بسم الله الرحمن الرحيم
مشكلتي معقدة ومتشعبة، أسأل الله أن يهديني إلى حلها عن طريقكم، أنا امرأة عربية من عائلة ملتزمة، خطبني رجل أوروبي جاء إلى بلادي لدراسة الشريعة، وقد وافقنا بعد تردد نظرا لما عرف عنه بالتدين وجديته في طلب العلم، وخاصة أن أحد شيوخه (وهو من أشهر الشيوخ في بلدي) كان هو الوسيط لهذا الزواج، وقد زكاه لنا بل ودعم زواجه، وبالرغم من تخوفي أنا وعائلتي من قضية الغربة والعيش في بلاده بعد تخرجه، ولكن وافقنا لما يتمتع به من خلق ودين في ذلك الوقت، فتزوجت به، وكان يدرس وعنده راتب متوسط، وأنا أعمل حيث أنني جامعية وأدعم راتبه براتبي.
وأقول إنني كنت سعيدة فهو لطيف المعاشرة، وكلانا كان حريصًا على إنجاح هذا الزواج بدون أن نكلف أنفسنا ما لا نطيق، في أثناء فترة طلبه للعلم كانت تمر به حالات من الاكتئاب، وسببه هو شعوره بالمسئولية نحو هذا العلم ونحو الدعوة، خاصة أن شيخه كان دائما يحثه على أن يكرس حياته كاملة للدعوة في بلده، فكان يشعر بحالة من الإحباط، وأحيانا يفكر أن يتوقف عن طلب العلم، ويعود إلى بلده ويعيش حياة مسلم عادي، فكنت أنصحه أن يصبر ويواصل ولا يفكر في قضية ماذا سيفعل بعد التخرج؟ وهل هو مستعد أن يعمل لأجل الدعوة أم لا؟ وأن هذا من الشيطان فعندما يكمل الدراسة يفكر في هذه الأمور.
وأكمل سنوات دراسته الأربع، وأنجبنا طفلين، وكنا نعيش في سعادة وببركة طلب العلم، وبعد السنة الرابعة اضطر لأن يعمل لأنني عجزت لفترة عن العمل؛ فكان يشتغل ويحضر دروسه ما استطاع إلى ذلك، ورويدا رويدا كان العمل يأخذ أكثر وقته حتى اضطر أن يتوقف عن حضور الدروس، وقد عرض عليه شيخه أن يواصل الدراسة، ويدعمه هو ماديا ولكنه رفض بحجة أنه لا يريد أن يعيش على تبرعات الخيرين، بل أنا عرضت عليه أن نعيش حياة متواضعة إلى أن يكمل السنتين الباقيتين عليه، ولكنه أصر أن يواصل العمل مع عدم الانقطاع الكامل عن دروسه.
المشكلة أن مكان العمل فيه فتنة، ونظرا لانشغاله بالعمل بدأ يتغير في تدينه؛ فصلاته في المسجد أصبحت شبه نادرة، وقراءته للقرآن نقصت، وشيئا فشيئا أصبح يتهاون في النوافل، ويشاهد التلفاز الغث منه والسمين؛ فكنت أرى أنه ينتكس ولكن ما حاولت أن أضغط عليه؛ لأنني أعلم أنه منذ أسلم وهو يعيش في جو منغلق بين كتبه وعلى سجادته، ولا بد أنه يوما ما سيخرج إلى العالم الخارجي فلذلك كنت أقول هو الآن يبحث عن التوازن في حياته، وليكن هذا البحث هنا في بلد مسلم خير من أن يكون في بلاده الأوربية طبعا مع النصح له بالحسنى.
وبعد فترة صدمني بخبر أنه يحب إحدى زميلاته في العمل، وهي امرأة مسلمة من نفس بلدي، ولكنها درست في مدارس أجنبية فهي منفتحة ولديها نفس خلفيته الثقافية، ولأن الشرع يحل له الزواج بأربع فهو يريد الزواج منها (بالرغم من عدم القدرة المادية وبالرغم من أن هذا الأمر سيشوه وجه الإسلام في نظر عائلته التي لم تسلم بعد؛ فرفضت هذا الأمر)، بل والمرأة الأخرى رفضت الزواج منه؛ فهي كما تدعي ليست في ثقافة أسرتها تعدد الزوجات، وفي نفس الوقت لا تريد منه أن يدمر أسرته؛ فضميرها يؤنبها على ما سببته لي من ألم، ومع ذلك تتواصل معه وتتحدث معه!.
المشكلة الآن أن زوجي يقول لي إنه تغير، وهو ليس بذاك الالتزام، ولا يريد أن يظلمني، فهو لا يشعر أنه سيعطيني حياة ملتزمة متدينة كما أريد فيفكر أن ننفصل ويتزوج بالأخرى، وأحيانا يقول لي إنه لن يتركني وإن خيار الانفصال لن يكون إلا مني أنا؛ والآن أنا محتارة في كيفية خروجي من هذه الأزمة.. هل أستطيع أن أؤثر عليه؟ وكيف؟ فهو لم يتخذ قراره بعد.
سامحوني على الإطالة
وجزاكم الله خيرا.
31/12/2021
رد المستشار
الأخت الكريمة
يبدو أنني سأتفرغ فترة للتأمل والبحث في مسألة العزلة وآثارها، ويبدو أن لدينا أنواعا من العزلة تترافق مع أنواع من التعصب، والعلاقة بينهما وثيقة في النظرية والممارسة، في حياتنا المعاصرة تشيع أساطير وتقاليد يتحتم علينا تحطيمها لو كنا نصر على أن يكون لنا وجود أو تكون لنا نهضة، والله أعلم.
