تقوى الله تدفع إلى تأكيد الذات دفعا2
الفصل الثامن
إن اعتزاز العربي بعزته وكرامته لهو أمر معروف منذ العصر الجاهلي؛ ولكن جاء الإسلام بترشيد مفهوم العزة والكرامة، فالعزة بالله ولرسول الله وللمؤمنين، والعزة في الحق وللحق وبالحق وليس بالظلم والتطاول والبغي على حقوق الضعفاء والمقهورين، ولا ننسى هنا موقف سيدنا عمر بن الخطاب وهو أمير للمؤمنين عندما وقف ببابه أسياد قريش ممن تأخروا في اعتناق الإسلام من أمثال أبي سفيان وعكرمة فأخر دخولهم إليه، وسمح أولاً لفقراء المسلمين الذين سارعوا باعتناق الدين، والدفاع عنه والجهاد من أجل رفع رايته؛ من أمثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر، حتى وإن غضب "أسياد قريش في الجاهلية"، لقد أيد الإسلام خلق العزة في نفوس أبنائه؛ ولكنها عزة تقوم على العدل والمطالبة بالحق، وهي تختلف تماما عن حمية وعزة الجاهلية التي قد يُستساغ فيها الظلم والعدوان على حقوق الآخرين أحيانا، من أجل رضا الأغنياء والسادة!، لقد أصبح المعيار بعد الإسلام للمفاضلة بين الناس هو التقوى:"...... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ......" (الحجرات:13)
وعندما نذكر سيدنا عمر بن الخطاب يتبادر إلى أذهاننا حفيده عمر بن عبد العزيز بن مروان والذي يُكَّنى "أبا حفص"، وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ويُقال أنه لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.
قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهم أجمعين.
قال أحمد بن حنبل: يُروى في الحديث أن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها. فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فإذا هو الشافعي. وعن الضحاك بن عثمان قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان بن عبد الملك صفت له مراكب سليمان فقال:
ولولا التقى ثم النهى خشية الردى لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
قضى ما قضى، فيما قضى، ثم لا يرى له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إلي بغلتي.
وعن سهل بن يحيى محمد المروزي قال: أخبرني أبي عن عبد العزيز بن عمر بن عيد العزيز قال: لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدة أو رجة فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها. فقال: ما لي ولها؟ نحوها عني، قربوا إلي بغلتي. فقربت إليه بغلته فركبها فجاءه صاحب الشرط يسير بين يديه بالحربة فقال: تنح عني ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.
فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر واجتمع الناس إليه فقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك، فلك أمرنا باليمن والبركة. فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعاً حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
"أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء، ليس من تقوى الله عز وجل خلف فاعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أباً حياً لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها ولا في كتابها، إنما اختلفوا في الدينار والدرهم وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً". ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس: من أطاع الله فقد وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين، ثم ذهبوا يتبوأ مقيلاً فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟، قال: أي بني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟! (أي من يضمن لك البقاء حياً إلى الظهر؟!)، قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فالتزمه وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني. فخرج ولم يقل (ينم) وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها. فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله.
قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: اقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك. قم فاردد عليه يا عباس ضيعته. فرد عليه فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يده وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.
فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم وشنئاً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على هذا.
فلما قرأ كتابه كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد. السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فإنه بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانة أمة السكون كانت تطوف في سوق حمص وتدخل وتدور في حوانيتها ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان من فيء المسلمين فأهداها لأبيك فحملت بك فبئس المحمول وبئس المولود.
ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً تزعم أني من الظالمين، لم حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك و ويل لأبيك ما أكثر خصماءكما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر أذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب. فرويداً يا ابن بنانة فلو التقى حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإن لكل فيك حقاً والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين.
وقال مولى لعمر بن عبد العزيز حين رجع من جنازة سليمان: مالي أراك مغتماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه يغتم إنه ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني.
وعن بعض خاصة عمر بن عبد العزيز أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عالياً فسئل عن البكاء فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خير جواريه فقال: إنه قد نزل بي أمر قد شغلني عنكن فمن أحب أن أعتقه أعتقته ومن أراد أن أمسكه أمسكته ولم يكن مني إليها شيء فبكين يأساً منه.
وعن مالك بن دينار قال: لما ولى عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ قال: فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شياهنا.
