السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا فتاة أبلغ من العمر 18 سنة تقريباً، ملتزمة لكن للأسف لي وجهان، وأحاول جاهدة التوفيق بين هذين الوجهين بكل ما أوتيت من جهد وقوة.
فخارج المنزل أكون فتاة جريئة قوية الشخصية أحب أن أساعد الناس وأنصحهم، وزميلاتي وجميع معارفي معجبون بأسلوبي الرائع -على حد قولهم- سواء أمامي، أو يصلني الكلام من هنا وهناك.. ويقولون إن أسلوبي رائع في النصح والإرشاد من خلال بعض المحاضرات التي ألقيها عليهن، سواء عن الأغاني أو عدم الاهتمام بالحجاب، وغير ذلك من الأمور الخاطئة المنتشرة.
كما أنني مرحة وأحب الضحك، ولكن في مواضعه، وأمتلك مهارة التمثيل بروح دعابة، وأدمج بين التمثيل والضحك والنصيحة، وأقدمها لمن حولي، سواء في مكان دراستي أو أي مكان به تجمع نسائي خاص.
أما في المنزل فقد كنت هكذا، ولكن تغيرت بسبب الغيرة وقلة التشجيع، سأفسر هذين المصطلحين لاحقا.
أنا كسولة جدًّا جدًّا في البيت، وأحب النوم والجلوس على الـ"نت"، وعصبية المزاج أحياناً؛ لأني لا أحب أن يطلب أحد مني فعل شيء، وأريد أن أفعل كل شيء من تلقاء نفسي (ما شاء الله، عندي ثقة بنفسي زيادة عن اللازم)، مثل طهي الطعام أو ترتيب المنزل وتنظيفه.
لساني يقطر عسلا أثناء الكلام، ولكن ليس مع أهلي، بل خارج المنزل فقط، ومنذ فترة -تقريباً ثلاث سنوات- وأنا أحاول أن أوفق بين هاتين الشخصيتين، مع أني كنت طيبة في المنزل كما في خارجه.
لكنني أعتقد أن السبب هو أني كنت ألاقي ترحيباً وتشجيعاً من الناس خارج المنزل، ولا أرى سوى التعليقات السخيفة والاستهزاء داخل المنزل من إخوتي وأخواتي على طريقة حجابي وخاصة ارتداء الجوارب، أو صلاتي وخاصة قيام الليل، وغيره من الأمور التي أمرنا بها الله، ولكن الناس تناسوها تحت مسمى "التطور".. وأنا أحاول أن أسيطر على أفعالي لأحل مشكلتي التي انتبهت لها بعد أن كانت "ماما" الكبيرة لكل من أعرفه من الصديقات والزميلات؛ لأني أستمع لهن وأحل مشاكلهن بنفسي وبمساعدة صفحاتكم المميزة.
أتا آسف على الإطالة، ولكن هناك مشاكل أخرى: الغيرة، عندما أسمع خبر زواج إحدى الفتيات (سيئات الخلق) تأتيني نوبة بكاء، خاصة لو كان الزوج محترما، وأشعر بالضيق والقهر والغيرة منهن.. نعم الغيرة، فكيف يتزوجن وهن لسن أهلا لتربية الأبناء ومنهن خبيثات؟ وأنا التي أحلم بالزواج ليل نهار، وأدعو الله كل لحظة بأن يرزقني بزوج صالح محترم.. ومع هذا فأنا لا أنزل بمستوى أخلاقي وتصرفاتي للمستوى الذي وصلن إليه للفت نظر الرجال إليهن؛ فأنا محجبة ومحترمة، وأحب الخير للناس، لكن مثل هذه الأشياء تفقدني اتزاني وراحتي.
