السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أنا شاب أبلغ من العمر تسعة عشر عاماً، أُصبت في الآونة الأخيرة بمصيبة أضيفت إلى قائمة المصائب الأخرى التي أعاني منها على مدى تسع سنوات ماضية حرمتني معنى الحياة، فأنا أعيش حياة تعيسة سوداء منذ صغري لم أرى فيها سوى الابتلاءات العظيمة (وأغلبها نفسية)، والحمد لله على كل حال، فقد أصبت بالوسواس القهري قبل سنتين أي في مرحلة الثانوية العامة، وتعذبت عذاباً ليس له مثيل وما زلت أعاني، وأصبت بالعين وقد عالجني أحد الشيوخ، والمصيبة أن من يومها أخاف من الحسد بصورة غير طبيعية مع أنني أتحصن، فأي أحد ينظر إلي أو يعلق عليَّ أقول أنه حسدني وتزداد عليَّ الوساوس القهرية وتصبح حياتي جحيماً.
أما المصيبة الجديدة وهي الأخطر والأهم في رسالتي هذه وأنا آسف على الإطالة هي أنني أصبحت أخاف من القرآن والذهاب إلى الصلاة!... بدأت معي هذه المشكلة قبل شهر حيث ذهبت يومها لصلاة الفجر، وبينما كان يقرأ الإمام بدأ قلبي يدق بسرعة عجيبة وعدد مرات تنفسي زداد بشكل غريب وشعرت أنني أريد أن أصرخ وكأن شيئاً يريد أن يخرج من جسمي حتى أنني قطعت الصلاة وخرجت بسرعة من المسجد، ومن يومها أصبحت لا أستمع للقرآن إلا قليلاً وأول ما أحس بشيء في جسمي أتوقف عن الاستماع مباشرةً، وأصبحت أتعمد أن أؤخر الصلاة حتى ينتهي الجزء الجهري منها فأصلي ما فاتني من الركعات بسرعة وأخرج من المسجد بسرعة.
وأنا أحس في الآونة الأخيرة بسخونة غريبة في جسمي وأتعرق كثيراً على غير العادة، هذا غير الصداع الذي أصبحت أعاني منه بشكل شبه مستمر، وأخاف أن يكون كل هذا الأمر له علاقة بالجن، فأنا أخاف أن أُعرَض على شيخ فيقرأ عليَّ فأُصرَع ويُغمى عليَّ، أنا خائف جداً جداً ولا أعرف ماذا أفعل.
أنجدوني
جزاكم الله خيراً.
4/11/2020
رد المستشار
الابن العزيز، أهلاً وسهلاً بك على صفحتنا استشارات مجانين... إفادتك بالفعل تستحق الشكرَ لأنها تفتح أبواباً لإعمال العقل في معاناة موسوس تعلق أعراضه بالشؤون الدينية.
في البداية حددت لنا مدة إصابتك بالوسواس القهري بسنتين ولم توضح لنا من شخَّصه، وكيف تعاملت معه، ثم أشرت إلى أنه تلا معاناة عمرها سبع سنوات كنت تعاني فيها من الخوف من الحسد بعد أن كان يعالجك أحد الشيوخ من العين التي أصابتك، ولا معلومات لدينا عن كل تفاصيل ذلك فقد كنت طفلاً ولا ندري أي أفكار ما أنزل الله بها من سلطان زُرَعت برأسك أثناء ذلك.
أغلب الظن عندي هنا أنك إما كنت طفلاً كثير القلق والخوف أو موسوساً ربما، أو كذلك كان أحد من تعيش معهم، وكل هذا تخمين أعتذر عن أي خطأ يحدثُ فيه، المهم أنك تعلمت إدخال عالم الغيب في عالم الشهادة، وتربيت في أسرة لم تتعلم الفصل، وهكذا تعلمت أن أحد علامات أنك ملبوس هي أن تصرع حين تسمع القرآن!
وكي لا أبتعد بك عن معاناتك المباشرة فإنني أولاً سأقول لك أن الجن حق والسحر حق والحسد حق، ولكنه كله غيبٌ نؤمن به ولكننا لا نحكمه في عالمنا المشهود، ولا نتصرفُ على أساسه برغم قبولنا لتفسيره الغيبي، لكننا يجبُ أن نسلك مسالك عالم الشهادة، ومسالك عالم الشهادة يا بني في مرضك هذا هي أن تجد من يعينك على العلاج النفسي (طبيباً نفسانياً ومختصاً بالعلاج السلوكي المعرفي)، ولا تسألني أين لأنني مجرد أحد المحاولين استعادته، لأن أمثالك تعامل معهم الأقدمون بالفعل وعالجوهم فإن فشلوا اعتبروهم ذاهبي العقل، وواقع الأمر أن أكبر أسباب معاناتك هو أنك قوي العقل لا فاقده، لكنك فاقدٌ للاطمئنان، وما أجمل اطمئناناً يُبْلَغُ بالإيمان، ويحمل النفس على المواجهة لا الهروب طمعاً في جزاء الله الكريم على معاناة عبده في عبادته.