وعن مسلم قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب وشمعة تزهر وهو ينظر في أمور المسلمين قال: فخرج الرجل فأطفئت الشمعة، وجيء بسراج إلى عمر فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبق ما بين كتفيه. قال: فنظر في أمري.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أما بعد فإنك كتبت إلى سليمان كتباً لم ينظر فيها حتى قبض رحمه الله، وقد بليت بجوابك. كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين، ثم شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر، وتذكر أنه قد نفد الذي كان يُسستضَاء به وتسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال، وقد عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم والسلام.
وعن رجاء بن حيوة قال: كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخيلهم وفي مشيته فلما استخلف قوموا ثيابه باثني عشر درهماً: كمته، وعمامته وقميصه وقباءه، ورداءه وخفيه.
وعن يونس بن أبي شيب قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف بالبيت وإن حجزة إزاره لغائبة في عكنه. ثم رأيته بعدما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت (وهذا دليل على نقص وزنه الشديد وهزاله من قلة الطعام وهموم الخلافة).
وعن مسلمة بن عبد الملك (فارس بني أمية) قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه فإذا عليه قميص وسخ فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين قالت: نفعل إن شاء الله ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميصاً لأمير المؤمنين فإن الناس يعودونه؟ قالت: والله ما له قميص غيره.
ولما مات عمر بن عبد العزيز كان قد استودع مولى له سفطاً يكون عنده فجاءه أقارب عمر بعد وفاته فقالوا: السفط الذي كان استودعك عمر؟ قال: ما لكم فيه خير فأبوا حتى رفعوا ذلك إلى يزيد بن عبد الملك؛ فدعا بالسفط ودعا بني أمية وقال: خيركم هذا فقد وجدنا له سفطاً وديعة قد استودعها: ففتحوه فإذا فيه مقطعات من مسوح كان يلبسها بالليل.
وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير ثم صرخ و غشي عليه.
وعن زياد المديني قال: أرسلني ابن عامر بن أبي ربيعة إلى عمر بن عبد العزيز في حوائج له فدخلت عليه وعنده كاتب يكتب فقلت: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام. ثم انتبهت فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال: يا ابن أبي زياد إننا لسنا ننكر الأولى التي قلت. والكاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة. فقال لي اجلس. فجلست على عتبة الباب وهو يقرأ وعمر يتنفس صعداً. فلما فرغ أخرج من كان في البيت حتى وصيفاً كان فيه ثم قام يمشي إلي حتى جلس بين يدي ووضع يديه على ركبتي ثم قال: يا ابن أبي زياد استدفأت في مدرعتك هذه -وعلي مدرعة من صوف- ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة رجالهم ونسائهم فما ترك منهم أحداً إلا سألني عنه وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته، ثم قال لي: يا ابن أبي زياد ألا ترى ما وقعت فيه قال: قلت أبشر يا أمير المؤمنين، إني أرجو لك خيراً قال: هيهات هيهات.
قال: ثم بكى حتى جعلت أرثي له فقلت: يا أمير المؤمنين بعض ما تصنع، فإني أرجو لك خيراً. قال: هيهات هيهات أشتم ولا أشتم وأضرب ولا أضرب وأوذي ولا أذي. ثم بكى حتى جعلت أرثي له. فأقمت حتى قضى حوائجي ثم أخرج من تحت فراشه عشرين ديناراً فقال: استعن بهذه فإنه لو كان لك في الفيء حق أعطيناك إنما أنت عبد. فأبيت أن آخذها فقال إنما هي من نفقتي فلم يزل بي حتى أخذتها، وكتب إلى مولاي يسأله أن يبيعني منه فأبى مولاي إلا أن يعتقني لوجه الله.
وعن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قل: "يا عمر ما تصنع"؟
وعن عبيد الله بن محمد التميمي قال: سمعت أبي وغيره يحدث أن عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يجري عليهم، وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم؛ فشكوا إلى عمته أم عمر فدخلت فقالت: إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك. قال: ما منعتهم حقاً، ولا أخذت منهم حقاً فقالت: إني رأيتهم يتكلمون وإني أخاف أن يهيجوا عليك في يوم عصيب. فقال: "كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره". قال: ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء فألقاه على الخبث فنش فقال: أي عمة أما تخافين على ابن أخيك من مثل هذا؟ فقامت فخرجت على قرابته فقالت: تزوجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشبه جزعتم؟ اصبروا له.
