1. لا تخش الإخفاق
إن من أسباب القلق في حياة الإنسان عموماً الخوف من الإخفاق. هذا النوع من القلق النفسي يعرفه الطالب الذي يخشى الامتحان خوفاً من الرسوب فيه، ويعرفه كل من يقدم على مشروع أو تجارة أو أي عمل يحرص حرصاً شديداً على إنجازه بنجاح ويخاف الإخفاق فيه. وحتى لا يقع المؤمن في مثل هذا القلق، علّمنا رسولنا محمد ﷺ أن نأخذ بأسباب النجاح ما استطعنا، فنخطط لما نريد القيام به ونبذل الجهد ونثابر، ولا نعجز فنستسلم للأحلام دون أن نعد للأمر عدته، ودون أن نسعى في سبيل ما نريد السعي اللازم، فقد سمى النبي محمد ﷺ هذه الحالة من عدم السعي، ومن الاكتفاء بالتمني "عجزاً"، ويقابلها: "الكَيْس"، حيث السعي والأخذ بالأسباب بفطنة المؤمن، واجتهاده، وإتقانه.
عن عوف بن مالك ان النبي ﷺ قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ ردوا علي الرجل فقال ما قلت قال قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ "إنَّ اللَّهَ يلومُ على العَجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، فإذا غلبَكَ أمرٌ فقُل: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ" (أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما)
فمهما استعد الطالب لامتحانه، فإنه لا يضمن ألا يصاب بمرض مفاجئ يمنعه من حضور الامتحان، والأداء فيه كما يجب. ومهما احتاط التاجر، فإنه لا يضمن ألا تقع كارثة طبيعية، أو تنشب حرب غير متوقعة... إذاً دائماً هنالك ما يدعو إلى الخوف من الإخفاق، ولا علاج لذلك إلا بالتوكل على الله.
وقال ﷺ: "لو أنكم تتوكلونَ على اللهِ حقَّ توكلِهِ لرزقكم كما يرزقُ الطيرُ تغدو خِمَاصًا وتروحُ بِطَانًا" (رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "كانَ آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ" (رواه البخاري).
وقد يأتي القلق، نتيجة لضعف الثقة بالنفس، من حيث القدرة على القيام بعمل، أو مهمة أوكلت إلى الإنسان. فقد عالج النبي محمد ﷺ حالة قلق نفسي، أصابت أحد أصحابه حين خشي الإخفاق في مهمة تطوع للقيام بها، وتكفل للنبي محمد ﷺ بتنفيذها. ورد في سيرة ابن هشام أنه: بعد غزوة بدر، ذهب كعب بن الأشرف وهو من شعراء اليهود إلى مكة، يحرض المشركين على قتال المسلمين، ثم عاد إلى المدينة، فشبب بنساء المسلمين، حتى آذاهم، فقد قال شعراً لا يليق عن نساء المسلمين فكان في ذلك إهانة لهن ولرجالهن، ولهذا حكم رسول الله ﷺ بوصفه الحاكم والقاضي وبوصف كعب من رعاياه، وقد ارتكب خيانة عظمى لدولة المدينة المنورة، حكم عليه بالقتل فقال ﷺ لأصحابه: "من لي بابن الأشرف؟" أي: من يقتله؟. فقال له محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله! أنا أقتله. قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب، إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فدعاه، فقال له: "لم تركت الطعام والشراب؟". فقال: "يا رسول الله! قلت قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا؟". فقال النبي محمد ﷺ: "إنما عليك الجهد".
لقد علمنا النبي محمد ﷺ أن الجهد يجب أن يقدر، وألا يقتصر تقديرنا على النجاح والإنجاز، كما هي الحال في الحضارة الغربية المعاصرة، حيث لا يقدر ولا يكافئ إلا الناجحون والمتفوقون.
إن هذه النظرة الإيمانية إلى الأمور، تريح النفس البشرية من القلق الناتج عن خشية الإخفاق، إذ لا لوم على المرء طالما أنه بذل ما بوسعه بإخلاص، بل هو مأجور على جهده الذي بذله.
قال ﷺ: "إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ" (أخرجه البخاري).
