يعد اضطراب القلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder من الاضطرابات المزمنة والمنتشرة والتي تتسم بوجود "هم" يصعب السيطره عليه Uncontrollable worry ، مصاحب بأعراض جسمانية، ويتسم هؤلاء المرضي بوجود هم يتمثل في عملية تفكير مستمرة (على الأقل 6 شهور متتالية) في موضوعات متعددة ويصاحبه أعراض جسدية كالتوتر العضلي وصعوبات في النوم وضعف التركيز حتى يصل إلى درجة يكون فيها قلقا على نفسه من كثرة التفكير والهم وقد تتعطل أدواره ومهامه اليومية.
والتركيبة المرضية في اضطرابات القلق عموما - وفق النظرية المعرفية السلوكية- تتضمن توقعات مخيفة Apprehensive expectation، عن احتمالية حدوث أحداث سلبية، ومع إدراكه لهذا التهديد يتصور ويتوقع أيضا عجزه وضعفه في مواجهتها. أي أن مستوى عال من التوقعات السلبية والمشكلات المحتملة في مقابل توقعات بصعوبة التحكم والمواجهة والتصرف "قلة الحيلة" فيلجأ إلى الدخول في عملية معرفية تسمى الهم worry والانشغال.
ويظهر الهم والقلق في صورة سلسلة من الأفكار والتوقعات والسيناريوهات السلبية التي تتعلق بأحداث الحياة والأنشطة اليومية حول الأصدقاء والعائلة والعلاقات وتبدأ غالبا في صورة تساؤل وافتراض بصيغة ماذا لو:
- ماذا لو أصيب طفلي أثناء اللعب في الملعب؟
- ماذا لو توقف خطيبي عن حبه لي وتركني؟
- مخاوف على الصحة: ماذا لو تبين أن هذا الصداع هو سرطان الدماغ؟
- ماذا لو مرضت حقًا ولم أستطع رعاية أطفالي؟
- مخاوف على مستقبلك والعالم: ماذا لو فقدت وظيفتي وأصبحت بلا مأوى؟
- ماذا لو فشلت في الحفاظ على سياج حديقتي وانهار في عاصفة؟
- ماذا لو حصلت على تقييم سيئ وطُردت من العمل؟
- ماذا لو فشلت في امتحاناتي ولم أدخل الجامعة؟
فالهم ببساطة هو أن تستخدم خيالك لتفكر في شيء أنت لا تريده، كأنه طريقة لمواجهة المشكلات التي لا تريد مواجهتها في الحياة، فعندما يقابل الشخص القلق أي موقف غامض كليا أو جزئيا يعتبر هذا الموقف أنه غير الواضح نوعا ما أنه خطر محتمل في الحياة، ويعتبره مشكلة حقيقية أو وشيكة الحدوث تستوجب الحل ويبدأ بافتراض حول الموقف ويسأل ماذا لو حدث كذا أو كذا...... ولا يقف المريض عند التساؤل ماذا لو بل يبدأ في وضع افتراضات أخرى كأن الافتراض الأول تحقق فيبدأ تخيل بقية السيناريو الكارثي ويضع تفاصيله نظريا وذهنيا لكنه في الواقع يعايش ذلك كأنه يحدث بالفعل فتبدو عليه علامات الهم والانشغال والأعراض الجسدية تنشط، ويبدأ يقوم بإجراءات وتصرفات للرد على هذه الافتراضات تسمى سلوكيات الأمان.
فإذا بدأت الفكرة ماذا لو كان تأخر زوجي، تتحور إلى احتمالية أنه تعرض لحادث؟ وتبدأ سلسلة الأفكار تتوالى ربما أصيب بجروح بالغة ماذا لو بقي في الفراش لبقية حياته؟ لن نتمكن من دفع ثمن منزلنا ماذا لو لم أتحمل رعايته وهو مريض وانفصلنا؟ ماذا لو صرت وحيدة وماذا لو صار أولادي يتامى. هل يمكن أن يكون تم الحادث ونقل للمستشفى وحالته خطيرة؟ ، فالاستجابة السلوكية هي الاتصال به أو إحضار التليفون والتأكد من بطاريته تحسبا لاتصال المستشفى بها أو قمع الفكرة أو استبدالها بفكرة أخرى محايدة أو إيجابية أو التشتيت والإلهاء برفع صوت التليفزيون والتركيز في المسلسل أو غير ذلك من التصرفات التي ليس لها هدف سوى الرد على فكرة القلق والهم.
