اللوم سلوك بشري كثير الملاحظة بين البشر سواء كان ذلك في المحيط المهني، الاجتماعي، المهني، والزوجي. يمكن تصوير نتائج مثل هذا السلوك في الحياة الزوجية لو تصورنا الزوج والزوجة في قارب واحد يوجد فيه ثقب وترى بدلا من تعاون الطرفين على إصلاح هذا الثقب وإغلاقه، ينشغل الاثنان في إسقاط اللوم على الأخر وتدريجيا يتوسع الثقب، ويغرق الزوج وزوجه. تتم ملاحظة سلوك اللوم كثيراً في العلاج النفساني وهناك الحاجة إلى التوغل في أعماق ميول المراجع وعقلية اللوم والعثور على استراتيجيات وأفكار تساعده على التخلص من الطاقم العقلي المتمثل في إسقاط اللوم على الآخرين.
الإنسان الذي يسقط اللوم على الآخرين لتفسير مشاكله يحمل معه طاقم عقلي يتميز بصلابته، ومحتواه مشاعر سلبية تمنع الإنسان من العثور على حل جذري لأزماته ويقع في شرك اللوم الذي يؤثر على علاقته بالآخرين سواء كان ذلك في البيت أو العمل. المثال الكثير الاستعمال في العلاج النفساني لتصوير اللوم هو سقوط الإنسان على الأرض بسب تزحلقه على قشرة موز. في هذه الحالة ترى الكثير من البشر تسقط اللوم على الإنسان نفسه بسبب عدم انتباهه ولكن الإنسان الذي سقط بدوره يسقط اللوم على من رمى قشرة الموز أو قذارة الرصيف وعدم تنظيفه وهذا العملية المعرفية الأساسية هي ما نسميه بالإخراج Externalisation. كذلك يتم تفسير هذه العملية بمفهوم إسناد الخطأ الأساسي Fundamental Error Attribution. يتم استعمال هذا النموذج في العلاج النفساني لتجنب الخوض في كلام وسؤال وجواب على من هو المصيب ومن هو المخطئ. يمكن القول بأن العلاج النفساني يستهدف إدراك المراجع أن عملية إسقاط ألوم جزء من طبيعة تفكيره وانشغاله عقلياً في البحث عن أخطاء في الأخرين بدلا من نفسه، وكأنها عادة تم اكتسابها وترسيخها في ذاته وعقله. الإنسان كذلك يميل إلى تفسير لوم الاخرين بسبب سماتهم الشخصية ولكنه أن ارتكب خطأ ما فسرعان ما يباشر إلى استعمال عملية الإخراج. هذه الظاهرة في الحديث عن أخطاء الآخرين مصدرها في العلوم العصبية البيولوجية شبكة الوضع الافتراضي1 Default Mode Network.
تتكون شبكة الوضع الافتراضي من اتصال الفص الأمامي الجبهي البطني الانسي Ventromedial Prefrontal Lobe VMPL مع المناطق الوسطى في الدماغ ومن ثم بالحزام الخلفي2 Posterior Cingulate. عبر هذه الشبكة يتم إحساس الإنسان بذاته منفصلاً عن الآخرين ويتم الإشارة إليها أحيانا بالذات المنفردة Solo Self. بالإضافة إلى الذات المنفردة يحتاج الإنسان أن يكون له إحساس بالعالم ، وهذه ما يفعله الكثير ولكن البعض يكون تركيزه الكامل على الذات المنفردة وترابطهم مع العالم الخارجي يتميز بضحالته، وما يسعى إليه العلاج النفساني الوصول إلى مرحلة توازن بين الذات المنفردة والعالم الخارجي والترابط بينهما.
حين يدخل الإنسان في حالة غضب ويبدأ بإسقاط اللوم على الآخرين وتراه يراجع مراراً وتكراراً مستنتجاً جودة حجته وسوء سلوك الاخرين ونياتهم. يمكن القول بأن الشعور القوي بالذات المنفردة يقود الشخص دوماً إلى أن الآخرين سبب مشاكله وفي هذه الحالة تزداد فعالية شبكة الوضع الافتراضي وتركيز الإنسان على ذاته لكن هناك ظاهرة أخرى مثيرة للاهتمام وهي أن الدماغ لا ينشغل فقط بالذات المنفردة ولكن يتم تنشيط مشاعر القلق بشأن ما يعتقده الأخرون وتحدث بالتالي عملية استقطاب وهي:
قطب تفكير الإنسان بنفسه
قطب آراء الاخرين.
الانشغال بالذات عن طريق فعالية الوضع الافتراضي سيء للغاية لأن لهذه الشبكة لها دورها في مشاعر الإنسان وتعاطفه مع الآخرين ومع إفراط فعاليتها يتم تثبيط اتصالها بدوائر دماغية أخرى يحتاجها الإنسان للوصول إلى حالة توازن عاطفي.
