الشعور بالسعادة مصدره ناقلات كيمائية في الدماغ، والإنسان في سعي دائم للبحث عن هذه السعادة والتخلص من أي مشاعر سلبية. هناك أربع ناقلات كيمائية تتحكم في مختلف مشاعر السعادة وهي كالآتي:
١- دوبامين Dopamine وهو الناقل الذي يتحكم في الشعور بالسعادة عن طريق المكافأة والإنجاز. هذا الشعور يحصل عليه الإنسان أيضاً مع العناية بنفسه وارتداء ما هو جميل جيد. كذلك يذهب الإنسان لحضور احتفال ما وتناول الطعام وهذا بدوره يؤدي إلى شعوره بالسعادة. لكن تبقى العملية الرئيسية التي تتحكم بكل ذلك هي الشعور بالمكافأة والإنجاز.
يحاول الإنسان خداع نفسه ويتوجه صوب المنشطات المختلفة (المخدرات) للحصول على النشوة، ولكن الشعور بذلك مع مختلف الوسائل لا يدوم وفي النهاية من يحصل على السعادة عن طريق مواد كيمائية ينتهي أمره بالإدمان وعدم الحصول على السعادة إلى الأبد. وهناك أيضاً المنشطات الموصوفة طبياً لاضطراب عجز الانتباه فرط الحركة Attention Deficit Disorder & Hyperactivity ADHD الذي انتشر وبائياً في الآونة الأخيرة وأصبح من أكثر الاضطرابات النفسانية المصنفة الذي يتم تشخيصه ذاتياً. الحقيقة هي أن فعالية هذه العقاقير التي تعرف بالمعززات المعرفية الصيدلانيّة Pharmaceutical Cognitive Enhancers في الذي لا يعاني من اضطراب عجز الانتباه فرط الحركة لا يختلف عن استعمال عقار مموه Placebo وينطبق ذلك على عقار ميثيل فينيديت Methylphenidate ودكستروامفيتامين Dextroamphetamine ومودافينيل Modafinil. تشير الدراسات إلى زيادة الجهد (وقت اتخاذ القرار وعدد الخطوات لإيجاد الحل) يزداد بشكل ملحوظ، ولكن جودة الإنتاج (الإنتاجية) تنخفض بشكل ملحوظ. القاعدة العامة هي من كان أداؤه متوسطاً ينخفض إلى دون المتوسط بسبب ارتفاع العشوائية في اتخاذ القرار والوصول إلى حل وما تسمى عقاقير ذكية هي بالحقيقة عقاقير غبية. لذلك الاستعمال هذه العقاقير لا يؤدي إلى السعادة1.
٢- أوكسيتوسن هرمون وناقل عصبي يتم إنتاجه وإفرازه بغزارة مع الحمل والولادة والرضاعة ويتم تعريفه بهرمون الحب. تشير الدراسات بأن هرمون الحب يساعد على تعلق الأم بطفلها. كذلك يتم إفراز الهرمون مع مسك اليدين والأحضان. إثناء الوالدين على الأطفال يصاحبه مشاعر سعادة وكذلك الأمر مع البالغين والإثناء عليهم بصدق يؤدي إلى مشاعر سعادة عن طريق ناقل هرمون الحب في الدماغ.
استعمال مستحضرات أوكسيتوسن لا تولد السعادة. سيطر الحماس على الكثير من الباحثين حول استعمال مستحضر أوكسيتوسن عن طريق الأنف لعلاج طيف التوحد والقلق والاجتماعي، ولكن جميع هذه الدراسات تتميز بتحيز معرفي واضح وإحصاء النتائج بصورة غير مقنعة. وصول أوكسيتوسين إلى الخلايا العصبية في الدماغ مشكوك فيه وتركيزه العالي في بقية أنحاء الجسم لا فائدة منه وحتى إن ارتفع تركيزه في الدماغ فهو لا يولد السعادة ولا يرفع من ثقة الإنسان بنفسه ولا بالآخرين2.