وقد سمعت جوابا من الشيخ حفظه الله عندما سمع مثل مشكلتي في برنامج مشكلات من الحياة: "لم يأت الذي يستأهل بنتا مؤدبة خلوقة وملتزمة مثلك، أثابكِ الله"، لكن هذا الجواب الموجز المختصر لم يُرح بالي مع وجود سيئات الخلق من البنات اللاتي يضعن الماكياج والعطور الفواحة ويخرجن للسوق أمام الرجال لإثارتهم، حتى في التجمعات العائلية المختلطة، ويحاولن لفت أنظارهم بلبس الضيق والشفاف، أو بذاءة وطول اللسان، أو عدم الحياء أمامهم.
ولا تنسوا ما يثير الشهوة من الأفلام والبرامج الفضائية.. فأحياناً تأتيني فكرة أن أفعل مثلهن، وكما قلت إنني أريد الزواج وراحة البال؛ لأنهن كلهن تزوجن ومنهن المخطوبات، وأنا وأمثالي من الملتزمات مازلنا بنات إلا القليل.
فأنا أدرس في كلية بعيدة عن منزلنا نسبياً، وبعد أن أنهي محاضراتي بثلاث أو أربع ساعات أنتظر الحافلة لتعيدني للمنزل، وإدارة الكلية تثق بنا كثيراً؛ فلا تحاسبنا: مع من تذهبين بعد انتهاء جدولكِ الدراسي؟
وبالعربي الفصيح أبواب الفساد مفتوحة أمامي، من هاتف نقال خاص وخط إنترنت خاص، وثقة عمياء من قبل الأهل تفوق الخيال؛ لأنني ملتزمة وأحافظ على صلواتي، كما أنني أنتقي صديقاتي حسب علاقتهن بربهن.
لكن في النهاية يردعني خوفي من الله تعالى، ثم الخوف من عذاب النار، وأيضا عذاب الدنيا من خسران الشرف والسمعة الطيبة التي سعيت جاهدة لكي أغرسها في أذهان معارفي من الناس. آسفة على الإطالة؛ فأنا كثيرة الكلام،
لكن أتمنى أن يكون كلامي واضحاً مفهوماً.
وسأحاول جاهدة التوفيق بين الوجهين، وأريد منكم قليلاً من التشجيع، وألا تنسوا النظر في مشكلاتي.
20/12/2018
رد المستشار
رسالتك رائعة يا ابنتي في تصوير وتجسيد الحالة النفسية والذهنية لفتاة في سنك ومجتمعك، بل أغلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فشكراً لك عليه.
أزاهير وعيك المتفتحة تستقبل الدنيا بأشواق وحماس بنت الثامنة عشرة، ومن ذكائك الفطري تعرفين أنك محتاجة إلى زاوية أوسع لتتضح أمامك بقية أجزاء الصورة، وهكذا أود أن أفعل في السطور القادمة.
دعيني أبدأ من الآخر، وشكرا على ثقتك حين تفتحين لنا صدرك، وتبوحين بما يدور في عقلك من رغبات وصراعات وتساؤلات، وأسألك سؤالاً قديماً وتقليدياً ولكنه هام وأساسي: هل الغاية تبرر الوسيلة؟!
تريدين مثل كل البنات حقك في أن تكوني محبوبة ومخطوبة وزوجة ومرغوبة، وأن تعيشي تجربة رومانسية في الاتصال بشريك يشبع دوافعك الإنسانية والأنثوية؛ فهل الطريق إلى هذا يكون بارتداء الفاضح من الملابس وسلوك المختل من الأفعال؟!
وهل الذي تحركه أجساد النساء في ملابس الإغراء فيتبع هذه أو تلك ليرتبط بها.. هل سيبقى وده؟ وهل ستظل رغبته بعد أن ينكشف المستور ويصبح "عادياً"، أم سرعان ما ستنطفئ الجذوة، وتذهب السّكرة، ويكون النكد والطلاق؟؟.
