أمي منتهى الجفاء !
أنا فتاة في العقد الثاني من العمر، لا أعرف ماذا أقول، ولكنني سأبدأ هكذا.. أمي غير متوفاة، أمي دائما معنا في المنزل، أمي تطبخ وتغسل، أمي.... هذا كل شيء عنها، باختصار أنا لا أشعر أن لها وجودا في حياتي.. للأسف.
مع أنني أسمع من كثير من صديقاتي -حتى من أقاربي- كيف أن علاقتهن بأمهاتهن تصبح رائعة في مثل هذه السنّ.. حتى إنني أرى كيف يمزحن مع أمهاتهن، ويضحكن معهن، وكيف أنهنّ متعلقات بهن كثيرا! ... باختصار أيضا هنّ يحببن أمهاتهن، أما أنا فلا.
ربما أحترمها.. ولكنني لا أحبها.. لا أريد أن أظلم أمي، لكنني لا أشعر بعاطفة تجاهها.. كأنها شخص غريب عنّي، لماذا؟؟ بدأ كل شيء في الطفولة، لا أذكر أنها قبلتني يوما، ولا حتى حضنتني، نعم.. كانت كثيرة الصراخ، وعصبية المزاج، ولا تزال.. وربما ستبقى.. لم تأت يوما إلى المدرسة لتسأل عن نتائجي أو تطور شخصيتي.. لم تهتم يوما حتى بمظهري، لا أذكر شيئا جميلا معها، ولا ذكرى.. حتى في ألبوم الصور لم أر شيئا، وكأنها لم تكن جزءا من حياتي أبدا.
هذا كله ولّد عندي شعورا بالنقص، وأنني بحاجة إلى شيء، شيء ما.. فبدأت أبحث عنه وأبحث ولا أجده، وإذا وجدته أعرف أنني لن أستطيع الحصول عليه كما أريد، مثلما تمنيته أن يكون.
بدأت أبحث عن "البديلة لأمي" .. في المدرسة، تجلى هذا الأمر بشكل واضح: فعندما كنت في العاشرة من عمري، أحببت معلمة في مدرستي.. أحببتها كثيرا أكثر من أمي (بالتأكيد) رؤيتها كانت تولد عندي شعورا جميلا، ولكنه آني، ينتهي مع اختفائها، فأبقى أفكر فيها، وأفكر. أكره أن أكتب هذا عن نفسي، ولكنني أردت أن تكون بجانبي كل الوقت، باختصار.. توالت السنون، وفي كل سنة كنت أعجب بمعلمة.. لأعوض في نفسي الشعور بالفراغ، وهكذا توالت السنون، وتوالت حلقة المعلمات.. وتعودت على أنه يجب في كل سنة أن يأخذ شخص ما مكانا في قلبي ونفسي حتى لا أشعر بالفراغ.
وتعودت على الأمر لدرجة أنها أصبحت مثل حاجة عندي.. لا أستطيع العيش دونها.. أو بالأحرى تفقد الحياة لذتها دونها.. هذه هي حياتي وقد سئمت.. لا أريد أن أستمر هكذا. والدي حنون وكريم، ويلبِّي لنا كل ما نريد، ولكنه يعمل كثيرا، ومع هذا فهو لاحظ أن طريقة معاملة أمنا لنا خالية من العاطفة.. في مرّة قال لها: "ولا مرة رأيتك تقبلين أولادك؟".