الوعي الذاتي:
الوعي الذاتي من نوعين:
الذات التجريبية Experiential
الذات السردية Narrative .
حين يكون الإنسان في نمط الذات السردية فهو يستخدم ويكرر نسخة واحدة من قصة ما حدث مفسرا مسؤولية الشخص الآخر. حين يكون الإنسان في نمط الذات التجريبية فهو على اتصال بالأحاسيس الجسدية وعواطفه مثل الحزن والألم، وبسب ذلك يتم التركيز دوما في العلاج النفساني على توجه الإنسان صوب الذات التجريبية حيث يساعد ذلك على إدراك نفسه بأنه في حالة ترابط مع الآخرين وعند ذاك يتضاءل احتمال لجوئه إلى إسقاط اللوم على الآخرين. إذا كان الإنسان يسعى إلى تغيير شبكة الوضع الافتراضي فهو لا يحتاج إلى استعمال التأمل فقط وإنما استقبال مختلف المعلومات الحسية من صوت ورائحة ومنظر وتفاعله مع شريكة حياته بدلا من الجلوس معها وجه لوجه في غرفة والدخول في دائرة إسقاط اللوم.
هناك عدة عوامل تلعب دورها في اختلال الوعي الذاتي وشبكة الوضع الافتراضي منها صدمات الطفولة والتربية العائلية التي تركز على حماية الذات وبالتالي التمسك بالأنانية والفشل في استعمال التعاطف على الآخرين الذي يساعد على التخلص من الأنانية وإسقاط اللوم.
أنماط التعاطف مع الآخرين هي:
١- الرنين التعاطفي Empathic Resonance وهو الشعور بمشاعر الغير.
٢- اتخاذ المنظور Perspective taking رؤية الحدث من وجهة نظر الشخص الاخر.
٣- الفهم التعاطفي Empathic Understanding مثل إدراك الإنسان وقوله أن هذه تجربتي ولكن هناك أيضا تجارب الآخرين.
٤- الفرح التعاطفي Empathic Joy الشعور بالسعادة حقا لفرح الآخرين.
٥- الاهتمام التعاطفي Empathic caring يحين يأخذ الإنسان الإجراء اللازم لتقليل معاناة الآخرين.
هذه الجوانب الخمسة من التعاطف هي ما يتم التركيز عليه في العلاج النفساني.
الصدمات واللوم:
الصدمات العاطفية تؤثر على العديد من مناطق الدماغ وتترك بصماتها على الجهاز العصبي وأحدها أن يصبح الإنسان أكثر عرضة إلى إسقاط اللوم على الآخرين واستعماله الإخراج Externalisation. يتم تفعيل نظام الإنذار العصبي وكان هناك دنين يرن داخل الإنسان يؤدي إلى ضعف الإنسان في الاستجابة إلى احتياجات ومشاعر الآخرين. ترى الإنسان دوما في حالة تأهب بسبب ما نسميه فرط التفاعل Hyperreactivity ولكنها أحيانا تؤدي استعمال نمط نفساني معاكس وهو الانغلاق Shutting Down واعتزال الآخرين، والإنسان قد ينتقل من نمط إلى آخر. يتم تفعيل نمط فرط التفاعل حين يبدأ الإنسان التواصل مع مشاعره الداخلية. الجزء الأمامي3 من القشرة الحزامية في منتصف الدماغ يساعدنا على دمج الأفكار والمشاعر، حين يبدأ الإنسان في التعبير عن أحاسيس جسمه الداخلي بطريقة مبسطة مثل توتر، دافئ، ناعم وغير ذلك ترى أن هذه العملية البسيطة تساعد على تدريب القشرة الحزامية الأمامية وهذا بالضبط ما يحدث حين يمارس الإنسان عملية اليقظة الواعية Mentalization . يمكن القول بأن جمع وعي الإنسان لجسده الداخلي مع قدرة التعليق عليه يؤدي إلى دمج الشعور والتفكير والتوقف عن إسقاط اللوم على الآخرين.
مصادر:
1- Mennon V. 20 years of the default mode network: a review and synthesis. Neurone 2023;111:1-19.
2- Leech R, and Sharp D. The role of posterior cingulate Gyrus in cognition and disease. Brain 2014; 137(1): 12-32.
3- Posner M, Rothbart M, Sheese B, Tang Y. The anterior cingulate gyrus and the mechanism of self-regulation. Cognitive Affective & Behavioural Neuroscience 2007; 7(4): 391-395.
واقرأ أيضًا:
الوقاية من السبه (الخرف) / دماغ الثناقطبي Bipolar Brain