السلام عليكم
أنا شاب ملتزم دينيًا أحببت فتاة من جيراننا يشهد لها الجميع بالتدين والصلاح وحب الآخرين، وعائلتي تعرفها جيدًا؛ لأن أخواتي البنات صديقاتها ويعرفن طيب أخلاقها، أحببتها في صمت منذ 3 أعوام، ولم أتقدم إلا من عام ونصف حين توافرت الإمكانات المادية وقبلت كل شروط أهلها المادية المجحفة وظللنا مخطوبين عامًا حتى تحدد موعد العقد؛ فإذا بأبيها الذي عارض في بادئ الأمر ثم رضخ لضغوط ابنته يرفض إتمام الموضوع ويفسخ الخطبة بعد أن تعلقنا ببعضنا بشدة وأحبتني حبًا عارمًا وكذا أنا، وانتهت العلاقة رسميًا.
ولكن الحب الجارف في قلبينا لم يتوقف ولم ينته، وأقدمت هي على الخطوة الأولى فقابلتني مصادفة وطلبت موعدًا، ثم بتنا نتقابل مرات عديدة نبث شكوانا، ولكن دون تجاوزات شائنة وفي تلك الأثناء كانت تبذل جهودًا مستمرة لإقناع أبيها، فأضربت عن الطعام ولم يرضخ، وعرضت عليّ الزواج سرًا فرفضت شفقة على سمعتها في مجتمعنا القروي المغلق رغم موافقة أهلي على هذا الحل لأنهم يروننا مظلومين جدًا... الحاصل الآن أن ثمة بوادر لحل الأزمة وثمة عرض للرجوع من والدها مضطرًا
والمشكلة في: أنني لا أغفر لها (ولا لي بالطبع) مقابلتي سرًا، ولا موافقتها على الزواج سرًا ألا يجعلني ذلك أتشكك فيها بعد ذلك وفي سيرها وراء عواطفها مهما صادم ذلك أفكارها؟؟
19/8/2022
رد المستشار
أخي العزيز: حزنت لتعسف أهل فتاتك، ثم فرحت لانفراج الأمر، وعند توصيفك للمشكلة قلت في نفسي: يا الله، هل حقاً عرفت الحب يا أخي؟! هل سهرت الليالي تفكر كيف تقترن بمن تحب في الحلال؟! هل حقاً تعذبت، واكتويت بنار ظلم ذوي القربى في التفريق بينكما؟!
أنا متأكد أنها تحبك بصدق، وتحرص عليك بكل ما لديها من إصرار، وترى فيك الرجل الذي يستحقها ويصونها، ولهذا اعتبرتك الأمل والرجاء، والقدوة والنموذج، وحلمت أن تكون معك البيت المسلم: الذي قرأت وسمعت عنه في حلقات "الأخوات" ودروسهن، اعتقدت أنك فارس أحلامها الذي سيحملها على جواده الأبيض نحو الأفق، "أفق السعادة المؤمنة".
هل تعرف كيف تكون الفتاة الملتزمة البريئة عندما تحب؟! ينفتح قلبها البكر على مصراعيه لتتدفق منه العواطف التي كانت تحافظ عليها ولا تبعثرها على الرائح والغادي مثل الأخريات، فيكون الحب الحقيقي النادر في هذا الزمان، وتعتبر أن هذا الحب دين، والصمود في سبيله جهاد في سبيل الله، فتضرب عن الطعام، وتضغط على أهلها، وتتحمل طعنات كلماتهم المسمومة، وهي تصفها بأقذع الأوصاف، وهي الأنثى التي يصرح حالها: أريده، وهي تفعل ذلك عن طيب خاطر، واعتقاد راسخ بأن "الصبر والثبات" في سبيل إقامة البيت الذي عاشت تحلم به هو من جهاد المرأة المسلمة المعاصرة.
عزمت ونفذت ليس لأنها انساقت وراء عواطفها وصادمت أفكارها، بل لأن أفكارها دعمت عواطفها، واعتبرت أن مسألة ارتباطكما هي "معركة معتقد" وحين يتعلق الأمر بالمعتقد تعتبر المسلمة الملتزمة المعركة حياة أو موتاً، وتبذل فيها كل نفيس، وحالة الحرب تتيح بعض المحظورات. لكن يبدو أنها حلقت بعيداً عالياً أعلى من قدراتك أنت، ومن إدراكك لها ولنفسك بكثير.
المعاني التي حدثتك عنها تضيق عنها أفهام مجتمعكم القروي المغلق، وهي العقلية "الجاهلية" التي ثارت عليها فتاتك أو هكذا كانت في إدراكها، وهي تفعل ما فعلت في معركتها، وتخوض ما خاضت والخيار أمامها: جاهلية أو إسلام، لا عاطفة وأفكار: هل تختار الجاهلية المادية التي تضع المال والحسب والنسب أساساً للاختيار والتفاضل بين الناس؟ أم تختار الإسلام الذي يغلب الدين والأمانة كصفات أهم في الزوج المنتظر؟!
فاختارت الإسلام ولو دون علم أهلها، وتقابلت معك لتقول لك: اصبر إن فرج الله آت، وأنا على العهد صامدة وصابرة، وسيكون لنا البيت الذي نريده إن شاء الله على أساس من تقوى الله ورضوانه. بهذه العقلية والنفسية كانت فتاتك تفكر وتحس، بينما أنت سرعان ما تجاهلت كل هذا، وجردتها من كل صفاتها وملامح شخصيتها الملتزمة التي أحبتك وهي كذلك، وقابلتك وهي كذلك، لتراها مجرد فتاة عابثة، كانت تقابلك سراً، وعرضت عليك "الزواج في السر" كما أسميته بينما وصفه الصحيح أنها تزوج نفسها دون ولي زواجاً شرعيا على مذهب الإمام أبي حنيفة بعلم أهلك وغيرهم.
الفجوة هائلة بين تفكير وتفكير، وتصور وتصور، حتى إن الكلام لا يعبر ـ إذا أراد ـ عن هذا البون الشاسع.
بالمنطق القروي المغلق تفهم تصرفات فتاتك وتراها كذلك، وبالمنطق الرومانسي الإسلامي ـ الشائع لدى الكثير من الملتزمات ـ تراك هي، وبمنطقك الأعوج تتشكك ولا تغفر، وبمنطقها المثالي بذلت من نفسها وكرامتها لأنها كانت تعتقد أن هذا في سبيل الله، ومن أجل الإنسان الذي تحلم به شريكاً في "البيت المسلم".
نعم يا أخي العزيز.. أخطأت هذه الفتاة حين فعلت كل هذا، وأنصحك بعدم الزواج منها، نعم أخطأت خطأ لا يغتفر، وربما تعيش عمرها معك ـ إذا تزوجتها ـ تدفع ثمن هذا الخطأ، وربما تعيش أنت تتعذب في الشكوك والظنون التي تدور في إطار العقلية التي تفكر بها، والمجتمع الذي تعيش أسير أفكاره.
نعم أخطأت فتاتك يا أخي، ليس لأنها قامت بفعل خطأ، ولكن لأنها اختارت أصلاً الشخص الخطأ.
وأقول لك: إذا لم تستطع أن تكف عن هذا الهراء الأحمق والافتراء الشيطاني فوراً وإلى الأبد، ففارقها بإحسان يرحمكما الله، ويغني كلاً من سعته، لأنك إن لم تفعل فستعيشان في جحيم لا يطاق، وأفضل لكما أن تتفرقا على خير من أن تعيشا في بيت العنكبوت.. والله أعلم.