لا عجب بأنني أبحث عن شيء ليأخذني بعيدا عن هذا الجو، جربت عزف الموسيقى، ولكن سرعان ما منعني والدي من الذهاب لحضور الدروس.. فهو لا يريدني أن أنخرط بجو الموسيقى..عندي أصدقاء، الشيء الوحيد الذي يفرحني، فأنا لا أملك أي شيء في البيت.. فطاقاتي كلها متّجهة للخارج؛ ولهذا أنا طيبة مع الكلّ، أتكلم مع الجميع، وأضحك مع الجميع، فبالنسبة لي هذه هي الطريقة الوحيدة للتعويض عن النقص.. الجميع يعتقد أنني سعيدة، هذا ما يرون، يعتقدون أنني سعيدة كل الوقت، ليس عندي هموم، وأن حياتي جميلة.. على الأقل هذا ما يبدو لهن من الخارج. ولكن ماذا لو رأوا داخلي.. هذا الداخل الكئيب؟ فعندما أنفرد في المنزل وحدي أبدأ بالبكاء دون أن يراني أحد، أنام والدموع لا تزال على وجنتي.. في البيت عندي إخوتي كلهم صبيان وعلاقتي جيدة جدا معهم، وعندي أخ صغير أهتم به كثيرا وأحبه كثيرا.
أحيانا ألوم نفسي لأنني لا أتكلم مع أمي عن مشاعري تجاهها ربما تتغير طريقتها معي.. ولكنني أعود وأفكر بأن الوقت قد تأخر، فحتى لو تغيرت أمي وأصبحت عاطفتها جياشة، لن يؤثر هذا معي بل بالعكس سوف أشعر بعدم راحة معها.. كان يجب أن تبدي حبها لي سابقا وليس الآن. أحيانا تقترب مني، فأشعر بعدم راحة، بل أشعر بالضيق فأكتفي بالابتعاد عنها.. أحيانا تشتري لي "الشوكولا" وتعطيني نقودا.. ولكن أنا لا أريد هذا.
وبعد هذا، بماذا أشعر اليوم: حاليا أنا معجبة بمعلمة كالعادة.. هي في الأربعين من عمرها، ولكنني معجبة بشخصيتها.. أتمنى لو كانت أمي.. ولكنني لا أجرؤ على التقرب منها. أريد حلولا من إخصائيين وخبراء مثلكم فيما يتعلق بالطرق لكي أتوقف عن اتباع هواي وعن الإعجاب بالمعلمات.. فأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير بها. ازداد شرودي كثيرا في المرحلة الأخيرة، أريد أن أصلح نفسي..
أتمنى الإجابة فعندي صديقتي عندها نفس مشاكلي تقريبا،
وكلتانا تريد حلا ونحن ننتظر بفارغ الصبر إجابة منكم! ولكم جزيل الشكر.
21/3/2022
رد المستشار
ابنتي العزيزة..
لن أتوقف كثيرا عند السبب الذي جعل أمك تعاملك بهذا الشكل، وكذلك لن أتوقف كثيرا عند ما يجب عليك تجاهها، فهي والدتك على كل حال، ولا ننسى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة عندما جاءه يشكو أن أمه سيئة الخلق، فأوصاه ببرها، فكرر الرجل شكواه عدة مرات، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرر نفس الوصية في كل مرة!.
البر والإحسان قد يكونان أمرين شاقين على نفسك، ولكن عزاءك أن أجرك عند الله محفوظ في الدنيا والآخرة .. بركة الدنيا وسعادة الآخرة.
الأمر الذي أريد التوقف عنده طويلا هو رد فعلك تجاه الحرمان الذي تعانين منه، وهو افتقادك لعاطفة الأم.. رد فعلك فيه جوانب إيجابية تحتاج التأكيد عليها، وجوانب سلبية تحتاج الوقوف أمامها، والسيطرة عليها. ولكن قبل أن أستفيض أريد أن أذكرك بشيء هام.. كل إنسان على سطح الأرض يعاني من حرمان ما، يختلف من إنسان لآخر، منه ما هو ظاهر يراه الناس، ومنه ما هو خفي لا يراه أحد، وفكرة الحياة كلها قائمة على كفاح الإنسان في سبيل رسالته رغم ما يعانيه من حرمان، وكيف يستمد من هذا الحرمان طاقة تدفعه للأمام لا تجره للخلف.
