السلام عليكم
أنا شابة أبلغ من العمر 23 عاما، تخرجت السنة الماضية في إحدى كليات القمة، يحبني كل زميلاتي وزملائي، ويثنون عليّ كثيرا، ولكني أرى نفسي عكس ذلك؛ فأنا أرى أني شخصية ضعيفة وهشة قد تبدو متماسكة إلا أنها من الداخل خاوية.
أدخل في صلب الموضوع فأقول: إنه قد تقدّم لي عدد من الشباب وكلهم من ذوي الأخلاق، إلا أن مشكلتي أني أريد زوجا ملتزما، فكل من تقدم لي كان رجلا عاديا من أسرة محافظة مثل أسرتي لا يعلم عن أمور دينه إلا القليل جدا.
وكذلك أنا لا أقول إني ملتزمة ولكني أحاول أن أتعلم وأعمل بما علمت، أحاول أن أغير نفسي للأحسن، ولكني أعتقد أنني لضعف شخصيتي سرعان ما أنتكس، ثم أعود وأستغفر الله وأراجع نفسي ثم أعود فأتعلم وأعمل… وهكذا؛ لذلك أريد زوجا صالحا يقومني إذا اعوججت ويأخذ بيدي وأساعده، فإني أحس أن تأثير المحيطين بي كبير جدا علي؛ لذلك أحاول دائما أن أنتقي أصحابي جيدا، وأن أجد لي مكانا بين الصالحين.
كنت أذهب لدرس في أحد المساجد، وكنت أقابل فتيات أحس بالنور يقطر من وجوههن، وأني بذنوبي كالنقطة السوداء الكبيرة على الورقة الناصعة البياض، ورغم ذلك كنت أحس بسعادة غامرة وأنا معهن، وأحس بأنني قد أخذت شحنة إيمانية تكفيني لأسبوع إلى أن ألتقي بهن في الأسبوع الذي يليه، ولكن "ولم نجد له عزما".. هذه الكلمة تقول ما حدث؛ فلقد انقطعت عن الدرس لسبب.. ما هو؟ لا أعرف غير هذه الجملة. وكذلك إذا كنت بين أصحاب سوء أجد نفسي أنحدر عن مستواي، وعندما أخلو بنفسي أتعجب كيف فعلت هذا؟ وكيف فكرت بهذه الطريقة؟ وأندم على ما فعلته.
أعود للحديث عن الشباب الذين تقدموا لخطبتي، فهم يصلون ويصومون والحمد لله، وعلى خلق، ولكن لا يحرصون مثلا على الصلاة في المسجد، أو حفظ القرآن، أو أن يعفي أحدهم لحيته، أو أن يتعلم أمور دينه... أمي تضغط علي دائما وتقول إنه يكفي أن يكون الشاب يصلي.. ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ وماذا تعني كلمة ملتزم؟ كل شيء يأتي بعد الزواج.. وكل ذلك أشياء مكتسبة، وإنني يمكن أن أغيره، ثم تتحدث أحيانا أخرى بالترهيب؛ فتعطي أمثلة لبعض الملتزمين الذين نكصوا على أعقابهم أو الذين يسيئون معاملة زوجاتهم ويضربونهن أو يتزوجون عليهن مرات عديدة، وتقول لي: هل تقبلي هذا على نفسك؟ ولقد قرأت من مدة طويلة في إحدى الصحف عن فتاة قولها إنها تريد زوجا كعمر بن الخطاب، ولقد كنت أظن أنني وحدي من فكرت في ذلك، ولكن الآن كبرت وتعلمت وعرفت أن هذا مستحيل، فلو كان هناك شخص كعمر رضي الله عنه يعيش بيننا لما كنا على هذا الحال!!
أعرف أنكم تعتقدون الآن أني أريد شخصا خياليا، ولكني لست كذلك؛ فمن بين من تقدموا لي كان هناك شخص واحد فقط ليس متدينا بدرجة كبيرة، ولكنه كان على بداية الطريق، ولكن أهلي رفضوه من قبل أن يروه لأن تعليمه متوسط، في حين أنني وافقت عليه، وقد حاولت أن أراجع أبي في قراره ولكنني لم أستطع حيث انطلقت في البكاء لاستحيائي من أبي، وهكذا انتهى الموضوع. وقد علمت الآن أنه خطب أخرى وعلى وشك الزواج، وأتمنى أن يبارك الله له فيها... وبعد ذلك كان لي زميل في الكلية يكبرني بعامين، وهو متدين وشاب مهذب وذو شخصية قوية جدا، وليس معنى ذلك أنه خال من العيوب، ولكني أرى عيوبه واضحة أمامي ولكن ومن منا بلا عيوب؟!!