وانظري حولك لتشاهدي مصداق كلامي، وكوني حكيمة وواعية، ولا تقتصري على مشاهدة الحلقات الأولى من مسلسل "الشبان والفتيات"؛ لأن متابعة الحلقات ستثبت لك أن الاسم الأنسب لهذا المسلسل هو "العارية والوغد"، والعارية تندم وتندب حظها، وتتساءل بعد خراب البصرة -مثلما يقولون-: لماذا يحدث لي هذا؟! لماذا أتطلق أو يخونني زوجي وأنا مخلصة له وراغبة بالستر والاستقرار؟
والجواب واضح وموجود في الحلقات السابقة حين كانت تصطاد الشباب بالعطر الفواح والمكياج الصارخ... إلخ. ثم لما انكشف الوجه دون أصباغ، وامتلأ القوام بفعل السن أو الحمل والولادة، وتغيرت الْمها التي كانت تغري الصياد باللحظ والخفة.. كان من الطبيعي أن يزهد فيها عندما تحولت، ولا يظلم ربك أحداً.
أما الذي يحب المرأة التي جمالها في عقلها، ويعشق الروح والأخلاق الشخصية هذا هو العاشق المنشود والزوج المطلوب، ولن يكون كذلك إلا إذا كان صاحب دين ووعي، وأحدهما لا يغني عن الآخر.
ومن يبحث عن جميلة الجميلات بالمعنى الجسدي مثل التي تبحث عن الوسيم، ومن يتزوج على هذه الأسس سيحصل على بضاعة ستصيبها حتما عوامل "التعرية" ويفاجأ بأنه وقع ضحية لجهله للطبيعة الإنسانية وحياة البشر كما خلقهم الله.. فهل تريدين أن تكوني من هؤلاء؟! بسيطة.. أنت تعرفين كيف؟!
وليس هذا شأن الاختيار بين الستر والتعري فقط، بل إن الاختيارات في الحياة كلها متاحة، والإنسان حر ومسؤول ويختار، ويتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا والآخرة.
ويرد على ذهنك -مثلما يرد على ذهن الكثيرين- أن الالتزام يبدو قيوداً ثقيلة تحول دون الانطلاق أو التمتع بحياة الشباب.
والحقيقة أن الالتزام الحقيقي هو اختيار له مقتضياته وتبعاته مثل كل اختيار، ومن شاء أخذه بحقه وتوابعه، ومن شاء تركه، هذا فضلاً عن أن الالتزام الحقيقي لا يعني ما يقع فيه البعض بجهل مختلط بالحماس والرغبة الصادقة أحياناً حين يحرمون بعض ما أحل الله من الطيبات، ويشددون على أنفسهم في غير موضع عزيمة؛ ولذلك فإن الالتزام لا ينافي التحرر المسؤول، ولكنه يناقض الانفلات، والمرء حيث يضع نفسه.
ويصيب بعض الملتزمين مما يرون حولهم من الضغوط ومن قلة بضاعتهم في فقد الدنيا والدين حالة من غرور التدين؛ فهم يرون أنفسهم بوصفهم المحترمين الأطهار وغيرهم ليسو سوى أنجاس مدنسين، وسيتبين لك بعد قليل أن الفوارق التي يبنون عليها هذه النفسية هي فوارق واهية، ناهيك عن أن إصدار الأحكام على البشر مهمة لا يقدر عليها وينبغي ألا يقوم بها سوى الله سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقد تصيبهم أيضا حالات من الحسرة على ما يفوتهم من متع الدنيا؛ أحيانا بسبب التزامهم فيتورطون في الحالة التي أحكم الله جل وعلا في وصفها {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أن أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إسلامكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ أن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات: 17).
إن أحدا لم يجبرك على الالتزام والاحترام، والاختيار أمامك مفتوح دائماً وأبداً. فلا تتحسري على ما يفوتك من متاع الدنيا الزائف.. ليس لأنه رصيد تعاسة، وإن بداً غير ذلك، ولكن لأنه زائل وضار؛ فهو مثل السم في العسل، وخففي من توترك كلما رأيت باطلا ينتفش أو يلمع؛ فهكذا الزبد الذي ما يلبث أن يذهب جفاء ولو بعد حين، ولكن من يصبر ويفهم؟!
