وتواصلها مع صديقاتها أكثر، حتى في المتعة والتسلية تكون متعة الرجل وربما هدفه الفوز والإنجاز أما المرأة فالمتعة والتواصل. وينعكس ذلك أيضا على كثير من السلوكيات المتباينة, فمعظم سلوكيات الرجل موجهة لا يذهب إلى السوق مثلا إلا لشراء شيء محدد, أما المرأة فقد تذهب للسوق لمجرد الاستمتاع والفرجة ويفوق ما قد تشتريه بدون تخطيط أضعاف ما تكون قد خططت له ولعل مراقبة بسيطة لسلوك زوجين في سوق تظهر الكثير, تدخل المرأة أكثر من محل, وتقلب وتقيس في حين يكون الرجل يتلوى قهرا.
حين يواجه الرجل صعوبات يميل إلى الصمت والانسحاب ونادرا ما يحاول الفضفضة والتعبير عما يجول بداخله طلبا للمساعدة بينما قد تجد المرأة في الحديث تفكيرا بصوت مرتفع يساعد على التفريغ والحل وفي أوقات الأزمات نجد أنها تتضايق من صمته بينما يتضايق من ثرثرتها. ...... سيدتي ...رجلك الصامت يمثل تحد لك , اقبليه، سيدي حديث زوجتك يمثل تحد لك ...استمع
وأما الجهاز الحافي Limbic System وهو الجهاز المسؤول عن العواطف والغرائز فإن ذلك الجهاز في المرأة أكبر من الرجل وأكثر أثراً على السلوك، ولذلك فإن المرأة أكثر ملاحظة للتغيرات العاطفية بأي شكل لفظي أو حسي أو حركي، كما أنها أكثر وأدق تعبيرا عن عواطفها من الرجل كما أنها أكثر قدرة على الارتباط والرعاية ومن الراجح الآن أن الجهاز الحافي مسؤول عن غريزة الأمومة وبغض النظر عن تباين الثقافات لم يعرف ولا يعرف عن أي مجتمع شكل فيه الرجل الراعي الرئيسي للأطفال.
المرأة تقوم بالعطاء والرعاية غريزيا –هل لاحظت يوما كيف تبدأ المرأة الطعام, تصب للجميع قبلها.
وفي العلاقة بين الرجل والمرأة تحديداً بحد أن الرجل يميل للاستقلالية والسيطرة، وتمثل قيم التراتبية وحتى العدوانية له أهمية كبرى في حين تميل المرأة إلى أن يقدرها الرجل لذاتها لا لمكانتها الاجتماعية أو لإنجازها، وهذا لا يعني أن المرأة لا تعنى بالإنجاز وإنما ما تقصده يتعلق بالعلاقة الثنائية. وتحتاج المرأة دوما لتشعر أنها محبوبة ومرغوبة ويحتاج الرجل دوما إلى الشعور أنه كفء ومفيد. وقد عزت بعض الدراسات الاجتماعية سيطرة الذكورة وقيمها وتحديدا العدوانية والتراتبية إلى عدة عوامل منها الندرة والصراع على الموارد والانتقال إلى المرحلة الرعوية، في حين كان يقال أنه في المرحلة السابقة كان تقسيم العمل قائماً على قدرة الرجل العضلية وتفوقه في تقدير الإبعاد والمسافات واستخدام ذلك في الصيد، وعلى قدرة المرأة الغريزية في البحث عن الأمان والرعاية. كما يعتقد إلى حد بعيد أن هرمون التستوستيرون الموجود بشكل كبير لدى الذكور هو المسؤول عن نزعة العدوانية والسلوك العدواني وبحث الرجل عن الغلبة والقوة والتفكير بالفوز قبل التفكير بالاستمتاع حتى في اللعب الودي.
وإذا ما أمعنا النظر في الدراسات الإحصائية المتعلقة بالأمراض النفسية على ضوء الفروق التشريحية والاجتماعية لوجدنا أن هناك توازناً في الأمراض التي يطغى عليها العامل البيولوجي في حين أن الأمراض المتأثرة بالبيئة وتحديدا الاجتماعية إضافة إلى العامل البيولوجي، تكون المرأة أكثر تأثراً بها، فمثلاً مرض الفصام يتساوى انتشاره بين المرأة والرجل في حين أن المرأة أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بالنسبة 1:2، بل لوحظ أنه في الأطفال تتساوى النسبة، بينما يبدأ الفرق بالاتساع بعد سن المراهقة أي بعد اتضاح الدور الاجتماعي لكل منهما مما قد يشير إلى العبء الملقى اجتماعيا على المرأة وأثر ذلك عليها سلباً. وفيما تشكل محاولات الانتحار في النساء ثلاثة أضعاف مثيلاتها في الرجال فإن عدد الرجال الذين يموتون بسبب الانتحار يصل إلى أربع أضعاف عدد النساء ولعل مرد ذلك يرجع إلى عنف الأساليب المستخدمة من قبل الرجال كإطلاق النار كما أن الرجال أكثر تحوطا واقل تعبيرا عن مشاعرهم ونواياهم.
أمراض القلق تبدو نسبتها في النساء أعلى من الرجال فيما عدا حالات الوسواس القهري والرهاب الاجتماعي وفي حين تتجه البحوث إلى المزيد من التفسير العضوي لمرض الوسواس القهري, يعزى عدد الرجال المتزايد في الرهاب الاجتماعي إلى كونهم أكثر عرضة للمواقف المرسبة لأعراض الرهاب مثل الخطابة والاجتماعات العامة وما إلى ذلك. وأما أمراض الطعام مثل القهم والنهم العصبي وكذلك الأمراض النفسجسدية والأعراض التحويلية التي تتسم بالصراع النفسي العميق على مستوى الشخص نفسه ومستوى شخص-شخص ومستوى شخص ظروف يبدو أيضا أن المرأة أكثر عرضة للإصابة بها من الرجل.
أما حالات الخرف فإن عدد النساء اللواتي يعانين من مرض ألزهيمر مثلا أكبر من عدد الرجال في حين أن الحالات الحادثة أو الجديدة متساوية ولعل مرد ذلك إلى أن معدل أعمار النساء أطول من الرجال, وفي السابق كان يعتقد أن السبب يكمن في أن عدد خلايا دماغ المرأة اقل بنسبة 4% إلا أن هذا الأمر يبدو بحاجة إلى المزيد من الاستقصاء على المستويين البيولوجي والإحصائي.
وبعد...أين ينتهي البيولوجي وأين يبدأ الثقافي والاجتماعي والبيئي وكيف يؤثر كل في الآخر وأيهما السبب وأيهما النتيجة سؤال طرح نفسه على العقل البشري بأكثر من شكل وعلى مر العصور من الجبر والقدر إلى الجينات والبيئة.
واقرأ أيضًا:
عقل المرأة / دماغ المرأة ودماغ الرجل
التعليق: الدليل على وجود فرق بين دماغ الرجل والمرأة وظيفيا وتشريحيا تم نقضه منذ أكثر من عامين بعد عمل دراسة ذات عينة كبيرة وبالتالي أصبحت قوتها الإحصائية عالية ولا تقبل الجدال.
مرض الفصام أكثر انتشاراً في الذكور وهذا متفق عليه. الدراسات حول الاختلاف بين عقل الرجل والمرأة جميعها دراسات صغيرة ولا قوة إحصائية لها وحين يتم نقضها لا يشير إلى ذلك الكثير.
كذلك الحال مع الأداء اللغوي والمعرفي وغير ذلك. بعبارة أخرى لا يوجد دليل على وجود أي فرق بين دماغ الرجل والمرأة.