2. آجال مكتوبة
يشكل الموت مصدر قلق نفسي شديد للإنسان فهو يقض مضجع النفس البشرية، ويهزها هزاً، إذ ليس هنالك عاقل على وجه الأرض يشك في أنه سيموت يوماً ما. هذا على المستوى العقلي، لكن على مستوى المشاعر، فإن الإنسان عادة يتغافل عن هذه الحقيقة ويتناساها، فيعيش وكأنه لن يموت، فهو في حالة إنكار نفسي لحقيقة أنه سيموت، وكأن الموت حق، ولكن حالته هو حالة خاصة لا تشملها هذه القاعدة.
والإنكار النفسي، أو الغفلة، أسلوب من أساليب النفس البشرية، للتخلص من القلق الذي تسببه مواجهة بعض الحقائق التي لا يمكنها تغييرها، ولا تستطيع لها دفعا. إنه دفن للرؤوس في الرمال، إن لم يفلح في التخلص من الأعداء، فإنه يفلح في إبعادهم عن الحواس والوعي، ريثما يقع القضاء.
ولحكمة عظيمة، أخفى الله عن كل نفس أجلها، إذ لو علم كل إنسان أجله، لقصر أمله، وداخله اليأس، فالإنسان السوي مهما بلغ من العمر، يبقى لديه أمل في أن يعيش أكثر، وتراه يخطط ويبذل الجهد من أجل المستقبل. قال النبي محمد ﷺ: "لا يَزَالُ قلبُ الكبيرِ شابًّا في اثنتينِ : في حُبِّ الدنيا ، وطُولِ الأَمَلِ" (البخاري: 6057)، وقال أيضاً : "يَكْبَرُ ابنُ آدَمَ ويَكْبَرُ معهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وطُولُ العُمُرِ" (البخاري: 6058)، ولو علم كل منا أجله، لتقاعس أكثرنا عن فعل الخير، ولاتبع أكثر الناس أهواءهم، مؤجلين التوبة إلى السنة الأخيرة من حياتهم، أو حتى إلى الشهر الأخير.
ومن جهة أخرى، فإن غير المؤمن، يظن أن الإنسان يموت بحسب المصادفات، ومع ظنه أن العافية البدنية تضمن استمرار الحياة، فإنه يبقى في رعب وقلق، إذ قد يكون مصاباً بداء خفي يقربه من الموت كل يوم خطوات، وقد يموت في حادثة غير متوقعة، فلا العافية ولا الشباب يضمنان البقاء، إذ ما أكثر ما يموت الشباب، بل وحتى الأطفال! وبهذا يحيا غير المؤمن في قلق دائم من الموت، طالما أنه لم يؤمن أنها آجال محددة من الخالق. وقد عبر الشاعر العربي الجاهلي عن اعتقاده أن الموت أمر عشوائي يصيب سيئ الحظ، فقال: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمِتْهُ ومن تخطئ يعمر فيهرم
لكن المؤمن يعرف أن الأمر ليس كذلك، إنما هي آجال يكتبها الله عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، ويضمن الله القدير أن يعيش كل منا إلى أن يبلغ أجله. قال تعالى: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" [الأعراف: 34]، وقال: "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الزمر: 42].
إذاً هو أجل قد سماه الله.، إذ حدد لكل منا عمراً يعيشه، ولن تستطيع قوة في الكون أن تميت إنساناً إلا إذا جاء أجله. قال تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا.." [آل عمران: 145]. ومن أجل ذلك، وكل الله بكل إنسان ملائكة تحفظه من الموت، حتى يحين أجله. قال تعالى: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ" [الرعد: 11]، وقال: "وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)" [الطارق: 1 - 4].
إن لمعرفة هذا كله أثره البالغ في بث السكينة والطمأنينة في النفس المؤمنة... وهي خير من الإنكار النفسي والتغافل. فشتان ما بين الطمأنينة التي تأتي من الغفلة، والطمأنينة التي تأتي من إدراك أن كل شيء في هذا الكون بقدر من الله القاهر فوق عباده، المسيطر على كل شيء في الوجود.
فالإنكار والتغافل لا يصمدان أمام الأحداث اليومية التي تذكرنا بالموت، وبخاصة إذا ما وقع الموت قريباَ منا: في صديق، أو قريب. عندها تكون المواجهة مع الحقيقة، ولا يريحنا من القلق الناتج عنها إلا الإيمان الصحيح.
ويتبع: مصادر سكينة الإيمان2
واقرأ أيضا:
سيكلوجية الإيمان والكفر9 / تأملات نفسية في الزكاة 2