لقد بدأ في مراسلتي بالبريد الإلكتروني، وكنا نتحدث في أمور عامة، ونتقي الله في حديثنا، ثم أحسست أني أخون الأمانة لأن أمي لا تعرف فأخبرتها فقالت إنها تثق بي كثيرا. أنا أعلم أنه يحترمني كثيرا ويرتضيني زوجة له، ولو لم يقل لي ذلك من قبل، بل إنه لم يقل لي شيئا يؤذيني أو يجرح كرامتي. ثم حدث أن التقت به أمي عندما سافرت لظروف ثم عادت تقول لي أن أقطع كل علاقة لي به؛ فهو حتى الآن لم يستقر في عمل مناسب، كما أن ظروفه غير مناسبة؛ حيث إنه يعول أمه وإخوته، وأمامه سنوات طويلة حتى يكون مستعدا للزواج، وطالبتني أن أكف عن مراسلته، ولقد وعدتها بألا أكلمه ثانية، وقد بعث لي بعدة رسائل ولم أرد عليه.
والآن أمي تحاول الضغط علي للزواج من أحد المتقدمين لي، بينما أرفض أنا ذلك وبشدة، ولكن أخاف من كثرة إلحاحها عليّ، ثم إنها تعتقد أني كبرت على الاختيار؛ لأن عندي 23 سنة، وتطلب مني أن أوافق على من يتقدم لي، وتقول لي: وكيف أزوجك من متدين؟ هل أقف على باب المسجد وأقول للخارجين منه هل من أحد يتزوج ابنتي؟
لا أعرف ماذا أفعل؟ خاصة أنه كلما تقدم شاب لخطبتي أصلي استخارة فأحس بانقباض قلبي، وأرفض بشدة، وأقاربي يقولون لي إن هذا خوف طبيعي، والمفروض أن تصلي الاستخارة ثم تمضي في الموضوع فإما أن ييسره الله لكي يتزوجك أو يبعده عنك، ولكن كلما تقدم لي شخص وضعت صورة زميلي أمامي فوجدت أنه لا مجال للمقارنة على الإطلاق؛ فأقول لنفسي: فلْأبحث عن أحد مميزاته.. فلا أجد سببا واحدا يجعلني أقبل به، فأنا لا أتصور أنني سأتزوج في يوم مثلا رجلا لا يصلي في المسجد..
فهل ما أطلبه كثير؟ وهل كلام أمي عن التغيير بعد الزواج صحيح؟
وماذا أفعل؟
10/4/2022
رد المستشار
ابنتي الحبيبة، سبحت مع رسالتك لسنوات ماضية، عندما كنا في مثل سنك، وأحلامنا كأحلامك وتصوراتنا للأمور بنفس بساطة منطقك وتفكيرك، كنا مثلك تماما نعلم الكثير عن أنفسنا وندرك مقدار ضعفنا وندرك حجم ذنوبنا، ونشعر أن الدنيا تشدنا إليها مع أن قلوبنا وأرواحنا تهفو إلى السمو وتطمح إلى الارتقاء، وكان الزوج هو الحلم والأمل وطوق النجاة الذي صورته لنا عقولنا، ليعين ويساند ويدفع ويدعم ويرتقي بنا.
ومرت سنوات واكتشفنا وهم هذا الحلم واستحالة تحقيقه؛ لأن الملائكة لا تمشي على الأرض، واكتشفنا في الواقع ما هو أجمل، فكل امرأة وزوجها من بني آدم، و"كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون"، و"الإيمان يزيد وينقص". والتصور الواقعي هو لزوجين يدعم كل منهما الآخر، ويشد عضده ويقيله من عثراته، والأمور سجال، فهذا يشد ويدعم اليوم، والآخر يقدم العون غدا.
فإذا نظرنا للأمور من هذه الوجهة لوجدنا أن هذه العلاقة (علاقة الدعم المتبادل بين الزوجين) تحتاج لزوج المستقبل، وهذا لا يعني أنني أقلل من قيمة الحفاظ على الصلاة في المسجد وحفظ القرآن وغير ذلك من أمور العبادات، ولكنني فقط أريد أن أوضح أن الأمر يتطلب ما هو أكثر من ذلك، بحيث يحرص الزوجان على تطبيق ما أمر به القرآن أكثر من حرصهم على حفظه؛ ليكون الرسول الكريم قدوتهم بحق، حيث وصف بأنه "قرآن يمشي على الأرض"، ووصفت السيدة عائشة خلقه بقولها: "كان خلقه القرآن".
ويعين المرء على حسن الأداء وحسن الفهم أن يكون من خيار الناس الذين قال عنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" فابحثي فيمن يتقدم إليك عن هذا الإنسان الذي يدرك معنى وقيمة الحياة الزوجية، والذي يتسم بجميل الصفات والشمائل، والذي يحرص أول ما يحرص على تطبيق ما في القرآن والسنة أكثر من حرصه على الحفظ، ابحثي عن هذا الإنسان واقبليه زوجا لك بعد استخارة المولى عز وجل.
