الفصل الثامن عشر
لقد بنى الله سبحانه وتعالى الكون كله على نظام دقيق مذهل لا مكان فيه للفوضى والاضطراب، قال سبحانه: "... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً"(الفرقان:2)، وقال سبحانه: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)"(الأعلى: 1-3).
وضمن هذه الإحكام، ولحكمة باهرة أعطى سبحانه الإنسان قدراً من الحرية والاختيار ابتلاءً وامتحاناً وخلال هذا القدر من الحرية يستطيع الإنسان أن ينظم حياته أو أن يبقيها فوضى مضطربة ودواعي التنظيم لحياة الإنسان تحيط به في كل ذرة من هذا الكون في تقلب الليل والنهار واختلاف الفصول والأحوال ونضوج الثمار وتوالد الحيوان، فالنظام هو سمة وعنوان الكون كله من الذرة إلى المجرة.
وجاء شرع الله مرسخاً لهذه الحقيقة الكونية في تعاليمه وأحكامه في العبادات والمعاملات، وإذا لم يستجب الإنسان لكل هذه الدواعي والمؤثرات، ونظم ما بقي من حياته - بما أُعطِي من حقٍِ في الاختيار – فسينتج الاضطراب والصراع مع جميع المخلوقات من حوله وهو الضنك والتعب والتعاسة في حياته وهو الإخفاق وقلة الإنتاج وضآلة العطاء في أعماله، ثم النهاية أن يصاب الفوضوي بالإحباط واليأس والتوتر والقلق حين يرى الناس وقد قطعوا شوطاً بعيداً في الحياة وهو ما زال يراوح في مكانه، والنتيجة النهائية لذلك كله ضياع الوقت الذي هو إهدار الحياة ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
ويمكننا أن نعرّف التنظيم تعريفاً مبسطاً سهلاً فنقول:
إنه استخدام الوسائل الممكنة لتحقيق الأهداف المنشودة من خلال خطة محكمة.
وهذا يستدعي الإلمام بالأمور الآتية:
1- حجم الوسائل المطلوبة.
2- معرفة أهمية كل وسيلة.
3- معرفة وتحديد مكان كل وسيلة من العمل.
4- ضبط الوقت الذي يحتاج فيه إلى كل الوسائل الممكنة.
وقبل ذلك كله صياغة الأهداف بعناية، وليكن جميع ذلك من خلال خطة واضحة المعالم.
بعض أسباب الفوضى وعدم التنظيم للحياة:
1- التهاون في استغلال الوقت وتضييعه في التوافه من الأمور، وما أصيب العاقل بمثل مصيبة ضياع الأوقات؛ لأن اللحظة التي تمر لن تعود أبدا، وكما ورد في الأثر أنه ما من يوم ينشق فجره إلاّ وينادي منادٍ: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد لا أعود لك إلى يوم القيامة؛ فتزود مني بخير، فالعاقل يدرك أن الزمن هو عد أنفاسه التي يتنفسها، وأن الدقيقة إذا مضت وانقضت فهي نقص من حياته كما قال الشاعر :
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
ولذلك ينطلق العاقل في حياته مستثمراً لكل لحظة منها أجدى وأفضل استثمار لعلمه أن الله سيسأله عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه.
أما أهلا الفوضى والبطالة فليس في حياتهم أرخص من الأوقات يقضونها في اللهو والتوافه لا يعتنون بها ولا يفكرون في استغلالها بل يتنادون لقتلها، وما علم المساكين أنهم يقتلون أنفسهم، وكما قيل: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، وما فاز وسبق فرد أو أمة على غيره إلاّ بإدراكه لقيمة الوقت ومبادرته للاستفادة منه بكل ما يستطيع.
وما أعظم ما قاله أحد السلف لآخر حين دعاه إلى بعض ما تضيعُ به الأوقات فقال له: أوقف الشمس حتى أستجيب لك!!، والنفس إذا تعودت الحرص على الأوقات واستغلالها فيما ينفع ويفيد دفعها ذلك إلى تنظيم جميع أمور الحياة التي ظرفها الزمان، ولتكن حكمتك هي: "الوقت هو الحياة فلا تضيعها وساعد غيرك على الاستفادة منها".
