السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبعث لكم هذه الرسالة والأمل يختلج قلبي في العلاج وعلى الله الشفاء من هذا المرض الذي أرق مضجعي، وهز كياني، ووتر أعصاب، وجمد أفعالي، أما المرض –عافاكم الله– فهو مرض الوسواس القهري كما وصفه الأطباء النفسيون، وهو يوسوس لي في القرآن الكريم بالذات؛ فإنني ألتمس الدليل أو المعجزة القاهرة البينة التي تؤكد لي أن القرآن هو كلام الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
أود إعلامكم أنني أصوم وأصلي ولا أقصر في فرض، ولكن المشكلة الحقيقية ليست في الفروض والتكاليف، ولكنها متمثلة في الخوف من النار، فهذه النار التي أعدها الله للكافرين لا يمكن أن يتصور العقل عذابها ووبالها –أجارنا الله منها– فأقول لنفسي إن هذا العذاب فيه ظلم، وليس هناك من تخيل بأن ذنبا حتى لو كان الكفر يمكن أن يوصلك إلى هذا العذاب الوبيل المستطير الشر الأبدي، أليس الله هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ضعفه عن أقل الأمور إيلاما.. فكيف بنار وقودها الناس والحجارة، وفي الحديث أن سن الكافر يكون مثل جبل أحد، ثم أليس الله بغني عن الناس وعن أفعالهم ولا تضره معصيتهم وفسادهم في الأرض!!
هذه الأمور والأفكار يا سيدي تقودني إلى أحد أمرين.. أما اتهام الله بالظلم مع الخوف منه تعالى، أو التفكير في أمور بديلة وهي الشك في القرآن، وهذه أصعب مشكلة عندي، وهي التي تجعلني أفكر كثيرا في النار، وإنني قد أكون أحد أفرادها بسبب هذا الشك.
علمت أن القرآن هو كلام الله قطعا، وذلك بالأدلة العقلية، والمعجزات التي تقع بالألوف، والتي حصلت في زمن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنها هذا الكتاب الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بأصغر سورة منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ومهما بلغت فصاحتهم، واتسعت حضارتهم، وسمت عقولهم فهم عاجزون قاصرون، وهذا قرأناه في كتب التفسير أمثال ابن كثير وغيره من العلماء.
ستسألونني إن كنت ذهبت إلى أطباء نفسيين، وأقول إنى ذهبت بالفعل، ولكن كيف كان تعاملهم مع المشكلة؟ أقول لكم بصراحة واختصار إن أحدهم أعطاني دواء (حبوب) ثم أخذتها ولم أستفد منها شيئا، ولم أراجعه ثانية، والطبيب الآخر فعل نفس الشيء، وكلما راجعته قال لي: إن الدواء لم يأخذ مفعوله بعد، ثم يئست منه ولم أرجع إليه، إذن كما أعتقد أن سبب فشل هؤلاء في علاجي أنهم استخدموا الدواء فقط، وأنا أقول إن هذه المشكلة نفسية لها جواب عقلي.
ستقولون لي أعزائي إن هذه النار لم تعد للمؤمنين، ولا للمسلمين، ولا حتى للخائفين من الله، وأقول لك نعم ولكني أريد على الأقل أن تقنعوني أنني من أصحاب الجنة، وأن الله سوف يجعلني من الفائزين المقبولين لكنني أعزائي الكرام لا أطمئن لحظة واحدة لهذه الأسباب، ودائما أفكر في الموت والنار، كأنني أود أن يكون هناك جنة وليس هناك نار إطلاقا لا للكافر ولا للمسلم العاصي حتى يضمن الواحد منا مصيره ولا يفكر إلا في مستقبله وحياته اليومية ويكون مرتاحا، إن هناك جنة فقط فإن دخلها الإنسان فلا عذاب هناك.
أود إعلامكم أنني كنت في المرتبة الأولى في المدرسة، وأنني درست في الجامعة لمدة أربع سنوات وفي خلال هذه الفترة كنت مصابا بهذا الوسواس الذي عكر علي صفو الحياة الجامعية، مما أدى بي في نهاية المطاف إلى ترك الجامعة بسبب أنني أصبحت غير قادر على المذاكرة، نتيجة لهذا التفكير القاتل الذي يوشك أن يذهب عقلي، وأصبح إنسانا مجنونا.
أنا الآن أعيش حياة مليئة بالخوف والقهر والنكد والهم، أقضي أغلب وقتي منعزلا في البيت عن الناس، وأشعر بالخجل الشديد عند حضور مجالس الناس، وأود في بعض الأحيان ألا يراني أحد. بعض الناس علم بحالتي وقال ذلك سحر، وما هو بسحر، فلا أومن بذلك. أقول لكم إنني دائم القراءة للقرآن وتفسيره، لكنني مشوش الفكر دائم الطموح إلى أنني أود الوصول لدرجة مائة بالمائة في الإيمان وألا يوجد لدي شك لأنني أعتقد أن الشك كفر.