قال القاسم بن غزوان: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت مدامع عينيك الدموع السواجم
بل أصبحت في النوم الطويل وقد دنت إليك أمور مفظعات عظائم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
يغرك ما يفني وتشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم
وتشغل فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وعن هاشم قال: لما كانت الصرعة التي هلك فيها عمر دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك أفقرت أفواه ولدك من هذا المال، وتركتهم عيلة لا شيء لهم فلو وصيت بهم إلي وإلى نظرائي من أهل بيتك. قال: فقال: أسندوني ثم قال: أما قولك إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله إني ما منعتهم حقاً هو لهم ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك لو أوصيت بهم فإن وصيي ووليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
بني أحد الرجلين، إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما رجل مكب على المعاصي فإني لم أكن أقويه على معاصي الله. ثم بعث إليهم وهم بضعة عشر ذكراً قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلة لا شيء لهم، فإني بحمد الله قد تركتهم بخير أي بني إن أباكم مثل بين أمرين: بين أن تستغنوا و يدخل أبوكم النار أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله.
وبعد هذا التجرد والزهد لخليفة كان يقود أكثر من نصف العالم في عصره، والذي نشر العدل في أنحاء مملكته؛ لدرجة أن أموال الزكاة التي جُمِعت للفقراء من الأغنياء في عصره تعفف عنها المسلمون، ولم تجد أموال الزكاوات تلك من يأخذها، فأمر رضي الله عنه بدفع الأموال إلى العُزاب من الشباب ليتزوجوا، ويموت هذا الخليفة العادل ولم يترك لبنيه الذين زادوا عن العشرة إلا القليل النادر من الدنانير، ولكن الله أعدل العادلين يُغني هؤلاء الأبناء من فضله حتى رؤي واحدا من أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمليون دينار في سبيل الله.
والآن ما رأيكم في أن نعيش مع نموذج آخر نادر من نماذج العزة لله وبالله، وذلك لعالم جليل من أجلاء التابعين، عاش في مكة المكرمة بين عامي 28 و 115 من الهجرة النبوية الشريفة، فمن هو؟ إنه:
عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى؛
هو عبد حبشي مملوك لامرأة من أهل مكة، أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج. كانت الملوك تهابه أشد المهابة، والخاصة تذعن بين يديه، والعامة لا تخرج في رأيها عما لديه، لكونه عالما مخلصا وفقيها ذا ثقة، وأحد شيوخ التابعين.
من مواقفه:
حج عبد الملك بن مروان، وهو المؤسس الثاني للدولة الأموية والأب المباشر لأربعة خلفاء أشداء من بعده؛ وهم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، فدخل عليه عطاء بن أبي رباح في مكة، فلما بصر به عبد الملك قام إليه وأجلسه معه على السرير، وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله، وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله تعالى في أبناء المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله تعالى في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله تعالى فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له أجل أفعل إن شاء الله تعالى. ثم نهض عطاء، فأمسك به عبد الملك وقال له: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها، فما حاجتك أنت؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج من عنده. قال عبد الملك لأحد بنيه: هذا وأبيك الشرف.
يقول الله عز وجل: "..... إنَّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُم، إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِير" سورة الحجرات، آية 13، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".
وفي موقف ثان:
حج سليمان بن عبد الملك ومعه بعض بنيه، وبينما هم في الحرم المكي، أراد الخليفة سليمان أن يٍسأل عطاءً سؤالاً فقهياً في أحكام الحج، وقد وقف الحجيج صفا يستفتون فقيه أهل الحجاز، ولكن الخليفة تخطى الناس ليسألَ الفقيه؛ فأشار إليه الفقيه؛ كأنه يطلب من الخليفة أن يأخذ دوره ولا يتخط الواقفين!!، فامتثل الخليفة لطلب الفقيه، وبعد أن أخذ دوره، ثم جلس بين يديه واستفتاه فيما يريد، وأبناءه ينظرون مستعجبين من احترام والدهم -خليفة المسلمين- لهذا الفقيه الجليل القدر المهلهل الثياب، وكأن أباهم قد قرأ الدهشة في وجوههم؛ فالتفت الخليفة إلى أبنائه قائلاً -وكان من أكثر أهل زمانه وسامة وتأنقاً- "يا بني تعلموا العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا الرجل".
و صدق الشاعر عندما قال:
العلم يبني بيوتا لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم
وفي موقف آخر:
قال عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي؛ نُريد هشام بن عبد الملك في مكة المكرمة، فإذا بشيخ أسود على حمار، عليه قميص رث وجبة رثة، وقلنسوة مهلهلة، فضحكت وقلت لأبي: من هذا الأعرابي يا أبي؟ فقال أبي: أسكت، هذا سيد فقهاء أهل الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح، وانطلقنا حتى وقفنا بباب هشام نريد الدخول. انطلق الحارس يبلغ هشام بن عبد الملك بوصول فقيه مكة المكرمة "عطاء بن أبي رباح" فقام هشام، وأدخله ومن معه على الفور.