وفي هذا الصدد نذكر موقف الفاروق عمر رضي الله عنه حينما سأل رجل عن آخر بقوله: هل تعرفه؟ فرد الرجل بالإيجاب، فسأله عن ماهية معرفته؟ وهل عاشره أو سافر معه أو تعامل معه بالدرهم والدينار؟ (حيث يعرف من خلال هذا التعاملات معادن الرجال) فرد عليه الرجل بالنفي، فقال: فلعلك رأيته قائما قاعدا في المسجد... وطلب أن يعيد النظر لأنه لم يعرف الرجل.
أشعر بحيرتك وأسمع صدى صوتك يتردد: "لقد جعلت الأمور أكثر تعقيدا!! فماذا يضيرني أن أعتمد الالتزام الشكلي طريقا للاختيار، وبعيدا عن أي اعتبارات أخرى؟ وأقول لك: قد يصلح هذا الأسلوب لاختيار الصحبة التي نذهب معها للمساجد، ولكنه لا يصلح بأي حال من الأحوال عند اختيار شريك التجارة، وكذلك لن يصلح عند اختيار شريك الحياة؛ لأن الزواج مسئولية عظيمة تحتاج من طرفي الشركة الكثير من التضحيات والكثير من التنازلات حتى تصل سفينة الحياة براكبيها إلى مرفأ الأمان.. فكيف بالله عليك تتمكن المرأة من عبادة الله حق عبادته وهي تتضور جوعا هي وأولادها لبخل زوجها مثلا أو لعجزه عن توفير الاحتياجات الضرورية لأسرته؟ وكيف تتفرغ لعبادة الله حق عبادته وهي تُضرب وتهان وتمتهن كرامتها ولا تجد من زوجها التقدير الكافي؟ وكيف تحسن عبادة الله وهي تشعر بالنفور من زوجها أو تشعر بالفراغ العاطفي؟
وما أقصده أن الاستقرار النفسي والعاطفي للرجل والمرأة على السواء في حياتهما الزوجية يعينهما على حسن عبادة الله سبحانه وتعالى؛ فإذا اقتنعت بكلامي وبعدم كفاية مظاهر الالتزام الشكلي لاختيار شريك الحياة فعليك ساعتها أن تطلعي على ضوابط اختيار شريك الحياة وذلك من خلال الارتباطات التالية:
فن اختيار شريك الحياة..(1-5)
اختيار شريك الحياة اختيارك أنت
اختيار الزوج مهمة ليست سهلة
وخلاصة القول في هذا الأمر أن تحددي بداية ما تريدين في زوجك من صفات وميزات (سواء أخلاقية أو اجتماعية أو حتى شكلية) وتحددي من هذه الميزات ما لا يمكنك التنازل عنه، وكذلك عليك أن تحددي العيوب التي لا يمكنك التعامل معها، والعيوب التي يمكنك أن تتحمليها في شريك حياتك، ثم انظري فيمن يتقدم إليك فإذا وجدت في نفسك قبولا لفكرة الارتباط به، فابدئي في وضع صفاته على المقياس السابق الذي وضعته لنفسك، ويمكنك التعرف على هذه الصفات من خلال السؤال عنه، ومن خلال لقاءات التعارف التي تتم برعاية الأسرة قبل إعلان الارتباط الرسمي.. ولا تنسي الاستخارة.
أما بالنسبة لزميلك فأمره متروك لك، ولكن من الواضح أنه حتى الآن لم تظهر منه أي بادرة للارتباط بك، وهذا قد يعني أمرا من اثنين، فإما أنه لا يشعر إلا أنك زميلة يحترمها ويقدرها، أو أن ظروفه فعلا لا تعينه على الارتباط، فابحثي الأمر جيدا، ولكن بحكمة وبدون تسرع.
نقطة أخيرة أحب أن أنبهك إليها حيث إنني وجدت في كلامك ما يوحي بأنك تميلين إلى الشعور بضخامة ذنوبك؛ وهو ما يدفعك إلى تصور أنك أسوأ الناس وأكثرهم ذنوبا.. فالحرص كل الحرص؛ لأن هذا الأمر من مداخل الشيطان -لعنه الله- الذي يسعى لمن يحمل مثلك نفسا لوامة، ويظل يدفعه بكل قوة، وتكون البداية بدفعه بعيدا عن الصحبة الصالحة بحجة أنه لا يستحق أن يكون معهم، فإذا أصبح المرء وحيدا كان أسهل انقيادا للشيطان، ويظل وراءه حتى يدفعه للقنوط من رحمة الله؛ فلا تنسي ذلك، ولا تنسي أن الله سبحانه يحب منا أن نخطئ لنتوب، وكفي عن ترديد أنك بقعة سوداء في ثوب شديد البياض، فكلنا يخطئ ويتوب، والله سبحانه يسترنا، ويحلم بنا ويغفر ذنوبنا.
واقرئي أيضًا:
فرط الذنب وفقه التوبة، التائب من الذنبِ !