أود أيضا إعلامكم أن النوم عندي ليس سهلا، وأن الأحلام عندي مزعجة، وكذلك عندما لا أتعب لا أنام وأضطرب في أثناء النوم وتزعجني هذه الأفكار كثيرا. عندما أتذكر الموت والنار يسودُّ وجهي، وتتوتر أعصابي، وينزعج فكري، ستقولون لي إن هذا القرآن من الله فهل لي أن آتيك بقرآن غيره كي تقنع؟ ليس الأمر كذلك وإنما ما أريده هو دليل أفهمه، ويشهد به كل ذو لبس أن هذا القرآن هو كلام الله وليس من بشر يريد أن يفتري على الله تعالى، ستقولون لي إنه من المعجزات فأقول نعم ولكن لماذا هذا الوسواس؟ ستقولون الشيطان ولكن لماذا الخوف والاضطراب والوهن عندما أقرأ عن النار أو أرى النار في الدنيا؟
وفي الختام أعتذر عن الإطالة، ولكنني فضلت كتابة جميع التفاصيل حتى تتمكنوا من التشخيص لحالتي،
والسلام عليكم ورمة الله وبركاته.
9/1/2022
رد المستشار
الابن العزيز أهلا وسهلا بك على موقعنا مجانين، من المؤكد أنك قرأت ردودنا السابقة على هذه الصفحة والتي تعلقت باضطراب الوسواس القهري وهي كثير، ومن بينها عددٌ لا يستهان به من أصحاب حالات كحالتك حيث تتعلق الأفكار التسلطية بالتشكيك في العقيدة ومحاولة الوصول إلى اليقين العقلي والذي لا يصله موسوس مع الأسف دون علاج!
من الجميل أنك تؤدي فروضك كلها رغم استمرار معاناتك وهذا يجعلني أكثر استبشارا بقدرتك إن شاء الله على تجاوز ما أنت فيه من ابتلاء، ذلك أن يستسلم من الموسوسين لأفكاره الإلحادية فيقطع فروضه انتظارا لليقين إنما تزيد وساوسه أفكارًا تسلطية وأفعالا قهرية.
أنت تبحث عن إيمان كامل خالص وهو ما أشم فيه رائحة الوسوسة بالكمالية وهي أي الكمالية ليست من صفات البشر، فصحيح أن الإحسان والإتقان مطلوبان في أعمالنا وفي نياتنا ولكن ذلك المطلب مطلوب من المخلوق باعتباره ناقصا لا جدال، فإذا أنت أصررت على بلوغ الكمال سقطت في شراك الوسوسة الدائمة بالنقص، وقد فصلت في هذا الأمر في أكثر من إجابة أرشح لك منها: "للساقطة واللاقطة: قاعد على الواحدة" فهذا مثال على الوسوسة بالكمالية أحسب قراءة ردنا عليه مفيدة لك.
السحر والحسد أمران غيبيان يحملان مقدرة تفسيرية عالية في ثقافتنا كمسلمين لكن إرجاعنا أيا من الأمراض أو الأعراض له لا يعني أن نتصرف في التعامل معهما بغير ما ينبغي في عالم الشهادة، يعني العلاج عند الطبيب النفساني.
أن يأتيك الوسواس وأنت تقرأ القرآن يعالج سلوكيا بأن تكثر من قراءة القرآن ومعرفيا بأن تتعلم كيف تتعامل مع الفكرة التسلطية أو الحدث العقلي التسلطي ، بإهمال حدوثه أو اقتحامه لوعيك، كذلك أن تعلم أنك غير مسئول عن اقتحامه لوعيك، وإنما تصبح مسئولا في حالتين:
الأولى أن تعجب بوسوستك أي أن تأخذك نشوة إظهار أفكارك وتساؤلاتك التي لا يشاركك فيها أحد -كما تظن- والثانية أن تقعد عن الجهاد والصبر في طلب العلاج من أهله مستسلما للتفكير الاجتراري أو الاجترار الوسواسي Obsessive Ruminations، فأما إعجاب المرء بوسوسته فيذكرنا بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7)، عافاك الله وجنبك أن تكونَ من هؤلاء.
وأما كيف تصبر وتجاهد فمعناه أن تعلم أن علاج الأفكار الاجترارية من نوع أفكارك خاصة وعلاج الوسواس القهري عامة يحتاج إلى مزيج من عقَّاقير الم.ا.س أو الم.ا.س.ا مع علاج سلوكي معرفي والصبر مطلوب لكليهما فأما عقاقير الم.ا.س.ا فنحتاج إلى 12 أسبوعا من الاستمرار على جرعة منها لنحدد بعد مرور الـ12 أسبوع أو الثلاثة أشهر مدى التحسن على تلك الجرعة ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى حسب نتيجة المرحلة الأولى، وقد فصلنا ذلك في ردود سابقة على هذه الصفحة تحت عنوان:
الصبر على الماس يمحو الوسواس
شهرٌ على الماس.. لا يمحو الوسواس
بعد سنة على الم.ا.س.ا هل أوقف العلاج؟
وأما الصبر على العلاج السلوكي المعرفي فمعناه أن تواظب على حضور جلسات العلاج وأن تقوم بأداء ما تتفق على أدائه مع معالجك من واجبات سلوكية بين الجلسات، فإذا التزمت بذلك فإن الله سبحانه سينعم عليك بالشفاء ولا تنسنا من دعائك.