السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أحب أن أنشر لكم مشكلتي التي يقطر قلبي منها ألمًا بدل الدم، إنني والله أعتبر أن بلاء الله للإنسان من نعم الله عليه، ومن حب الله لهذا العبد، وأسالكم بالله ألا تهملوا رسالتي التي طالما تحرجت من إرسالها لأحد؛ حيث إن الشكوى لغير الله مذلة، ولكني هنا أقف وقفة الأخت المسلمة التي ترتجي المشورة والكلمة الطيبة التي تثلج الصدر من أخواتي المسلمات حتى أحصل على الثبات والتشجع والسير للأمام.
أنا طالبة بالجامعة عمري عشرون عاماً، سلكت طريقاً مليئاً بالتحديات، والتحديات هذه كانت مع أقرب الناس لي مع والدي، نعم إنه والدي؛ لقد ولدت بين أم وأب مختلفين بالمذهب؛ أبي شيعي، وأمي سنية والحمد لله.. ولم أسلك منهج والدي أبداً، وساعدني وضعي بالقرب من أهل أمي؛ وهو ما أدى إلى الدعم والتشجيع على سلوك طريق الحق الذي هو على سنة حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت هدايتي لهذا الطريق بالفطرة؛ حيث لم أقبل ما يقوم به أهل أبي وما يؤدونه من بدع وشعائر على الإطلاق بل كنت دائماً أقف موقف المنكر لهذه الأمور.
المشكلة ليست هنا، ولكنها تكمن في كون اتجاهي إلى مذهب السنة خفاء دون إعلام والدي بذلك، وهذا يعني أنه يعتقد أني على مذهبه، وللأسف لم يقبل رجائي منه أن أسلك مذهب أمي، وقال لي بأنه سيكرهني إن سلكت مذهب السنة، وأنا كطفلة حينما قال لي ذلك فضلت أن أكتم أني على الحق، وأظهر له بأني شيعية.
طبعاً عشت حوالي 13 سنة أعاني من هذا الشيء، حيث هناك عدة أمور في العقيدة والشعائر لا أشاركهم فيها بقلبي بل بظاهر يخفي الإنكار بالباطن، فعلاً أعترف أني جبانة، ولكن ما بي ليس إلا حفاظاً على مشاعر أبي من الشعور بالخذلان والأسى لما أنا عليه؛ حيث إنه أب حنون جداً، ولم يقصر معنا في شيء، إلا أنه يتحول إلى شخص قاسٍ حينما ينقلب الحديث إلى التعصب المذهبي والله المستعان.
وبعدما تخرجت واتجهت أكثر تجاه الالتزام تعقدت المسألة؛ لأني كنت وما زلت أداوم على أن أحضر دروس الدين وحلق الذَكر وأشترك بجمعيات إسلامية، وكل ذلك وأبي لا يعرف، وأحمد الله على إعانته لي على ذلك، وبعدها التزمت أكثر واتجهت إلى الدعوة، أجل إنها الدعوة التي يبغض أبي من يسلك طريقها، خصوصاً على المذهب السني.
إنني الآن سأكمل الحادية والعشرين بعد مده قصيرة، ولكن هناك مشكلة أكبر وهي أنه لا يقبل بأي زوج يكون على المذهب السني، والمشكلة الآن أن أهل الشاب الذي يتقدم لي يرفضون أن يقبلوا بي كزوجة لمجرد كون أبي على ذلك المذهب، والله أعلم بما في قلبي من براءة منهم، حيث تبرأت من كل قطرة دم في منهم، وأشهد الله على ما في قلبي من ألم فظيع أكاد أتقطع كلما تذكرت حالي، وخصوصاً أني أتمنى أن يرزقني الله بزوج ملتزم يأمرني بما يرضي الله، وهذا جداً مرفوض لدى والدي؛ لأنه يكره الملتزمين السنة.
وشرطي ورجائي من الله الزوج الصالح المتقي الذي لا يترك فرضًا إلا وأقامه بالمسجد، والحمد لله على نعمة الهداية، حيث مررت بعدة أزمات نجوت منها بهداية الله، وما هذا إلا يقين مني بلطفه في قضائه وحكمه علي مهما تألمت. أنا والحمد لله أقوم بحفظ كتابه، وأسال الله أن يعينني على حفظه كله، وأدعوه بكل سجدة أن يوفقني بالزوج الصالح.
ربما تبدو المشكلة مألوفة لديكم من ناحية أنها تعصب معين من الأهل، ولكني أرى بأنها أكبر من ذلك؛ حيث إن المشكلة تكمن في التزامي الشديد الذي يشكل عائقاً كبيراً بيني وبين والدي، حيث بدأت أجاهر بنكراني لبعض البدع، وهذا يخلق مشاكل كبيرة بالمنزل بعد سؤالي الله الإعانة والقوة والصبر.