٣- إندورفين هو مسكن الألم في الدماغ وعدم الشعور بألم هو مصدر سعادة. هذا الناقل الكيمائي هو مصدر الشعور بالبهجة والسعادة مع الضحك ومشاهدة برامج كوميدية وكذلك مع صحبة الأصدقاء وممارسة التمارين الرياضية. التخفيف من الألم للحصول على السعادة مع استعمال مواد أفيونيه نتيجته الإدمان وآلام مزمنة.
إندورفين بيتا Beta-Endorphins هي بروتينات يتم تصنيعها بشكل أساسي بواسطة الغدة النخامية استجابة للضغوطات الفسيولوجية مثل الألم، وتعمل من خلال آليات مختلفة في كل من الجهاز العصبي المركزي والمحيطي لتخفيف الألم عند الارتباط بالمستقبلات الأفيونية. تعمل العقاقير الأفيونية عن طريق محاكاة أندورفين الطبيعي، والتنافس على الارتباط بالمستقبلات. في الحالات الحادة تمنع المواد الأفيونية الخارجية إنتاج المواد الأفيونية الداخلية أما في الحالات المزمنة فهي لا تمنع فقط إنتاج المواد الأفيونية الداخلية فحسب وإنما مستقبلات المواد الأفيونية3.
٤- سيروتونين هو الناقل الكيمائي الذي تستهدفه مضادات الاكتئاب لعلاج القلق والاكتئاب. هذا الناقل الكيمائي هو مصدر الشعور بالتهدئة ونحصل عليها كذلك مع التعرض إلى النور والركض واستعمال الدراجة الهوائية. كذلك له دوره مع الشعور بالتهدئة مع المشي اليومي والتأمل.
تم تسويق عقاقير الاكتئاب في الخمسينيات وظهر عقار إميبرامين Imipramine والمعروف تجارياً بتوفرانيل. ينتمي هذا العقار إلى عائلة ثلاثية الحلقات Tricyclics وبعدها ظهر أكثر من عقار ثلاثي الحلقة وثنائي ورباعي الحلقة. اشتهر عقار الأميتربتلين Amitriptyline من هذه العائلة حين تم تسويقه في عام ١٩٦٠ ولا يزال يستعمل في مختلف الاضطرابات العقلية وغير العقلية. هذه العقاقير لها أعراضها الجانبية من جفاف الفم والتهدئة وغير ذلك، ولكن فعاليتها لا جدال فيها إلى الْيَوْمَ.
رغم هذه الثورة العلمية في علاج الاكتئاب، ولكن استعمال هذه العقاقير كاد يكون حصراً على الطبيب النفساني والسبب في ذلك بأن استعمال جرعة عالية منها في وقت واحد من أجل الانتحار يضمن نجاح نية المريض الانتحارية بسبب الاكتئاب. كان ذلك كثير الملاحظة في الأسبوعين الأولين لبداية العلاج ولذلك كان وصفة العقار محدودة لمدة أسبوع أو أسبوعين.
في عام ١٩٨٦ تم تسويق عقار في بلجيكا له سمعته في كل مكان وهو عقار الفلوكستين والمعروف شعبياً بالبروزاك. هذه كانت بداية استعمال العقاقير المعروفة بمثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية م.ا.س.ا والتي بدورها تحافظ على تركيز هذا الناقل الكيمائي العصبي في الدماغ. الحقيقة هي عدم وجود فعل انتقائي لهذه العقاقير وهذا المصطلح بدعة الشركة التي سوقته لأسباب تجارية. منذ ذلك الْيَوْمَ وهذه العقاقير معروفة بـ SSRIs ووالد جميع العقاقير هو البروزاك. بسبب هذه العقاقير حدثت ثورة جديدة في استعمال العقاقير المضادة للاكتئاب.
