نوبات الهلع وخلطة القلق والاكتئاب
بسم الله الرحمن الرحيم
أ.د.وائل أبو هندي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... وبعد
جزآك الله ألف خير لاهتمامك بمشكلتي حيث أرحتني كثيراً فجعله الله في موازين أعمالك.
أفيدكم أن هذه الأيام تحسنت حالة أختي ولكني أخاف من انتكاسها كما في المرات السابقة.
وأفيدكم أن أختي أصبحت وحيدة منذ ما يقارب خمس سنوات وقد حدث لها حالة مشابهة من حزن وزيادة في ضربات القلب وذلك بعد زواجي حيث أنني أختها الوحيدة مع ثلاثة أخوة حيث أصبحت لا تريد أن يذكر اسمي أمامها ولكن الحالة لم تستمر كثيراً ومنذ شهرين فقط أتتها الحالة التي وصفتها لكم الشيخ الذي يقرأ عليها ينصح بعدم عرضها على طبيب نفسي ويقول أن ما بها هو نظرة (حسد) فلا أدري ما هو رأيكم هل نتركها تستمر على علاج الشيخ أم نعرضها على طبيب نفسي؟
جزآكم الله ألف خير
وشكراً
30/01/2019
رد المستشار
الأخت العزيزة : أشكرك جداً على المتابعة، وبهذا التوضيح الذي ذكرته في متابعتك تصبحُ أختك في حاجةٍ بالفعل إلى العرض على طبيبٍ أو طبيبة نفسانية، لأن تحسنها الحالي يبدو مرتبطًا باستجابتكم لطلبات معينةٍ لها أو تنفيذكم لرغبةٍ ما ترغبُ هيَ فيها، ومن الواضح أن ارتباطها الشديد بك هو أحد العوامل الفاعلة في ظهور أعراض الاضطراب النفسي عليها، ولذلك فإن الأعراض، رغم تحسنها الحالي، في الأغلب ستعود بعد فترة يعلمها الله وربما أخذت شكلاً جديدًا، فأختك في حاجةٍ إلى برنامج علاج نفسي معرفي تستطيع فيه من خلال علاقتها بالمعالج النفسي أن تطور أساليب سلوكية جديدة للتعامل مع مشاعر الضيق والقلق والوحدة، بحيث تكونُ أساليب تنفعها وتنفع المحيطين بها
وأما أهمُّ نقطةٍ في متابعتك أجد أنني ملزمٌ بالرد عليها، فهيَ تفسيرُ الشيخ الذي يقرأ عليها (أي الذي يدعي أنهُ يعالجها بالقرآن لما لدى أختك بأنهُ حسد!)، جازاه الله حسب نيته، فهو إما صادقُ النية لكنهُ جاهلٌ بحقيقة الأمور ولا يجدُ من يهديه إلى الصواب أو لا يريدُ أن يهتدي، أو فهو واحدٌ من الذين يتكسبون من خلال المتاجرة بعقيدة المسلمين سواءً بتقاضي الأجر أو الهدايا أو ربما السمعة والشهرة والجاه بين الطيبين وهو في الحالتين مع الأسف الشديد إنما يعززُ اللبس والاختلاط الماكثَ في أذهان الغالبية العظمى من المسلمين والمتمثل في الخلط بين عالمي الغيب والشهادة،
وأحبُّ أن أؤكدَ قبل البدء في أي توضيح هنا أن الإيمان بالحسد هو موضوعٌ لا ينبغي لمسلمٍ أن يناقشه لأنهُ أحد ثوابت القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وأعظم ما يتقي به العبد الأشرار الأذكار الشرعية، وتأملي قول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) صدقَ الله العظيم (سورة الفلق:1ـ5) ، ويقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) في كلامه على المعوذتين: "جمع الله فيهما التعوذ من كل شر حسي ومعنوي".
وهناك الرقية الشرعية التي يتلوها المصابُ نفسه أو أحد ذويه عليه فمن الثابت في السنة أن جبريل ـ عليه السلام ـ يرقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها، وعن عائشة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقاه جبريل، قال: "باسم الله يُبْرِيك، ومن كل داء يَشفِيك، ومن شر حاسدٍ إذا حسد، وشر كل ذي عين" (الحديث أخرجه مسلم في: الصحيح).