تبدو هذه المعاناة واضحة أكثر عندما يتعلق هذا الهم بعدة أحداث وبشكل يومي متكرر على مدار شهور وسنوات حتى تتعطل بعض الأدوار الحياتية نتيجة الانشغال والكرب النفسي لمريض القلق، ليبدو نوع جديد من الأفكار والهم وهو الهم من الهم أو القلق من حالة القلق التي صار فيها بمعنى أن الشخص يبدأ يقلق على نفسه من استمرار هذا الوضع وحالة التفكير غير المتحكم فيه فيقول مثلا يبدو أنني لو ظللت أفكر وأنشغل سيحدث لي شيء سيء، ربما أصاب بالجنون أو المرض. هذا يسمى هم من حالة الهم.
أي أن النوع الأول من الهم هو القلق المتعلق بموضوعات الحياة، أما النوع الثاني من الهم فهو الهم من الحالة التي وصل إليها وتخوفه على نفسه، وهذا يعني أن الأشخاص القلقون يقضون الكثير من وقتهم في مستقبل محتمل نظريًا، لكنه غير موجود فعليا. لذلك يفرق الباحثون بين نوعين من الهم والقلق لدى مرضى القلق "القلق والهم المرتبط بالموضوعات" والقلق والهم المرتبط بالحالة التي وصل إليها الشخص من كثرة التفكير والأعراض الجسدية.
بينما يمكن أن نتساءل هل كل الهم سيء وضار؟ هنا يتم التمييز بين نوعين من القلق والهم الذي يخص الأسوياء والهم والقلق الذي يخص أشخاصا يعانون من اضطراب القلق:
(1) قلق تكيفي: يتعلق بمواقف خارجية يمكن ملاحظتها؛ مثلا جدال مع صديق هل هو غاضب من تصرفي؟ قلق بشأن بقاء الشخص فترة بدون عمل؟ أي تتعلق بالمشكلات الحالية (المشكلة موجودة بالفعل)، المهموم بقلق طبيعي ومقبول سيقول أن لا يجب أن أقلق أقلق بشأن الأشياء التي ليس لي حيلة فيها. ومن السهل تجاهل الأفكار المقلقة.
(2) قلق غير تكيفي: يتعلق بمخاوف من أحداث لم تحدث ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بها وليس له تحكم فيها الآن وليس لها حلول واضحة ويظل منشغل بالتفكير دون أن يترتب على ذلك أي عمل. مثلا هل يمكن أن أمرض يوما ما؟ هل يمكن أن أتعرض لأزمة مالية في حياتي؟ وحينها لن أستطيع دفع الفواتير....؟ من المحتمل أن تتعرض زوجتك لحادث سيارة ؟ من المحتمل أن يخطفوا ابني من المدرسة. أي تتعلق بحالات افتراضية (المشكلة ليست موجودة بعد، وفي كثير من الحالات، لن تفعل شيء تجاهها. والذي يعاني من القلق غير التكيفي سنجده يقول "بمجرد أن أبدأ في القلق، لا أستطيع التوقف، والعديد من المواقف تجعلني أقلق. وهكذا ووفقا لذلك يمكن تقسيم القلق غير التكيفي إلى نوعي الهم والقلق الذي سبق الإشارة لهما وهما قلق حول الأحداث الحياتية، وقلق حول عواقب القلق على الشخص صحيا.
لماذا يحدث الهم؟
أحد الأسئلة المهمة التي حاول الباحثون الإجابة عنها هو لماذا يدخل المريض أساس في حالة الهم والتفكير المستمر في موضوعات ليس له تحكم فيها ويقوم بما يسمى الهم أو الاجترار المستقبلي للأحداث؟ يجيب دوجاس وروبيشود عن السؤال ?Why Worry بأن هناك مجموعة من المعتقدات الإجيابية أو الأسباب الما وراء معرفية هي التي تجعل الشخص يدخل في عملية الهم باعتبارها عملية معرفية واستراتيجية تكيف لكنها للأسف غير تكيفية وغير مفيدة فمثلا:
1- الهم يساعدني على حل المشكلات: فيعتقد الشخص القلق مثلا:
• من خلال القلق، يمكنني أن أجد طريقة أفضل للقيام بالأشياء.
• أشعر بالقلق لأنني أعتقد أنه يمكن أن يساعدني في إيجاد حل مشكلتي.
• من خلال القلق، يمكنني أن أجد طريقة أفضل للقيام بالأشياء
• عندما أكون قلقا ومنشغلا بالتفكير فهذا يساعدني في التخطيط وحل المشكلة.