2- عدم التفريق بين الأهم والأقل أهمية، إذ أن بعض الناس يشتغل بالكماليات والشكليات والفروع، ويستنفذ وقته فيها، ويهدر ويفرّط في الضروريات والكليات والفرائض والواجبات، فهو كمن بذل جهده تقصيراً كبيراً في قواعد وأعمده وجدران ذلك المنزل فآل به الأمر إلى أن انهدم المنزل على من فيه ولم ينفعه زخارف الألوان والأصباغ.
وهكذا حياة بعض الناس تجري وراء المظاهر الفارغة والمجادلات الكاذبة والمناسبات التافهة، وإذا فتشت في حياتهم لتبحث فيها عن علم محقق أو عمل مفيد لم تجد، وهؤلاء وإن عاشوا فترة من الحياة في غرور لكنهم يستيقظون إذا انصرفت عنهم الحياة، ونسيهم الناس أو حل بهم الأجل وانتقلوا للدار الآخرة، حينئذٍ يدرك الإنسان أن الزبد يذهب جفاء، ولا يمكث في الأرض إلاّ ما ينفع الناس، وأن من المقاتل التي يرمي بها الباطل أهل الجد والنشاط هو صرفهم عن العمل لمعالي الأمور إلى استغلال نشاطهم في صغائر الحياة فتتكاثر عليهم الصغار وتتراكم في الانتظار الكبار فلا يكون إلا الفوضى والاضطراب.
واعلم أن صغار الأمور رجالها في الحياة كثير والزحام عليها شديد، أمّا معالي الأمور وعظائمها فطريقها شبه خالٍ من السالكين فتوجه إليه إن كنت ذا همة وعزيمة، وإليك القصة التالية، والتي أذكرها من باب الطرافة والتطرف في التعلق بصغائر الأمور من أجل الشره في جمع المال وحطام الدنيا، والذي قد يُودي بحياة صاحبه:
- لا تكن أسيرا للصغائر:
كان في قديم الزمان حطاب عجوز يذهب إلى الجبل كل يوم تقريبا ليحتطب، ويقال أن هذا الرجل كان يختزن فضته حتى تتحول إلى ذهب، وأنه كان يهتم بالذهب أكثر من اهتمامه بأي شيء آخر في العالم.
وذات يوم انقض عليه نمر في البرية، ورغم أنه ركض فإنه لم يستطع الهرب فحمله النمر في فمه، ورأى ابن الحطاب الخطر الذي وقع فيه أبوه فركض لينقذه إن كان ذلك ممكنا، وحمل معه ساطوراً، وبما أنه كان قادراً على الجري أسرع من النمر الذي كان يحمل رجلا فسرعان ما لحق به وسبقه.
لم يكن أبوه متأذيا كثيرا لأن النمر كان يمسك به من ملابسه، وعندما رأى الحطاب العجوز أن ابنه على وشك طعن النمر ناداه بفزع شديد: "لا تتلف جلد النمر، فإن كنت تستطيع قتله بدون إحداث ثقوب في جلده فإننا نقدر أن نحصل على قطع فضية كثيرة كثمن له، اقتله ولكن لا تقطع جسده!!!".
3- سوء التوقيت في إنجاز العمل إما بتقديمه عن وقته المناسب أو تأخيره عنه، ولله درُّ الصدِّيق حين قال في وصيته للفاروق رضي الله عنهما: واعلم أن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وأن لله عملا في النهار لا يقبله في الليل، والمتأمل في هذا الكون يتبين له أن الله قد جعل لكل شيء وقتاً محدداً لا يتقدم ولا يتأخر عنه كتقلب الليل والنهار وطلوع الشمس وغروبها واختلاف الفصول وإثمار الأشجار وتكاثر الحيوان، وغير ذلك.