ولا تشعري بالحرج من القيد الذي ألزمت به نفسك؛ فإن هذا يدعو للفخر لا الحرج والحسرة، ولكن حذار من غرور التدين؛ فلا يعلم السرائر والخواتيم إلا الله، نسأله سبحانه العفو والعافية، وحسن الختام.
وأنا ابتسمت حين قرأت كلماتك التي تقولين "إنني أريد الزواج وراحة البال"، وقلت: يا ليتك تقرئين صفحتنا بانتظام؛ لتعرفي أن الزواج مثل الالتزام له تباعته ومسؤولياته، ولا يمكن اختصار التعبير عنه براحة البال أبدا إلا إذا كنت تقصدين ناحية قضاء الوطر بالحلال، وحتى هذه فيها كلام؛ فليس كل متزوج أو متزوجة تحصل ما كانت تحلم به أو تتخيله في هذا الصدد.. بريئة أنت يا ابنتي.. ما تزالين!!
ولا يكفي يا فاضلة أن تكوني محجبة ومحترمة، وتحبين الخير للناس، وتجيدين الدعوة والنصح، ولك مواهب في التمثيل الهادف.. لا تكفي هذه المواهب على أهميتها لكي تصبحي أمًّا صالحة أو حتى مسلمة جيدة.
فالتربية مثلاً لن تكون بغطاء الرأس أو بطيب القول أو بالنصح والتمثيل، إنما هي من أصعب المهام والمسؤوليات -إن لم تكن أصعبها-، وتحتاج إلى فقه وعلم وتدريب وتجريب، وإذا كنت تريدين بيتاً مختلفاً وأسرة متميزة.. فماذا أعددت لهذا غير عطاء الرأس وحسن الخلق والمحافظة على الصلوات؟!
إذا كنت تريدين أن تكوني غير من توجيهن إليهن نقدك فإن الجهد المطلوب منك سيكون كبيراً، وهو في ميدان العمل أكثر أهمية منه في مجال الكلام والمواعظ التي تجيدينها..فما هي برامجك لتكوين نفسك كزوجة وأم؟! ولكي تكوني مسلمة جيدة لا يكفي في هذا العصر أن تكوني جريئة وقوية الشخصية، وتخافي من الله ومن النار... إلخ مما ذكرته عن نفسك؛ فهذا كله ينتظر عملا يصدقه أو يكذبه، وأنت متعثرة في اختبار هام مع نجاحك في أمور أخرى تستحق الإشادة؛ وأعني هنا علاقتك بأسرتك. ومن وعيك وحدة ذكائك وضعت يديك على التوصيف الرائع لحالتك معهم، ولكنك تلقين باللوم عليهم بسبب قلة التشجيع.
ولأنك بريئة وصادقة -ولا أزكي على الله أحدا- فإنك تعترفين بأنك كسولة جداً في البيت، وتحبين النوم، وعصبية المزاج... إلخ، بينما أنت رائعة خارج البيت.. أتعرفين لماذا؟
لأنك في الخارج تنصحين وتداعبين وتضحكين وترشدين وتمرحين وتتقلين ردود الأفعال الإيجابية؛ فتزدادين في ممارسة هذا وتكراره، وهو نشاط يغلب عليه الكلام كما ترين، وهكذا أشكال الالتزام لا تحتاج من صاحبها سوى قدر قليل من الجهد والجهاد إذا ما قورنت بحقائق وجواهر ومقتضيات الالتزام العملية.