هناك من يجلس بجوار حرمانه يبكي ويصرخ ويلطم ويعلق فشله وتقصيره بل وظلمه على شماعة الحرمان، وهناك من يتعامل مع الأمر بدرجة أعلى من المسؤولية فيضع الضمادات على جراحه، ويتجرع الدواء المر، ويستكمل مسيرته في استقامة وثبات نحو غايته في الحياة.
هناك ردود أفعال إيجابية تحتاج أن تستمري عليها مثل: طيبتك مع الكل، وابتسامتك للجميع، وأنت تحتاجين أن تؤكدي هذا الخط فتتوجهي بطاقتك ومشاعرك نحو العمل الخيري، وتخففي المعاناة عن المحتاجين، ولا يخلو جدول أعمالك من عطف على يتيم أو مساعدة امرأة مُعيلة، أو مؤانسة شخص مُسنّ، أو مدّ يد العون لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وحذار من الاعتقاد الشائع بأن فاقد الشيء لا يعطيه، بمعنى أن من لم يحصل على الحب لا يستطيع تقديمه.. هذا غير صحيح بل على العكس إن الإنسان عندما يُحرم من الحب والحنان ثم يجاهد نفسه، ويحاول أن يمنح الحب للآخرين، فإن الله يُبدل في قلبه سكينة وارتياحا، كما أن الحب ينتقل بالعدوى فيجد المرء حياته ممتلئة بجو من الحب سواء ممن يقدم لهم العطف أو من شركائه في عمله الخيري.
هناك رد فعل إيجابي آخر وهو عزف الموسيقى، وممارسة الهوايات.. لماذا لا تحاولين مع والدك مرة أخرى.. ليست المشكلة في الجو الموسيقي، ولكن المشكلة إن كان هذا الجو ملوثا.. بمعنى أن هناك فرقا كبيرا أن تتعلمي الجيتار في وسط مجموعة من الفتيات على خلق، وبين أن تتعلميه في جو فاسد مختلط يكثر فيه الخروج عن القيم والأخلاق.
على أية حال إن لم تجدي الجو الموسيقي المناسب، فلا مانع أن تفتشي عن نشاط آخر ممتع، وأكرر كلمة "ممتع" لأن وجود المتع الحلال في حياتنا هي من أهم الحصون التي تحافظ علينا ضد الاكتئاب بل والانحراف. ولا بد في كل الأحوال أن تكون لك أحلامك وأهدافك في الحياة، وربما يعينك على ذلك الصحبة الصالحة، والتقرب إلى الله تعالى، والإكثار من الدعاء والمناجاة.
على الجانب الآخر هناك جوانب سلبية في رد فعلك.. مثل: التعلق الزائد بالمعلمات مع الشرود الكثير.
والحقيقة هي أن هذا التعلق إن كان في الحدود الصحية بلا مبالغات، وكانت المعلمة متوازنة وصبورة وقبلت هذا، فلا بأس، ولتكن هذه المعلمة أختا كبرى لك، أما إن أخذ شكلا مرضيا مبالغا فيه فلا بد أن تساعدي نفسك على مقاومته والسيطرة عليه، والانشغال عنه بالأنشطة التي ذكرناها في السطور السابقة.
وهناك نصيحة أخرى قد تفيدك.. ابحثي في محيطك أو أسرتك عن خالة أو عمة أو جارة يمكن أن تقوم بدور الأخت الكبرى، ولن أقول الأم، ولعل وجود هذه الشخصية يخفف من تعلقك الزائد بالمعلمات.
وأخيرا لا تنسي أن والدك يمكن أن يكون له دور في التخفيف من معاناتك.. فلا تترددي في طلب العون منه، وأن تحافظي على علاقتك به وتواصلك معه، فقد يعوض بعضا من غياب الأم.
أدعو الله أن يرزقك السعادة والرضا والهدوء.
واقرئي أيضا:
مشكلتي مع أمي: عقدة فعلا
من أم أسطورة إلى امرأة غريبة : الأم العربية
كيف أتعامل مع أسرتي م
أمي تخنقني هل أكرهها؟
أمي سبب بلائي وشقائي م!