وعن أبي سعيد: أن جبريل أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد، اشتكيتَ؟ فقال: "نعم"، قال: "باسم الله أَرْقِيك، مِن كل شيء يُؤْذيك، مِنْ شَرِّ كل نفس أو عَيْنِ حاسد الله يَشفيك، باسم الله أَرْقِيك" (الحديث أخرجه مسلم في: الصحيح، والترمذي في: السنن وعَقَّبَ عليه بقوله: "حديث حسن صحيح")
ولكي أفصلَ في أمر الخلط الحادث بين عالم الغيب وعالم الشهادة في روع كثيرين من المسلمين، فإنني سأبدأُ معك بالتدريج، فالإنسانُ مفطورٌ على محاولة إيجاد علةٍ لكل موجودٍ أو حادث، والأمراض بوجه عام هي من بين الحوادث التي تطرأُ على كل بني آدم من فجر التاريخ، وكان لابد من بحثٍ عن طريقةٍ لتفسيرها، ولذلك فإن الأمراض كلها في قديم الزمان كانت تعزى لمثل هذه الأمور الغيبية (كالحسد أو السحر أو الجن أو غير ذلك)
لكن انتصارات الطب المتوالية واكتشاف الجراثيم ثم المضادات الحيوية والتي كان اكتشافها مشتملا على طريقة عملها أدَّت إلى سهولة الفهم على الناس فلم نعد نسمع بمن يتردد على الشيخ لكي يعالجه من التهاب في شعب صدره الهوائية يسبب له السعال ولم نعد نسمع بمن يزور الشيخ ليعالجه من الشعور بالحموضة الزائدة بعد تناول الطعام أو من الإسهال أو الإمساك مثلاً إلى آخره، فقد أصبحت هذه الأمراض ومثيلاتها معروفة مشهورة لدى كل الناس ولديهم فكرة لا بأس بها عن أسبابها وطرق علاجها فلا تكاد اليوم تجد من يصدق إن التهاب الحلق من فعل الجان! مع أن ذلك كان هو الحادث قبل فهم هذه الأمراض ومعرفة أسبابها (بمعنى أن الشخص قديمًا كان إذا اشتكى من المغص المعوي لجأ إلى الشيخ لكي يعالجه)،
إلا أن الأمر ليس كذلك في حالة الأمراض النفسية والعصبية والسبب أنه في حالة الأمراض النفسية كان التقدم الذي حدثَ متأخِّرًا بعض الشيء عن الفروع الأخرى من الطب وتمثل أولا في اكتشاف الأدوية بالصدفة في أغلب الأحيان ثم استنتاج أسباب المرض بعد ذلك وإجراء التجارب التي تثبتها أو تنفيها ، وأما في حالة الأمراض العصبية فإن الكثير منها رغم معرفة أسباب حدوثه الباثولوجية فإنهُ لم يكتشف له علاج مناسب حتى الآن ولا يتحسن الكثيرون من المرضى إلا قليلاً وإن كانت السنوات الأخيرة تشير بوضوحٍ إلى قفزات علمية هائلة في هذا المجال.
المهم هنا أن التقدم البطء في هذين الفرعين من الطب من حيث اكتشاف الأدوية والاتفاق على الأسباب المرضية إضافة إلى طبيعة أعراض الاضطرابات النفسية والعصبية حيث تبدو غريبة في منظور عامة الناس فبالرغم من السلامة الظاهرة في شكل جسم المريض فلا هو بالذي ترتفع حرارته ولا هو الذي يحمر جسده إلى آخره إلا أنه يأتي بتصرفات أو يقول أقوالاً غريبة أحيانا تخالف شخصيته المألوفة أو يفقد جزءٌ من جسده وظيفته كأن يتعطل الذراع أو القدمين أو أن المريض يرتمي متشنجا على الأرض من تلقاء نفسه ؛ أو أن البنت الصغيرة تعجز عن وقف حركات متتالية لا إرادية في ذراعيها مثلا أو تبدو كمن لا تستطيع منع جسدها من التلوي! هذه الطبيعة المحيرة والموحية بعدم قدرة الإنسان على السيطرة عليها في أعراض الكثير من الأمراض النفسية والعصبية كان لها ولا شك دور في استعداد الناس لقبول تفسير غير مادي لها، ثم في عدم استعدادهم لقبول التفسير المادي إذا سمعوا عنه بطريقة أو بأخْرَى.
وأعود إلى دور الحسد في إلحاق الأذى بالإنسان وإلى ميل كثيرين إلى وضعه كسبب لذلك الأذى، فإنني هنا أقولُ أن الخلاف بين الأطباء نفسيين وغير نفسيين وبين أمثال الشيخ الذي يدعي علاج أختك بالقرآن ليسَ في كونِ الحسد مسؤولاً عن إصابة الإنسان بالأمراض أيًّا كانَ نوعها، وإنما الخلاف هو في كيفية التعامل مع ذلك، فمن الممكن على سبيل المثال أن يصابَ طفلٌ صغيرٌ بالتهابٍ في حلقة أو في رئتيه، وتؤكدُ أمهُ أن سببَ ذلك هو عين إحدى صديقاتها، وهو من وجهة نظر الطب الغربي ليسَ أكثر من حالة عدوى بكتيرية أو بأحد الفيروسات، لكن إسلاميا ليس هناكَ ما يمنعُ من أن يكونَ للحسد دورًا في تعريضه للإصابة بتلك الجراثيم، ولكن الطامة الكبرى تكونُ إذا رأينا الأم أو شيخًا كالشيخ الذي يقرأُ على أختك يطلبُ من الأم ألا تعرضَ طفلها على الطبيب وألا تعطبه الدواء لأن ما به هو عين صديقتها تلك!