أسلم زوجك وهو متفرغ لطلب العلم وما ينبغي للمسلم عامة ولطالب العلم خاصة أن ينعزل أو أن ينغلق بين كتبه وعلى سجادته، ومن هذه العزلة ومن ذلك الانغلاق ينبت ما ترينه وتسمعين عنه من تخبط باسم الدين على المستويات الفردية والجماعية والعالمية. لن أستفيض في شرح وتفصيل ما تعرفينه من علاقة الدين بالدنيا في الإسلام بحيث لا يكتمل لعالم بالشرع فقه ولا دراية حتى يعلم بأحوال الناس؛ لأن الفتاوى تتغير وكل شيء تقريبا يتغير عدا المقاصد الكبرى والأصول العامة مع تغير الزمان والمكان والبشر.
خطأ قاتل إذن وقع فيه زوجك باندفاع الإيمان المتحمس، قاتل جدا ولكنه شائع للأسف ولك أن تتصوري تبعات من يفرض على نفسه العزلة في مجتمع محدود أصلا، وتعرفين أن بلدك شديد المحافظة باسم الدين، أو باسم التقاليد، المهم أن هذا المناخ يجعل من الانفتاح كارثة لأن المناخ العام ليس متوازنا أصلا، وندخل تبعا لذلك في متواليات بائسة تعيشينها أنت وغيرك وندفع ثمن الأخطاء المزمنة في تركيب مجتمعاتنا، والذهنية الحاكمة فيها، وأنماط السلوك والممارسة والتفكير المعوج ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فها هو زوجك يخرج من القمم الذي وضع نفسه فيه باسم الالتزام وطلب العلم ومن المتوقع أنه مع أول لفحة هواء ينكسر ويصاب بنزلة برد، وزميلته تتصرف بما هو عادي على خلفية نشأتها دون مراعاة للمناخ المحيط الذي هو محافظ جدا، ولا يعترف ولا يقبل بأي مستوى من العلاقة والتواصل أو التعاون أو الزمالة بين رجل وامرأة، ولكنه في واقعه يمارس كل هذه الأشكال ولكن خارج سياق الضبط الاجتماعي؛ الذى هو مشروط بالاعتراف بالممارسة نظريا من الأصل؛ فلو أن مجتمعا لا يبيح شرب الخمر فكيف تطلبين منه ضبط سلوك السكارى لتخفيف الضرر الناشئ عن حركتهم، ومن مجتمع يقول إنه لا يعترف بالاختلاط، كيف تطلبين منه أن ينضبط فيه؟ وهو يقول أنه يرفضه وإن كان يمارسه هنا وهناك ولكن دون ضوابط طبعا!
إذن زوجك خرج من القمقم إلى قمة الفوضى، من نظام فقير في مفرداته وخبراته إلى بحر متلاطم في أمواجه ورياحه، والطين يزداد بلة مع خلفيته الثقافية والدينية قبل إسلامه؛ بحيث ستختلط عليه الأمور بين أكثر من مرجعية دينية وإنسانية، زوجك في محنة عميقة وحقيقية يا أختي الكريمة، ومسألة زميلته أو زواجه منها هي مجرد علامة ظاهرة لهذه المحنة الأعمق، وهو يحاول البحث عن نظام مرجعي يتوافق مع اكتشافه للعالم وحاجاته المستجدة، مع تمسكه بالمبادئ والشريعة التي يحاول الالتزام بها.
زوجك يترنح، والمشكلة أنه لا نظامه القديم عاد صالحا له، ولا النظام العام السائد في مجتمعك يراه صالحاً له أيضاً، وأخدعك أو أكذب عليك إذا قلت لك إن عندي حلا كاملا، أو تصورا شاملا أقدمه لك الآن؛ لأن إدراكي للموضوع هو بهذا الحجم والعمق والتركيب، وأرجو أن أكون مخطئاً، ويكون الأمر سهلاً وميسرا، ليس عندي حل فوري أو عاجل لمشكلات مجتمعك المزمنة، وهي مسؤولة عن قدر كبير من معاناة زوجك ومعاناتك معه، ولكن تعالي نفكر بشكل جزئي:
- ما الذي يجده زوجك عند هذه الزميلة، ولا يجده عندك؟! إذا كنت سألت نفسك هذا السؤال، فماذا كان الجواب؟!
- ما هي بقية أعراض التغيير الذي طرأ على زوجك غير ما ذكرت؟! وبمعنى آخر ما الذي ما زال متمسكاً به، وما الذي يتهاون فيه أكثر؟!
- ما هي "الحياة الملتزمة" في تصوره حين يقول إنه لا يستطيع إعطاءها لك، وما هو تصورك أنت لمثل هذه الحياة؟!
- ما هي الاعتراضات والانتقادات التي توجهينها إليه حاليًّا، وكيف تعبرين عن هذا التذمر والاعتراض؟!
- هل تحدثت مع زميلته لتعرفي منها بعض أجزاء الصورة من زاوية نظرها بحيث تظهر أمامك أشياء لا ترينها.
- هل تحدثت مع أحد آخر يعرفه أو تستشيرينه؟! وماذا قال لك؟!
في كل الأحوال لا تطلبي الانفصال، ولا تكثري من النقد أو اللوم فهو عقيم، تحلي بالحكمة وفكري جيداً قبل أن تتكلمي أو تتصرفي، واستمعي جيداً لكلامه فتعرفي ما بداخله، وتواصلي مع زميلته، ثم عودي إلينا بالرد على ما سألتك عنه، والله معنا ومعك.
ويتبع>>>>>: بين القمقم والفوضى: هي وزوجها والزميلة! م