عقاقير SSRI عقاقير سليمة ولا يستطيع المريض تنفيذ خطته الانتحارية باستعمال جرعة عالية منها إلا إذا ابتلع كميات هائلة تقف في البلعوم وتغلق المجاري التنفسية. في الوقت نفسه تغيرت مفاهيم البشرية في العالم وظهر مطلب الشعور بالسعادة كحقٍ إنساني لابد من تلبيته وليس هناك ما هو أسهل من تناول قرصٍ واحد يوميا قد يساعد الإنسان أو يعطي الثقة له بأنه يستعمل شيئاً ينقله إلى عالم السعادة. لم ينصف الطب النفساني نفسه أيضاً مع تخفيض عتبة تشخيص الاكتئاب واستحداث مفهوم اضطراب الاكتئاب الجسيم Major Depressive Disorder واستحداث معايير تشخيص يتم استعمالها من قبل الجميع بدون تدريب وممارسة.
كانت نتيجة هذه الثورة في الاكتئاب أن ما لا يقل عن ١٠٪ من السكان في أي بلد من بلاد العالم يستعملون هذه العقاقير. ولكن الطامة الكبرى أن استعمال هذه العقاقير ليس لعدة شهور كما هو المألوف في علاج الاكتئاب وإنما لعدة أعوام وأحياناً إلى أجل غير مسمى. من جراء شيوع استعمال هذه العقاقير وظهور الأعراض الجانبية لها مع طول مدة الاستعمال بدأت الناس تشك في فعاليتها وأصبح ظهور المقالات المضادة لاستعمالها تتكرر بصورة منتظمة. أدى استقطاب هذه الآراء على مدى أكثر من عشرين عاماً البحث عن إجابة لسؤال واحد فقط من ضمن أسئلة أخرى وهو: هل العقاقير المضادة للاكتئاب عقاقير فعالة حقاً؟
الوصول إلى معرفة الحقيقة يحتاج إلى استعمال القاعدة العلمية وهي: المعرفة = المعلوماتX الرياضيات.
المعلومات يتم جمعها من عدة دراسات والرياضيات هي استعمال عمليات إحصائية تبعد الشك عن اليقين. تم جمع المعلومات في هذا المجال مع ٥٢٢ دراسة علمية لأكثر من عشرين عقار مضاد للاكتئاب وكانت النتيجة4 هي أن العقاقير المضادة للاكتئاب أكثر فعالية من عقار كاذب لا يحتوي على مادة كيمائية. الجدول أدناه يوضح قوة فعالية بعض العقاقير مقارنة بعقار كاذب "مموه":
قوة الفعالية مقارنة بالمموه | اسم عقَّار علاج الاكتئاب |
١١٣٪ | Amitriptyline أميتربتلين |
٨٩٪ | Mirtazapine ميرتازبين |
٨٥٪ | Duloxetine دلوكستين |
٧٨٪ | Venlafaxine فينلافاكسين |
٧٥٪ | Paroxitine باروكستين |
٥٢٪ | Fluoxetine فلوكستين |
٥٢٪ | Citalopram سيتالوبرام |
٤٩٪ | Clomipramine كلواميبرامين |
إذن العقاقير المضادة للاكتئاب عقاقير فعالة لو تم استعمالها بصورة صحيحة.
مصادر
1- Bowman E, Coghill D, Murawiski C, Boassaerts P. Not so smart?” Smart” drugs increase the level but decrease the quality of cognitive effort. Science Advances 14 June 2023: 9(24).
2- Quintana, D.S., Lischke, A., Grace, S. et al. Advances in the field of intranasal oxytocin research: lessons learned and future directions for clinical research. Mol Psychiatry 26, 80–91 (2021). https://doi.org/10.1038/s41380-020-00864-7.
3- Blum A, Smith G, Sugai D, Parma F. Understanding endorphins and their importance in pain management. Hawaii Med J 2010; 69(3): 70-71.
4- Cipriani A, Toshi F, Salanti G et al. Comparative efficacy and acceptability of 21 antidepressant drugs for acute treatment of adults with major depressive disorder: a Systematic review and network meta-analysis. Lancet 2018, 21 February.
واقرأ أيضا:
القواعد العامة لعلاج الاكتئاب بالعقاقير / علاج الاكتئاب بين العقاقير والعلاج النفساني