من الواضح في مثل هذه الحالة أن هذا الشيخ مهما بلغ من النفوذ فلن تستمع له أم الطفل المريض، وستعتبرهُ جاهلاً ومجرمًا لأنهُ سيضرُّ بابنها ولأنها هيَ نفسها تعرفُ أن أعراض مرض طفلها رغم كون الحسد عاملاً فاعلاً فيها إنما ترجعُ إلى وجود تلك الجراثيم في حلقه أو رئتيه، وهيَ لذلك ستأخذ طفلها إلى طبيب الأطفال وستأخذُ الوصفة العلاجية وتعطيها لابنها، لكننا مع الأسف نجدُ موقفًا غير ذلك في حالة الأمراض النفسية، ولذلك أسبابُ عديدة بعضها تقدم شرحه، وبعضها يعود إلى الموقف الاجتماعي الرافض للطب النفسي ولذلك أسبابٌ متعددةٌ يضيق المقام للخوض فيها هنا،
ثم أعود مرةً أخرى لأبينَ لك الخلل العظيم في منطق الشيخ الذي ينصح بعدم عرض مريضة باضطرابٍ نفسي على الطبيب النفسي لأنها محسودة أو لأن ما بها هو نظرة (حسد) كما قلت في إفادتك، فإذا قلنا على سبيل المثال أن أحدهم بسبب حسد زميله له عندما قال له وهو يجري، ما أطول ساقيك! مثلاً فكان أن تعثر وانكسرت واحدةٌ من عظام رجليه هل يقولُ هذا الشيخ لأهله لا تعرضوه على طبيب العظام وسيشفى بقراءة سيادته! بالطبع لو فعل ذلك لاتهموه بالجنون.
إذن فإيماننا كأطباء نفسيين مسلمين بأن الحسد موجودٌ وفاعلٌ، وإيماننا كمسلمين بوجهٍ عام بالحسد، إنما يدخل في إيماننا بالغيب، وهو ينتمي لعالم الغيب، بينما المرضُ أيا كانَ عضويا أو نفسيا ومعروف السبب أو مجهول السبب هو مجموعةٌ من الأعراض التي تظهرُ لنا سواءً كنا من المرضى أو من الأطباء كعلامات في عالم الشهادة، وعالم الشهادة هو عالمٌ تحكمه قوانين بعضها فهمها الإنسان وبعضها ما يزالُ يسعى لفهمه، لكن التعامل مع الأعراض التي تظهرُ في عالم الشهادة يجبُ أن يكونَ من خلال وسائل ذلك العالم،
وأرجو أن تسألي الشيخ سؤالاً واحدًا هو (هل أنزل الله تعالى آيات القرآن الكريم لكي تفهمها العقولُ وتعيها فتطمئن بها القلوبُ أم أنهُ سبحانهُ وتعالى أنزلها لتكونَ تعاويذ نستخدمها في التعامل مع الغيبيات أيا كانت تلك الغيبيات جنا أو سحرًا أو حسدًا؟؟ وهل يوجدُ على وجه الأرض من يستطيعُ أن يجزم ولو في حالةٍ واحدةٍ أن هذه حالة حسد؟؟ وهل يوجدُ في تراث المسلمين الثقات كلهم من نهى من يظن أنه محسود عن اللجوء إلى الطبيب والاكتفاء بالرقية أو بالقراءة عليه؟؟ إلا إن كان ذلك الشيخ (لسبب في نفس يعقوب) يعتبرُ الطب النفسي استثناءً!
أختك كما اتضح من متابعتك في حاجةٍ ليسَ فقط إلى العرض على طبيب نفساني متخصص وإنما هيَ في حاجةٍ إلى علاج نفسي ومعرفي وربما أسري أيضًا لأنني أستطيع من خلال قولك (أصبحت لا تريد أن يذكر اسمي أمامها ولكن الحالة لم تستمر كثيراً) أن أستنتجَ وجود بعض سمات الشخصية الهيستيرية، وأمرٌ علاجها النفسي أمرٌ يجبُ إشراك أفراد العائلة فيه خاصةً وأن المعالج سيطلب ذلك غالبًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتابعينا بأخبارك.