إذن أنا أقول لك لا تتجنب سماع القرآن، ولا تتجنب صلاة الجماعة في المسجد، أو بمعنى أدق لا تتخذ قراراً كهذا _عافاك الله_ ولا تقبل به ولا تسْتَمْرِئَهْ، ولكن تخير بين أن تأخذ نفسك بالتدريج أو بالشدة بشرط أن تواصل، ولنضع الكلام في خطوات تفهم معي ما يلي:
1_ كل الأعراض التي تحدثتَ عنها في إفادتك هي أعراض قلقية تتمحور أحياناً حول الأفكار، وأحيانا حول التغيرات الجسدية_الطبيعية المصاحبة للقلق، والمشابهة لأعراض الخوف من تعرق وخفقانٍ وربما بيَغٍ (احمرار الوجه) وشعور بالسخونة وربما بالغثيان، كما أنها أعراض قلقية تتلون أحياناً بلون الوساوس، وأحيانًا بلون قلق الرهاب الاجتماعي، وأحياناً بلون القلق التوجسي، كما توضح لنا بجلاء كيفية تقلب المريض العصابي بين حبائل أعراض الوسواس القهري، فقد تقلَّبت فعلاً في رحلة العذاب مع الوسواس القهري.
2_ كانت الطامة الكبرى (الزائلة آثارها قريباً بإذن الله) هي ما حدث لك في المسجد في صلاة الفجر وهو نوبة هلعية تسارعت فيها دقات قلبك وتسارعت الحوادث فكما تقول: "وبينما كان يقرأ الإمام بدأ قلبي يدق بسرعة عجيبة، وعدد مرات تنفسي ازداد بشكل غريب، وأحس أنني أريد أن أصرخ وكأن شيئاً يريد أن يخرج من جسمي حتى أنني قطعت الصلاة وخرجت بسرعة من المسجد" وهنا كان الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه حيث أنك بدأت السقوط في فخ الرهابات والقلق التوجسي وأصبحت تربط بين النوبة وبين سماع القرآن الكريم، وبالتالي صلاة الجماعة خاصةً الركعات الجهرية، وكما تقول: "ومن يومها أصبحت لا أستمع للقرآن إلا قليلاً، وأول ما أحس بشيء في جسمي أتوقف عن الاستماع مباشرة، وأصبحت أتعمد أن أؤخر الصلاة حتى ينتهي الجزء الجهري منها فأصلي ما فاتني من الركعات بسرعة وأخرج من المسجد" وهذا هو "الاجتناب القهري Obsessive Phobic Avoidance" فما رأيك بطبيب نفساني يقول لك لا تفعل ذلك أو على الأقل جاهد ميلك إليه، وبالتدريج ستنتصر.
إذن عليك بأن تكثر أولاً من سماع القرآن وأنت في بيتك وسط أهلك، وجاهد ما استطعت ضغوطهم عليك للخلط بين عالم الغيب والشهادة، وواصل الاستماع وتحمل القلق والأعراض الجسدية التي قد تكونُ مؤلمة ومزعجة ولكنها ستنقص بالتدريج بشرط ألا تهرب وأن تبدأ باليسير الدائم ثم تقوم بزيادته تدريجيا.
ثم ألا تقرأ القرآن وأنت تصلي؟؟؟ حاول إذن أن تجعل صلاتك المطمئن، ولا تقل لي كيف، فعندك حديث سيد الخلق _عليه أفضل الصلاة والسلام_ عن أبي هريرة _رضيَ الله عنهُ قالَ_: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكِّبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" صدقَ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ رواه البخاري ومسلم وابن ماجة.
قد يكونُ ذلك مطلوباً من المسلم الصحيح، وقد يكونُ من العسير عليك في حالتك المرضية هذه أن تفعل كل ذلك وحدك، وهنا يجئ دور فريق المعالجة النفسية الذي يفترضُ أن يضم طبيباً نفسياً يكتب لك العقاقير المناسبة، وربما يشاركك في وضع خطط المواجهة التدريجية أو التعرض التدريجي، ومعالجاً نفسياً سلوكياً معرفياً يقوم ربما بمعاونتك معاونة مباشرة في التطبيق العملي.
رحلة مرهقة هي إذن لكنها إذا أكملتها فزت بالحياة القوية الطبيعية السليمة اجتماعياً (وتلك حياة المسلم المطلوبة)، لكنك مع المثابرة على ما سبق وضرورة التقدم ولو ببطء نحو الهدف المنشود والذي يختصره الكلام البليغ للإمام علي رضي الله عنه وأرضاه: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توَقِّيه أعظم من الوقوع فيه"، أي أن تواجه حتى تصل إلى الصلاة المطمئنة في الجماعة، اجعل هذا هدفك إذن، وفاتح أهلك في ضرورة العلاج، وابدأ فيه.
وأما سؤالك عن هل هذا جن فلا مجال له هنا لأننا لا نملك دراسات قام بها مسلمون وكرروها وأثبتوها حتى اكتسبت الصفة العلمية، وأحيلك دون أن أقع في فخ التكرار الذي لا داعي له إلى الروابط التالية لتقرأ ما فيها:
السحر وكيفية كشفه؟
نفس اجتماعي: سحر وحسد وتلبس، جهل نفسي
قيمة العقل في الإسلام! ماذا جرى؟
البركة أم اللعنة؟! الدين ومجتمع المعرفة
لماذا يفشل العرب في تأسيس مجتمع المعرفة؟
الممسوس والملبوس: نحن والجن والأمراض
أما تخوفك الأخير من أن يقرأ شيخ عليك القرآن فتصرع، فجائز الحدوث ولكن ليس لأن بك مساً أو لبساً من الجن، وإنما لأنك مستعدٌ نفسياً لذلك، مع أنه ليس لدينا دليل شرعي واحد لا يقبل الجدل على أن من يصرع عند قراءة القرآن ملبوس، فأنا لا أرفض ذلك التفسير ولكنني لا أعتبره حقيقة يحق لي أن أتصرف حسبما تمليه، ولو كان لكنت أول طالبي تعلم ذلك وتفهُّمه، إذن سر في طريق عالم الشهادة، وتابعنا بالتطورات.