![]() |
أحيانا لا تكفي الكلمات، وتصبح المسافة بين القول والفعل هوّة سحيقة لا يملأها إلا أجساد تتحرك في قارب يخترق الصمت، وأيادٍ تلمس ماء البحر لتقول: «نحن هنا».. هذا بالضبط ما يمثله الأسطول المتجه إلى غزة، فهو ليس مجرد سفن تحمل المساعدات، بل صرخة ضمير جمعي استيقظ من سبات طويل!
نحن جيل وُلد والقضية الفلسطينية في دمه، رضعناها مع حليب أمهاتنا، وحفظناها مع أناشيد المدرسة، فكبرنا ونحن نرسم خريطة فلسطين من النهر إلى البحر، ونحفظ أسماء المدن المحتلة كأنها أسماء أحبائنا، لم نكن يوما من المتخلين عن القضية، لكن السنوات الطويلة من المعاناة والحصار والموت اليومي، مع عجزنا الجماعي عن تغيير الواقع، بدأت تفعل فعلها في نفوسنا المنهكة!
مع مرور الوقت، ومع كل مجزرة جديدة تمر دون رد فعل حقيقي، بدأنا نصدق أن «السلام» ربما يكون الحل الوحيد المتبقي، ليس حبا في السلام مع من يقتل أطفالنا، بل يأسا من إمكانية تغيير المعادلة، فحدثنا أنفسنا بأننا لربما لو قبلنا بالقليل سيتوقف القتل، ولعلنا لو تنازلنا عن بعض الأحلام سينام الأطفال دون خوف من القصف، نعم، كان هذا وهمنا الكبير، أن نصدق أن من يحتل الأرض ويحاصر الشعب يمكن أن يكون شريكا في سلام حقيقي، لكن الواقع كان أقسى من كل أوهامنا، فكلما تنازلنا، ازداد الطرف الآخر تعنتا، وكلما مددنا يدا للسلام، قُطعت أصابعنا! أكتب والحصار على غزة يشتد، والاستيطان يلتهم ما تبقى من أرض، والأطفال ما زالوا يموتون، لكن هذه المرة بصمت العالم وموافقته الحقيرة رغم النقل الحي والمباشر للمذابح هناك بفعل الثورة التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، هنا أدركنا الحقيقة المرة وهي أننا لم نكن نبحث عن السلام، بل كنا نهرب من مسؤوليتنا، ونبحث عن مخرج يريح ضمائرنا المتعبة!
عندما قرأت أسماء المتطوعين في أسطول الحرية، شعرت بسعادة مشوبة بالغبطة والخجل، فهؤلاء الناس، ومنهم زميلي أستاذ الجراحة في جامعة الكويت الدكتور محمد جمال، لم يستسلموا لليأس الذي أصابنا جميعا، فقرروا أن يحولوا غضبهم إلى فعل، وألمهم إلى حركة، ولم يكتفوا بالبكاء على الأطلال أو التنظير من بعيد، بل وضعوا أجسادهم في مواجهة الظلم، فذكّرونا أن هناك دائما شيئا يمكن فعله، حتى لو بدا صغيرا أمام حجم المأساة!
هذا الأسطول يحمل أكثر من المساعدات الإنسانية، فهو يحمل رسالة لنا جميعا مفادها أن اليأس ليس خيارا، وأن القبول بالظلم ليس واقعية، وأن الصمت على الحصار ليس حكمة، ويذكرنا أن القضية ليست صراعا دينيا أو عرقيا كما يحاول البعض تصويره، بل قضية حق وعدل، قضية شعب يريد أن يعيش بكرامة على أرضه.
المراجعة المطلوبة اليوم ليست مع الذات فقط، بل مع جيل كامل بدأ يفقد البوصلة، إذ كيف انتقلنا من جيل يحلم بالتحرير إلى جيل يكتفي بالبقاء؟ وكيف تحولنا من رافضين للظلم إلى متعايشين معه؟ وكيف سمحنا لأنفسنا أن نصدق أن من لا يعترف بحقنا في الوجود يمكن أن يكون شريكا في السلام؟
لا أكتب هذا من موقع الواعظ أو المعلم، فأنا جزء من هذا الجيل الذي أصابه الإرهاق، لكن رؤية هذا الأسطول أيقظت فيّ، وربما في كثيرين غيري، شيئا كدنا ننساه، أن التضامن ليس مجرد كلمات، وأن النضال ليس حكرا على الفلسطينيين وحدهم، وأن كسر الحصار مسؤولية كل من يدعي الإيمان بالعدالة. ربما لن تحرر هذه السفن غزة من حصارها، لكنها بالتأكيد كسرت حصارا آخر في نفوسنا، حصار اليأس والاستسلام، وأيقظتنا من وهم أن السلام يمكن أن يُبنى مع من لا يؤمن به، وذكرتنا أن الفعل، مهما بدا صغيرا، أشرف من أجمل الكلمات غير المقرونة بالمبادرة، والسؤال الآن: هل سنكتفي بالمشاهدة من بعيد، أم سنجد طريقتنا الخاصة لنقول:
نحن أيضا هنا، لم ننس، ولن نستسلم؟
واقرأ أيضًا:
إيثار الفقراء.. دروس على قارعة الرصيف! / ترف الحيرة!