2- الهم يزيد من دافعيتي للعمل والإنجاز فيعتقد الشخص القلق مثلا:
• القلق يحفزني ويجعلني أكثر فعالية
• القلق والتفكير المستمر يدفعني للعمل وإنهاء المهام
3- القلق والهم يحميني من الشعور بالذنب فيعتقد مثلا:
• عندما أكون قلقا حول أمر ما خطير يمكن أن يحدث، حين حدوثه سأشعر بالذنب أقل.
• إذا حدثت مصيبة، فسوف أشعر بمسؤولية أقل إذا كنت قلق بشأنه مسبقًا.
• إذا كنت قلقًا، فسوف أكون أقل انزعاجًا عند وقوع أحداث غير متوقعة.
4- القلق يمكن أن يحميني من الأحداث السلبية فيعتقد مثلا:
• التفكير كثيرًا في الأشياء السلبية يمكن أن يمنعها من الحدوث.
• الدخول في الهم والقلق نفسه يمكن أن يمنع وقوع الحوادث المؤسفة.
5- القلق سمة إيجابية فيعتقد مثلا:
• إن لم أقلق، فسأكون مهملاً وغير مسؤول.
• كوني شخص قلق تؤكد أنني شخص حكيم.
ويشير أدريان ويلز (2011) Adrian Wells إلى أن الهم والقلق يرتبط ببعض المعتقدات وراء المعرفية التي تبدو في ظاهرها إيجابية لكنها مرهقة وغير مفيدة تتضمن هذه المعتقدات أن القلق يساعدني في التأقلم ةالتكيف ويجعلني مستعدا ويجعلني مسيطرا على الأحداث ويشعرني بالتحكم ويجعلني أتوقع المشكلات وأتجنبها.
مؤكدا أن هذه الافتراضات هي معتقدات وسيطة لا تظهر على السطح والوعي بسهولة فيمكن أن يجد الشخص صعوبة في التعرف عليها وتصديقها بل يجد المختص صعوبة في كشفها والتعامل معها لأنها معتقدات ما وراء معرفية تقف خلف التصرف خاصة إذا كان التصرف عملية معرفية. كذلك من المهم أن نشير إلى أن القلق أمر نسبي على متصل ومدرج يختلف منشخص لآخر فيمكن أن يمارس الكثير من الأشخاص القلق دون أن يدرجوا تحت مسمى مضطربي القلق.
وهناك معتقدات أخرى تبدو واضحة ويرددها المريض ولكن غالبا ما يذكرها في شكواها بالعيادات عندما يصل لمرحلة من التعب والإنهاك النفسي بسبب القلق، هذه المعتقدات وفقا لويلز (2011) Wells تعتبر سلبية وواضحة وتقف خلف النمط الثاني من الهم عندا يشكو المريض من آثار حالة القلق عليه، ويبدأ في الاعتقاد بأن "يمكن أن أفقد عقلي بسبب حالة القلق التي أنا فيها." و"القلق سوف يضر جسدي." و"يمكن أن أصاب بالجنون من كثرة الهم." و"سوف أعاني من انهيار عقلي بسبب القلق".
إذا كانت هذه المعتقدات تقف خلف القلق والهم فإن ما يجعل الشخص يمارس عملية الهم دون أن يتوقف أو يتحقق من فعاليتها هو ما يعرف بسلوكيات الأمان التي تجعل المخ يدرك أن الخطر الذي نبهنا له أمر مهم بدليل أن الشخص استجاب للفكرة الأولى ودخل في عملية تفكير وانشغال. فيشير الباحثون لأهمية وقف سلوكيات الأمان والطمأنة التي تلعب دورا مهما في استمرار الهم لدى الشخص، فأي سلوك يفعله الشخص ردا على فكرة أو مخاوف مرضية هو غالبا سلوك أمان غير مفيد وليس له علاقة بالنتائج التي يمكن أن تحدث وفقا لتوقعات مرضى القلق.
أمر في غاية الأهمية هو ضرورة التأكيد على أن الجميع لديهم أفكار قلق لكن ليس الجميع لديهم عملية معرفية تسمى الهم والاجترار المستقبلي للأحداث ورسم سيناريوهات كارثية لا يترتب عليها عمل وإجراءات. فجميع البشر لديهم فكرة أولى تبدأ بماذا لو؟ لكن أغلب الأسوياء يتجاوزنها سهولة ويعطونها أهمية أقل ولا يتفاعلون معها، بينما المرضى يعطون الفكرة الاولى أهمية بالغة وينخرطون في الهم غير المفيد. كذلك يختلف الأسوياء عن المرض في عملية تقبل الغموض وتحمله بينما الشخص القلق لا يستطيع تحمله ويبدأ في التفكير وكأن كثرة التفكير ستكشف له غموض الموقف المستقبلي الافتراضي الذي ربما يكون أمرا قدريا أو لا مسئولية عنه في وقوعه أو منعه.