أتمنى أن أعرف رأيكم بمشكلتي البسيطة في نظر القارئ والمؤلمة في قلبي الحزين الذي يريد أن يسلك طريق رضا الله، ولكن الطريق مليء بالعقبات الموجعة، أتمنى أن ألقى المشورة والإرشاد من إخوتي في الله، وإني والله لدي والحمد لله صحبة صالحة ويعينني الله بها على الثبات على طريق الحق، ولكن هل من مشورة تزيح هم المستقبل من خاطري؟
ومشكلتي تتكرر مع إخوتي الستة، وأنا أكبرهم وأحمل هم هدايتهم وحثهم على الصلاة والاستقامة، وأمي أقل التزاماً مني، حيث إنها ترفض الكثير من طرق التدين التي أسلكها مثلا: أنا أرفض النمص، وأعتقد أن مرض أبي المتعلق بقلبه وضغطه العالي يستدعي مني أن أحافظ على هدوئه وأرضيه قدر المستطاع.
حدث للأسف أن أحبني بسبب التزامي شاب ملتزم بالجامعة، وأراد أن يتقدم فقلت له عن ظروفي ورفضت إقامة العلاقة إلا بالحلال، وعندما صارح أمه بوضعي لم تتقبلني أمه، واضطررت أن أقطع كل آمالي، حتى إني لا أكلمه خوفًا من الله، ولكن الألم بقلبي كبير؛ لأني ارتحت له كثيرًا وتوقعت أنه الفرج من الله علي، وأعلم أن الحب غير الشرعي محرم؛ لذا تبت إلى الله توبة نصوحًا وتركت حتى كل أحلامي وآمالي؛
حيث لا أستطيع التوقف عن التفكير بالدعوة إلى الله والقرب من الله ولقائه وهو عنا راض؛ حيث إني راضية بقضاء الله وقدره علي وأسأله العون والمساندة.
29/12/2018
رد المستشار
ابنتي الطيبة، رغم اللغة الاستشهادية التي كتبت بها رسالتك، وشعوري بمدى الضغوط التي تعيشينها.. لم أستطع أن أمنع أساريري من الانفراج بعدما انتهيت من قراءة سطورك. تصورتك يا ابنتي وأنت تحكين لي عن عالمك الصغير، وإدراكك للأشياء والعلاقات على قدر خبرتك وتجربتك في الحياة، وتحكين لي عن الشاب الذي طرق باب قلبك،
وابتسمت أنا وأنت تقولين إنه "حدث للأسف أن أحبني بسبب التزامي شاب ملتزم بالجامعة"، ولا أدري موضع الأسف هنا!!
هل تتأسفين لأن شابًّا أحبك؟! أم لأنه أحبك بسبب التزامك؟! أم لأنه مثلك ملتزم؟! أم تتأسفين لما حدث من أمه؟! أم تتأسفين لأن قلبك قد تحرك تجاهه حين صارحك بعاطفته نحوك، وأراد أن يتقدم؟!
علام تتأسفين؟! ومما تتوبين يا ابنتي؟! هل حدث بينكما شيء يدعو للأسف، أو يستوجب التوبة؟! إذا كان لم يحدث شيء من هذا فاعلمي أن مجرد ميلك إليه هو أمر طبيعي وفطري إنساني لا يستدعي أسفًا ولا يتطلب توبة؛ لأن هذا الميل هو -مثل كل ميل عاطفي- ليس من الأفعال الإرادية التي تأخذ حكم الحل أو الحرمة طالما أنها بقيت في مرحلة الميل القلبي، ولم تخرج إلى مستوى الفعل المحرم.. لا قدر الله.
وأنت بنفس البراءة والنقاء تنظرين إلى العالم، وإلى علاقتك بوالدك، ودعينا ننظر إلى الأمور دون رتوش، أو بمعنى أدق بعيدًا عن مسألة المذهب، دعينا نعتبر أن خلافك مع والدك هو خلاف في الموقف والاختيار تجاه المعتقد أو أساليب الحياة...إلخ، كما يحدث بين أي والدين وبين الأبناء في مرحلة المراهقة والشباب التي أنت فيها، وإذا نظرنا إلى هذا الخلاف هكذا فستتضح أمامنا الصورة أكثر:
- إذا كان والدك رجلاً متعلمًا ومثقفًا فلا أظنه سيدافع عن البدع والخرافات، خاصة أن هناك من المرجعيات الشيعية من ينكرونها، وأذكر منهم سماحة السيخ محمد حسين فضل الله في لبنان مع التنبيه هنا على التمييز بين ما هو اختلاف في أدلة أحكام الفقه بين أهل السنة والشيعة، والخرافات التي يمارسها هؤلاء وأولئك ويربطونها بالدين، ومن أمثلتها الشهيرة المبالغة في تقديس آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الرحال إلى أضرحتهم، والتبرك والتمسح بأعتاب الضريح أو بوابته وأخشابه ومعادنه!!
