الفصل السابع عشر
ينبغي أن يتعارف الأصدقاء حتى يكون تواصلهم عن بينة، وأن يذكر أحدهم للآخر ما يكنه من إعزاز وحب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحبَ أحدُكُم أخَاهُ فليُخبِرهُ أنَّهُ يُحِبُهُ" – أخرجه أحمد.
وعن أنس رضي الله عنه: كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر رجل فقال: يا رسول الله إني أحب هذا.
قال: "أعلمته؟"
قال: لا
قال: "فأعلمه"
فلحقه فقال: إني أحبك في الله.
فقال: أحبك الذي أحببتني له - أخرجه أبو داود.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا آخى الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو، فإنه أوصل للمودة"- أخرجه الترمذي.
ولا شك أن لتجانس المزاج والتفكير مدخلا كبيرا في تأسيس الصداقات وتوثيق الأواصر، وقد قيل: "رُب أخ لك لم تلده أمك"، فقد يلتقي المرء في زحام الحياة بمن يحس سرعة التجاوب معه والانجذاب إليه، وكأنما سبقت المعرفة به من سنين، يقول المثل: "لقاء الأحبة تسلية من الهموم". وهذا مصداق الحديث: "الأرواحُ جُنودٌ مُجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختَلف"– أخرجه البخاري.
لكن هذه العاطفة يجب أن يحكمها سلطان العقيدة، ونظامها، هذا السلطان الذي يستوحيه المؤمن في اتجاهات قلبه كلها فيجعله يحب في الله من لم يطالع لهم وجها، لبعد الشقة أو لسبق الزمن، ويكره كذلك من لم يُخالِطُهم في حضر أو سفر، لا لشيء إلا لأنه يود الأخيار ويكره الأشرار، واتجاهات القلب على هذا النحو الخالص ترفع صاحبها درجات فوق منزلته.
عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل عملهم.
قال: "أنت يا أبا ذر مع من أحببت" – أخرجه الترمذي.
ومن سنن الإسلام في الصداقة أن التزاور يجب أن يكون خالياً من كل غرض، خالصاً لوجه الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا زار أخاً له في قرية، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟
قال: أريد أخاً لي في هذه القرية.
قال: هل لك عليه من نعمة تربها.
قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى.
قال: "فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه"- أخرجه البخاري.
إن هذه الخطوات غالية، إنها كخطى المجاهدين في سبيل الله تحظى بأجل الثواب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضا أو زار أخاً له في الله، ناداه مناد: بأن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً" – أخرجه أبو داود.
وقال: ما من عبد أتى أخاه يزوره في الله إلا ناداه مناد من السماء أن طبت وطابت لك الجنة، وإلا قال الله في ملكوت عرشه: "عبدي زار في وعلي قراه، فلم يرض له بثواب دون الجنة" – أخرجه مسلم.
والمسلم وإن كان يحب النفع للناس كافة، فهو لنفع أصدقائه أحب، ولما يصلهم من خير أفرح، ولا بأس إن وجد فضلاً أن يذكر منه أصحابه:[ولا تَنْسَوا الفَضَلَ بَينَكُمْ إنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلوُنَ بَصِير] (البقرة 237). وقد استحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تبادل الهدايا بين الأصدقاء فقال: تهادوا فإن الهدية تٌذهِب وحر الصدر (غشه ووسواسه)- أخرجه الترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيـــب عليها - أخرجه البزار.
على أن هذا الأدب العالي إذا خرج به التكلف عن حدوده أصبح مكروها، فإن الإسلام قام على محاربة التصنع مع إشاعة البساطة. وكل مسلك ينطوي على الإحراج و المداهنة فالإسلام منه برئ، إنما يهدف الإسلام إلى إحاطة الصداقة بألوان من المجاملة التي تحسن مظهرها بعد أن يطمئن إلى سلامة جوهرها، وأن يجعل منها وسيلة لتيسير الحياة وتخفيف متاعبها.
"خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" – أخرجه الحاكم.
إن الإسلام أباح للشخص أن يأكل من طعام صديقه كما يأكل من طعام والديه وإخوته والأقربين منه: [أنْ تَأكُلوا مِنْ بُيوتِكُم أو بُيوتِ آبائِكُم أو بُيوتِ أُمهَاتِكُم أو بُيوتِ إخْوانِكُم أو بُيوتِ أَخَواتِكُم] إلى أن قال: [أو مَا مَلكْتُم مفَاتِحَهُ أو صَدِيْقِكُم] (النور 61). ولا غرو، فعقد الصداقة كبير القيمة، جليل الأثر، حتى إنه ليكون مظنة النجدة في الأزمات الطاحنة ولو كانت هذه الأزمات النجاة من عذاب جهنم.
قال تعالى في وصف حال المشركين حين يقاسون العذاب: [تاللهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينْ. إذْ نُسوِّيِكُمْ بِرْبِ العَالَمِين. ومَا أضلّنَا إلا المُجْرِمُون. فَمَا لَنا مِنْ شَافِعِين. وَلا صَدِيقٍ حَمِيم] (الشعراء 97 – 101).
ولما يرتبط بهذه الصداقات من حقوقٍ عظام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تُصاحِبْ إلا مُؤمناً، ولا يَأكُل طعامُك إلا تقي"- أخرجه أبو داود.
وقلت: أخٍ!!، قالوا: أخٌ من قرابة؟ فقلت لهم: إن الشكول أقــارب
صديقي في حزمي وعزمي ومذهبي وإن باعدتنا في الأصول المناسب
ومعنى البيتين: أقول عن صاحبي أنه أخ لي، فمن يتوافق معي في الطباع هو أخ لي، وصديقي هو من يكون معي فيما أعزم عليه وأقوم به، وإن لم يكن بيني وبينه أي قرابة.
وأغمض عيني عن صديقي كأنني لديه بما يأتي من القبح جــاهل
وما بي جهل غير أن خليقتــي تطيق احتمال الكره فيما أحـاول
متى ما يريبني مفصل فقطعتــه بقيت ومالي في نهوضي مفاصل
ومعناه: أتجاهل إساءة صديقي وكأنني بما يصنع من الزلات غير عالم ولست بجاهل عن ذلك ولكن طبعي يتحمل المكاره من الآخرين فإنني إن أصابني الشك في مفصل فقطعته لم يبق لدي مفاصل تعينني للنهوض، ولكنني أداريه فإن صلح أعانني وإن بقي على حاله احتملته.
يقول المعري:
إذا كان إكرامي صديقي واجبا فإكرام نفسي لا محالة أوجب
ومعناه: إذا كان من الواجب علي إكرام صديقي واحترامه فإن احترامي لنفسي أوجب وأحق.
يتبع >>>>>>>>>>> الإخاء