وعلى تلك السنن الإلهي كان شرع الله المنزل كأوقات الصلوات والصيام والحج والزكاة وغيرهم من الأعمال، وبالتالي فيجب أن ينسجم الإنسان مع هذا الكون، وأن يجري على أحكام هذا الوحي فينظم حياته ويجعل كل شيء في موضعه المناسب، ومخالفة ذلك ليست إلاّ أعمالاً لا فائدة منها كمن يرجو الثمرة قبل وقتها وإلاّ أعمالاً قد مضى وقتها وانتهت فائدتها، وربمّا تعب الإنسان وكدح وعمل ولكن الفوضى في عدم ضبط الأعمال بأوقاتها؛ أفقدته ثمرة عمله.
4- عدم اكتمال العمل، فكثير من الناس تمضي حياتهم في أعمال ومشاريع يخطون خطواتها الأولى ثم يتركونها إلى غيرها قبل اكتمالها، وهكذا إلى غيرها، وتنقضي أيامهم في بذر لا يرى حصاده ولا تجنى ثماره وتتراكم الأعمال وتكثر الأعباء والحياة محدودة والإمكانات مثل ذلك وإذا بالأيام تولت، والإنسان يجري وراء سراب.
5- تكرار العمل الواحد أكثر من مرة ظناً منه أنه لم ينفذه قبل ذلك، فمثلاً الإنسان الذي يعد بحثاُ علمياً ثم يمر به حديث نبوي فيخرجه ثم يمر به فيخرّجه مرة أخرى ثم مرة ثالثة، وربمّا أكثر من ذلك فيضيع الأوقات ويهدر الجهد ولا جديد في العمل.
فالتعود على تكرار العمل بعد الفراغ منه دون حاجة لذلك يقلل إنتاج الإنسان في الحياة، ويضيع عليه كثيراً من الفرص التي كان يُمكن أن يفعل فيها الشيء الكثير لدنياه وآخرته، وهذا الأمر وإن كان من نتائج الفوضى في الحياة إلاّ أن التعود على هذا الأمر يصبح سبباً لغيره مما يتلوه من فوضى في أعمال جديدة، ولذلك كما قيل: السيئة تقود إلى مثلها والحسنة سبباً لأختها.
6- عدم ترتيب العمل عند تنفيذه وإنجازه ترتيباً منطقياً منظماً، فبعض الناس ينطلقون إلى إنجاز العمل وسواء عندهم بدؤوا بالمقدمة أو الخاتمة كمن يبني منزلاً فيبدأ بإعداد مستلزمات السقف قبل أن يبدأ في إعداد القواعد والأسس أو من يبدأ الأعداد لقطف الثمار قبل بذر البذور وزرع الأشجار.
نعم، الإعداد للأمور قبل مفاجأتها وضيق أوقاتها مطلوب ولكن بعد أن تفرغ من الإعداد والعمل لما ينبغي أن يسبقها زماناً أو عقلاً ومنطقاً، وإلاّ فرَّبما قضى الإنسان كثيراً من الأوقات، وبذل كثيراً من الجهود والإمكانات في أعمال ربّما لا ينتفع بها لعدم مجيئها في وقتها ومكانها، ويضطر لتكرارها مرة أخرى ولو تريث قليلاً ونظم عمله ورتب جهده لما خسر كل هذا من حياته وجهده وإمكاناته، والسبب في ذلك كله الفوضى والعشوائية الغوغائية، وصلى الله وسلم على من قال: "إن الله يُحِبُ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".
7- تنفيذ العمل بصورة ارتجالية وعدم التخطيط له قبل إنجازه بوقت كاف.
وهذا ولا شك من أهم أسباب الفوضى في الحياة وعدم تنظيم الإنسان لحياته، إذا بالتخطيط يحدد الإنسان أهدافه من كل عمل يقوم به ووسائله لتحقيق تلك الأهداف وكيفية استغلال تلك الوسائل ومكان كل شيء من العمل، وبدون ذلك فإنما هو الكدح والاضطراب والسير في ظلام لا تُعرَف نهايته ولا ماذا سيوصل إليه بعد ذلك، ولأهمية أمر التخطيط في حياة الفرد والجماعة فسأفرد له شيئاً من الحديث وحده.
يتبع >>>>>>>>>>> كيف تنظم يومك؟