فالشخص القلق يبدو له أي موقف غامض ليس فيه تأكيد كحدث مؤذي ومصيبة محتملة الحدوث وتستدعي الكشف عن احتمالية حدوثها والاستعداد قبل وقوعها. والتنبه للمخاوف وهذا يجعل انتباه الشخص القلق زائدا في حالة من "التيقظ المفرط" وبالتالي سيحدث تحيز في الانتباه فيرى المخاوف المحتملة بمنظار غير دقيق، وسيتخيل أي موقف أو إشارة محايدة أو طبيعية على أنها خطر، مثل من يخاف من الدم فحين يرى شيئا لونه أحمر سيحصل الانتباه على صورة الدم، ومن يخشى الثعابين سيتصور سريعا أن الحزام أو الحبل هو ثعبان وموضع خطر، هكذا يعمل عقل الشخص القلق من أجل حمايته في الطوارئ وعندما يستجيب بسلوكيات الأمان فكأنه يعزز انتباه العقل ويقول له شكرا جزيلا، نبهني دائما وأنا معك أستجيب.
تأجيل الاجترار:
إحدى الحلول التي تقدم في وقف عملية الهم. هي تأجيل الاجترار والهم أو تحديد وقت محدد للهم وهو تكنيك مستخدم في العلاج ما وراء معرفي ويكون ذلك كالآتي:
- التعرف على حالة الهم التي يدخل فيها الشخص وتسميتها "مثلا حالة الهم – أو التفكير والانشغال".
- تحديد عيوب هذه العملية: كم من الوقت تأخذ؟ هل تصل بي لحلول؟ كم مرة أفكر ولا أصل لحلول فيما يتعلق بهذا الأمر؟
- الوعي بها والاتفاق على تأجيل التفكير في بعض الهموم الافتراضية لوقت محدد وليكن ساعة بالنهار لا أفكر قبلها ولا بعدها وأركز في مهامي اليومية، وكلما انتبهت لهذه الحالة أعود بكل رفق وهدوء وأقول لدينا موعد محدد للتفكير والآن أعود لمهامي اليومية وهكذا إلى الوقت الذي سينسى فيه الشخص التفكير في هذه الساعة لأنها عملية غير مفيدة.
ميزة هذا التأجيل أنه يؤكد للعقل أن الانشغال والهم غير مفيد فلا تدفني له، كما أن يجمع الهموم المتفرقة خلال اليوم لوقت محدد، كما أنه يمنع سلوكيات الأمان.
ويمكن صياغة هذا التكنيك بطريقة أخرى تسمى "شجرة الهم" وهي طريقة تساعد على التمييز بين الهم التكيفي الذي يعتبر مشكلة حقيقية ويتطلب أسلوب حل المشكلات وبين الهم غير التكيفي الذي لا يتطلب حل المشكلات هو تكنيك شجرة الهم والقلق، بأن يسأل الشخص نفسه أنا مهموم بأي شيء؟ وهل يمكنني فعل شيء تجاه تلك المشكلة؟ فإن كانت الإجابة لا، فليذهب الهم والقلق غير المفيد وأركز على الحاضر طالما لا حيلة في الأمر مثل الرزق والموت لا حيلة ولا شفاعة، وإن كانت الإجابة نعم هناك ما يمكن فعله، فقم بتحديد خطة العمل وإجراءات حل المشكلة (ما الحل ومتى يتم تنفيذه وكيف؟) وإن كان الحل توقيته ليس الآن فأحدد التوقيت بالتقريب على طريقة لكل حادث حديث. وليذهب القلق والهم، فالشجرة نهايتها واحدة وهي نهاية القلق والهم.
نستعيذ بالله من الهم والحزن والعجز والكسل ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا راحة البال وسعادة الدارين.
المراجع
1- Dugas, M. J., & Robichaud, M. (2007). Cognitive-behavioral Treatment for Generalized Anxiety Disorder: From Science to Practice. Taylor & Francis.
2- Wells, A. (2011). Metacognitive therapy for anxiety and depression. Guilford press.
واقرأ أيضًا:
التحول من ضغوط ما بعد الصدمة إلى نمو ما بعد الصدمة (1-4) / في سيكولوجية الحكمة: ادعاء الحكمة بأثر رجعي (2)