وتقولين إنك لا تحبين أن يطلب منك أحد فعل شيء.. بل تريدين فعله من نفسك.. فهل نحن بصدد السؤال التاريخي: البيضة أولاً أم الدجاجة؟ وإذا كنت لا تقومين بالشيء بنفسك لأنك كسولة وعصبية وفي السرير أو أمام النت.. ضعي نفسك مكان والدتك أو أحد أفراد أسرتك وهو يرى أمامه فتاة على أبواب العشرين (أي يمكن أن تصبح زوجة وأما بعد شهور) تنقل جثتها أو جسدها من الأريكة إلى السرير، وتنام أغلب الوقت الذي تقضيه في المنزل، وإذا استيقظت فهي كسولة جداً جداً، وتجلس على النت كثيراً، وربما على الهاتف، وهي منهكة ومنهمكة في أعباء "الدعوة" إلى الله -كما تقول لهم- ألا تكون هذه الفتاة هدفاً مثالياً لكل من يريد توجيه سهام النقد إليها أو إلى الالتزام وأهله؟!
وكيف يمكن أن تقومي بالأعمال المنزلية أو غيرها إلا عبر إصدار الأوامر؟! ثم إنك لا تحبين هذا.. بل تريدين أن تقومي بها بنفسك، "طيب" قومي بها بنفسك يا ابنتي قبل أن يطلبها منك أحد، ولكن هذا يقتضي ألا تكوني كسولة أو عصبية، وأن تعطي كل ذي حق حقه؛ لأن بيتك ليس فندقاً للنوم والترفيه، والدعوة بالكلام هي من أنواع الترفية "النافع"، ولذلك يشعر من يمارسها بلذة ومتعة، ولكن حقيقته تظهر على محك الفعل واختبار الممارسة، وأهم ميدان اختبار الممارسة والفعل في هذه المرحلة من حياتك هي بيتك، وبناء على ذلك فإنك لا تعيشين بشخصيتين لا سمح الله، ولكنك مثلنا أو مثل أغلبنا؛ فصيحة اللسان، وشحيحة العمل، طالما كان هذا العمل على غير هواك مثل العمل داخل المنزل.
اجلسي مع أي أحد وافتحي موضوعاً عن فساد الزمان وسوء أحوال الناس مثلاً، واستمعي منه بعد ذلك لخطبة عصماء ومواعظ أطول مما حفظته الكتب، ونسبته إلى السيد المسيح عيسى عليه السلام من طويل المواعظ مثل موعظة الجبل؛ وأقصد الكلام الجميل المؤثر الذي لدينا منه ما يملأ الآفاق ويسد عين الشمس -كما يقول المصريون- كناية عن الكثرة، وكلنا يتحدث عن الأمانة، وإتقان العمل، وبر الوالدين، وحسن الخلق، والنشاط، والتعاون، وهدوء الأعصاب، والحلم والأناة اللذين يحبهما الله ورسوله... إلخ.
ولكننا إذا دخلنا في الاختبار؛ فظلمنا أحدهم، أو نزلنا إلى ميدان التطبيق مرة سواء في علم منزلي أو مصلحي، أو موقف يكشف عن حقيقة ما نحمله من أخلاق وقيم لها ما نتكلم فيه لنملأ الهواء ضجيجاً وحروفاً، حين يأتي وقت العلم ننكشف جميعاً إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
وعظمة حبيبي ونور قلبي الذي أضاء علي الدنيا يوم بعث إلى يوم القيامة؛ الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم.. من جوانب عظمته أن حياته في بيته مكشوفة لنا؛ فكأننا نراه مع زوجاته أمهات المؤمنين، وكأن جدران منازله جميعاً كانت مصنوعة من زجاج؛ فإذا به داخلُها مثلُ خارجِها، يأمر بالحلم، ولا يضرب زوجة ولا خادماً، يأمر بالعفو وطيب القول،
وعنده عائشة بعد حادث الإفك وهو يتزلزل مما يسمع من أقاويل تطعن في عرضه الشريف، ثم لا يقول كلمة يؤذي بها من يقال في حقها ذاك الكلام. فمن يطيق هذا؟! ومن عمله مثل كلامه، وسيرته كما مواعظه "وكانت قليلة"؟ ومن علم الدنيا بعمله وخلقه أكثر مما أرشد ووعظ بلسانه؟!