قال عطاء الخراساني فوالله ما دخلنا على الخليفة إلا بسببه (أي بسبب دخول عطاء ابن أبي رباح). فلما رآه هشام قال: مرحبا ها هنا، مرحبا ها هنا، وراح يفسح له مجلسه حتى تساوت ركبته بركبة هشام، وكان في المجلس أشراف القوم والناس يتحدثون فسكتوا لدخول عطاء بن أبي رباح. وبعد الترحيب به قال أمير المؤمنين "هشام بن عبد الملك": ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال عطاء: أهل الحرمين أهل الله تعالى وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقسم فيهم أعطياتهم وأرزاقهم. قال هشام: نعم، يا غلام اكتب لأهل مكة ولأهل المدينة بعطاءين وأرزاقهم لسنة. ثم قال هشام: أمن حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال عطاء: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وسادة الإسلام، رد عليهم فضول صدقاتهم.
فأجاب هشام: نعم اكتب يا غلام بأن ترد صدقاتهم عليهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال عطاء: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور من وراء بيضتكم ويقاتلون عدوكم، لو أجريتم لهم أرزاقاً تدرها عليهم فإنهم إن هلكوا غُزيتم. قال هشام: نعم أكتب يا غلام تُحمل أرزاقهم إليهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال عطاء: نعم يا أمير المؤمنين، أهل ذمتكم لا يُكلَّفون مالا يطيقون. قال هشام: نعم أكتب يا غلام بألا يُحمَّلوا ما لا يطيقون. هل من حاجة غيرها، قال عطاء: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك فإنك خُلِقت وحدك وتُحشر وحدك وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحد. فأكب هشام وراح ينتحب ويبكي من شدة ما سمع من شيخ مكة وإمامها بينما انصرف الناس في المجلس إلى صمت خاشع ودموع تغسل الذنوب وتفكر يمحص هذه المعاني العظيمة في حديث إمام مكة المكرمة الشجاع المؤكد لذاته.
استودع عطاء أمير المؤمنين وصحبه وخرج، وما أن وصل الباب حتى وجد رجلاً من رجال هشام يتبعه وهو يحمل بين يديه كيساً من المال وقال له: أمير المؤمنين أمر لك بهذا، فقال عطاء: قل لأمير المؤمنين "..... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ"، (سورة الأنعام، آية 90). ثم خرج الشيخ بينما وقف رجل هشام مبهوتا قد أصابته الدهشة من موقف هذا الرجل الذي لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضه، فهو نسيجٌ وحده!.
هذا العالم الجليل الذي ما لبس ثوبا أغلى من خمسة دراهم في حياته الطويلة، ويدخل على الخلفاء الذين ملكوا على أيامهم أكثر من نصف الدنيا؛ فيأمرهم وينهاهم، ثم ينصحهم ويبكيهم، ويرفض أن يأخذ عطاءهم، فلعل قائل يقول إن هذا لحرمان ونسيان لنصيبه من الدنيا، ولكن صاحب الشأن الواثق بالله المؤكد لذاته لا يتألم من ذلك الحرمان الدنيوي بالنسبة لنا وبالنسبة لمفاهيمنا، وحتى التألم من الحرمان ليس ضعة، ولكن تحول الحرمان إلى هوان هو الذي يستنكره الإسلام، فقد مضت سنة الرجولة من قديم أن يتحامل الجريح على نفسه حتى يشفى، فيستأنف المسير بعزم، لا أن يخور ثم يتحول إلى كسيح ثم ينتظر الحاملين، وفي معنى الحديث يقول الشاعر:
وإني لأستغني فما أبطر الغنى وأعرض ميسوري على مبتغى قرضي
وأعسر أحيانا فتشتد عسرتـي وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضـي
وما نالها حتى تجلت وأسفرت أخو ثقة مني بقرش ولا فــــرض
يعني أن يتماسك على ما به من ضائقة حتى تنجلي، دون أن يذل بها لأحد، ولو كان أخا ثقة.
وفي الحديث: "من أعطى الذلة من تلقاء نفسه طائعا غير مكره فليس منا".
والإسلام يدعو المؤمن للاستقرار في المكان الذي ينبت العز، ويهب الحرية الكاملة، ويجب على المؤمن أن يوفر هذه المعاني في بيئته، فإن استحال عليه ذلك فليتحول عن دار الهوان ولينشد الكرامة في أي مكان آخر.
ويتبع >>>>>>>>>>> قوة صاحب الحق في تأكيد ذاته