- هذا هو "الدين الشعبي" كما يسميه بعض الباحثين، ولا يخلو منه شعب، ولا تخلو منه أمة أو ثقافة، وهو من علامات البساطة في التفكير؛ فأصحاب العقول الأنضج يعرفون أن قيمة آل البيت رضي الله عنهم هي في جهادهم، وفي القيم التي عاشوا يمثلونها، وماتوا عليها، ولا علاقة لهذا بالباب الخشب أو النافذة الحديد، ولكنها عقول البسطاء!!
- ومطلوب منك مثل أية فتاة في سنك أن تمارسي ما أسميته أنا مرارًا من قبل "دبلوماسية العائلة"، ويعينك فقه الأولويات والضروريات؛ فطاعة الوالد واجبة، ومخالفته معصية إلا أن تكون المعصية في طاعته أكبر، وعليك أن تقيسي أمورك دائمًا لتختاري أخف الضررين أو أعلى المصلحتين، ومن ناحية أخرى فإن الحب المغدق من فتاة لأبيها من شأنه أن يذيب الحجر فما بالنا بقلب أب لم تذكري أنه فظ أو غليظ أو قاس، بل ذكرت عنه العكس.
- وإذا كان والدك سيعتبر اختيارك لمذهب أهل السنة عيبًا فيك فإن هذا العيب وغيره سيغرق في بحر سخائك العاطفي حين تسارعين في مرضاته، وتهتمين بشئونه، وتحسنين في بره، وأعجبني ما قرأته مؤخرًا من قول الشاعر:
إذا كثرت عيوبك في البرايا***وسرَّك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء، فكل عيـب***يغطيه كمـا قيل السخـاء
وفي غمرة هذا السخاء سيكون مقبولاً أن تتزوجي من شاب سني المذهب، فقط إذا كان مناسبًا لك من جميع النواحي؛ لأن صلاة الفروض في المسجد، وإطلاق اللحية وغيرهما من علامات الالتزام الظاهرة ليست وحدها المؤهلات المطلوبة لزوج يكرمك ويصونك، ولا أحسب الوالد سيتردد في قبول أي شاب محترم طموح يحسن كسب قلبك وعقلك لمجرد أنه سني المذهب، لأنه بذلك -أي الوالد- سيضع نفسه في موقف متناقض وحساس حين يرفض لابنته ما قبله لنفسه وزوجته.. "أم أبنائه".
ولكنني أنبهك هنا أيضًا أن كلماتك تحمل نوعًا من التبسيط المعتاد لدى الفتيات الملتزمات حين يأتي الحديث عن الزوج المنتظر، أو فارس الأحلام، فلا تكوني من ذوات النظرة المحدودة، واعلمي أن للالتزام بالدين نواحي متعددة، وصفات متنوعة، وشيمًا كثيرة بعضها في المظهر وأغلبها في الجوهر، وتوافر صفات المظهر لا يستتبع بالضرورة أن تتوافر سجايا الجوهر؛ فحذار من الاندفاع؛ لأن عواقبه تكون وخيمة، وآلام الاختيار الخاطئ تكون رهيبة.. عافاك الله منها يا ابنتي.
- والآن دعينا نتفق على أن أولويات المرحلة القادمة هي كالتالي:
أولاً: أن تكسبي والدك باللباقة وحسن الخلق، والهدايا والاهتمام، والحب والرعاية، وكل ما من شأنه أن يعطف قلبه عليك، ويجعله ينظر إليك بحب واحترام، وإياك أن تجعلي من الاختلاف المذهبي مدخلا للجدل أو التنافر.
ثانيًا: أن تناقشيه بهدوء تام وأدب كامل -حين تأتي مناسبة- في التفريق بين ما هو دين، وما هو خرافة أو بدعة، ومحاربة الخرافة هي من أولويات حياتنا جميعًا إن كنا نريد غدًا أفضل، وتخليص الدين من البدع الفاسدة والأساطير المضللة هو السبيل الوحيد لتحرير إرادة الناس وعقولهم ليكونوا بشرًا جديرين بخلافة الله في الأرض.
ثالثًا: أن تكسبي أمك إلى صفك، فبعض الأمهات تغار حين ترى تقاربًا بين الأب وبناته، ولا يبدد هذه الغيرة إلا احترام مواز، وحب مغدق، ومعاونة مستمرة في شئون البيت أو شئونها الخاصة، وليعلم الجميع من خلال سلوكك المستمر أن التزامك بالدين يعني تفوقك الدراسي، وتميزك الأخلاقي، وتحضرك السلوكي.
رابعًا: لا تتعجلي الارتباط، واستعيني بالله سبحانه في شأنه، وفي كل شؤونك، ولا تحجبي أي مسار يبدأ في هذا الاتجاه عن والدك ووالدتك، وثقي أنهما يريدان الخير لك، فأحسني التحاور معهما، والفهم عنهما؛ فإدارة الاختلاف حين يقع، وتلافيه إذا لم يكن له داع هما من علامات النضج..وتابعينا بأخبارك.