وأي اختيار هذا واختبار حين جعله الله سبحانه وتعالى، وحدده لنا ليكون القدوة والأسوة والمثال حتى لا نضل أو نتشوش؟ وكيف نضل وبيننا كتاب الله يحمل المفاهيم والقيم وسيرة النبي تحلم التطبيق والمثل؟ ولكن أين نحن من هذا وذاك، غير أن لدينا الآيات والأحاديث والسيرة مجرد مادة الوعظ والكلام وليست دليلاً تفصيلياً للإبداع والتطبيق؟
لست وحدك في هذا التناقض أو تلك الفجوة.. بل أعرف أمة بأَسرها تائهة هناك تتكلم كثيراً وتتحسر على ضياع الأخلاق والدين، وهي التي أضاعتهما، كلٌ حسب مكانه وميدان تطبيقه ومساحة تقصيره.
أمه تصدّع رؤوس العالمين بكلام كثير عن عظمة دين الله، وهديه وشرف الانتماء إليه، وأنه السبيل الوحيد للعزة والفوز في الدنيا قبل الآخرة، ثم انظري إلى واقعها لتجديها في ذيل الأمم وقمامة الواقع والتاريخ، ولا ينفي هذا شجاعة المقاومة ومبادرات الإصلاح،
ولكن غيرنا معذور حين يقول: لو كان في دينهم ما يقولون من خير لصار حالهم غير هذا الحال، وما علموا أن الخلل يكمن في أننا نتحدث عن الدين وحلاوة الدين وجمال الدين وروعة الدين، ولا نعمل بشيء مما نقوله إلا في أقل القليل.
فاحذري أن تكوني من الخاسرين، ولا تنتظري من يطلب منك في البيت صنيعا.. بل كوني الأنشط والأسرع مبادرة، والأقرب مجاملة، والأكثر تعاوناً وحناناً وأدباً، وافعلي هذا؛ لأن الإسلام هو ذاك كله، وحين تفعلينه سينقلب النقد مديحاً، والسخرية تشجيعاً، وسيعلمون في بيتك من تلقاء أنفسهم أن هذا التغيير هو انعكاس طبيعي للالتزام بما تقولين، وعندها سيحبون الالتزام وأهله.
قللي من الانشغال بانتقاد العالم من حولك، ووجهي بعض نظرك إلى نفسك وأدائك، وحاسبي نفسك قبل أن تحاسبي الناس، وحاسبيها قبل أن يحاسبك الله، واجتهدي في تطوير قدراتك ومهاراتك الدعوية بالكلام والعلم، ولا تفقدي روح الدعابة والمرح، واستثمري في الخير إمكاناتك المادية الجيدة -ولله الحمد- من هاتف نقال وخط إنترنت خاص، واستفيدي مما تفتقده الكثيرات من ثقة الأهل بهن؛ فهذه جميعها ليست أبواب فساد إلا للخبيثات. أما أنت فلك هدف آخر، ومسار آخر، وفقك الله، ومنّ عليك بفضله حين هداك للإيمان. فلا تكوني كمن آتاه الله آياته فأعرض عنها فصار مثله كمثل (...) أعزك الله.
وفي حركتك الدائبة الواعية، وفي نشاطك داخل بيتك وخارجه لا تنسي إعداد نفسك للزواج والأمومة بما هو أكثر من غطاء الرأس، وحسن الخلق، وحلو الحديث الذي استمعت به في رسالتك. وأرجو أن يكون لك من تطبيقه نصيب.
وأتركك في رعاية الله.
ويتبع >>>>>>: إلا في البيت.. جريئة ومرحة ورائعة ثرثرة صيفية م