بعد التحية والسلام، في البداية أود أن أقدم فائق شكري وتقديري لكل العاملين في قسم استشارات مجانين، وأبتهل إلى الله سبحانه وتعالى بأن يوفق الجميع لفعل الخير والنهوض بهذه الأمة إلى أسمى المستويات وجعل الله تعالى أعمالكم هذه في ميزان حسناتكم يوم القيامة وضاعفها أضعافا مضاعفة، إنه على كل شيء قدير.
العزيزة والغالية د. رشا، أود أن أوجه هذه الرسالة التي طالما ترددت في كتابتها لك، مرة لطولها، ومرة أخرى لكثرة التفاصيل التي سأحاول جهدي أن أختصرها وأورد المهم منها فقط، عسى الله أن يكتب لي الحل على يديك، ويعلم الله ما أكنه لك في قلبي من الحب والاحترام الفائق، ولطالما رأيت فيك الأم الحنون التي فاض حنانها محيطها الخاص فنشر شذاه إلى صفحات الإنترنت، فعسى أن يصيبني شيء من هذا الحنان الذي لم يبخل على أحد.
أنا فتاة في الـ22 من العمر أكمل حاليا دراستي في الجامعة، لكنني مغتربة بعيدة عن بلدي مع أسرتي التي صادف أن أكون البنت الوحيدة فيها، أمي وأبي من الناس المثقفين الذين أتموا دراستهم الجامعية بتفوق والحمد لله، كذلك فهما من أروع الناس بالنسبة لي فهما يعاملانني كأخت ولست كابنة وهذا ما لا أستطيع نكرانه أبدا، عشت طفولة سعيدة ومراهقة ناجحة (على حسب تقديري)، ويرجع الفضل بذلك إلى والدتي التي لم تبخل علي بالنصائح المفيدة التي أفادتني في كل المشاكل التي يتعرض لها المراهقون في هذه الفترة، ونشأت وقلبي متعلق بالمسجد خاصة في فترة المراهقة فحفظت من القرآن ما تيسر لي، وابتعدت عن كل ما يحوم في سماء البنات من سني من أفكار في العلاقات وأشياء من هذا القبيل.. كل ذلك إلى أن قُدر لي السفر، الآن أشعر أنني أفتقد كل شيء؛ لأنني فقدت كل شيء.. أنا بحاجة إلى مساعدتك فأرجو ألا يضيق صدرك بإطالتي، أنا محتاجة لك حتى تقولي لي من أنا الآن وما هذا الذي يجري من حولي؟!
دخلت إلى الجامعة وكالعادة بعيدة كل البعد عن عالم الأولاد، وكانت لي صديقة واحدة فقط، وأذكر وقتها أني كنت أمر بضائقة وعرضت علي المساعدة بأخذ رأي شاب بفصلها الدراسي تحترمه للغاية لما عُرف عنه من الأدب والدين (وكانت أيضا معجبة به أو تحبه، لكن وقتها لم يكن لي أدنى علم بذلك) وافقت على الفكرة وفعلا قدمتني للشاب وساعدني في حل مشكلتي وشكرته على ذلك، بعدها بمدة قصيرة كنت إذا مررت في مكان في الجامعة وكان ذلك الشاب موجودا سلمت عليه وهو في المقابل يفعل نفس الشيء، وكان هذا الشيء اعترافا بالجميل.. لم تمض مدة طويلة قبل أن أفاجأ أن صديقتي قد انقلب حالها ضدي، وعرفت السبب -الغيرة- فقررت مقاطعة الشاب وعدم السلام بالمرة، أما هو فقد أخذ موقفا مغايرا تماما، طلب لقائي، وأخبرني بأنه يحبني، ويريد التقدم لخطبتي، وفعلا خلال أقل من ثلاثة أيام قام بخطبتي من أبي الذي كان مسافرا وقتها واضطر أهله أن يتصلوا به ويتحملوا كلفة مكالمة دولية.
وعلمت بعدها من أهلي أنهم قرروا رفضه بسبب كونه طالبا، وأن الأمر مبكر جدا على الزواج، أخبرته بذلك فأصيب بصدمة وقال بأنه لن يصاب باليأس بل سيكرر المحاولة خلال 6 أشهر على أمل أن يكمل شوطا في الدراسة، وعندها يطلب خطوبة فقط لحين إكمال الدراسة (وللملاحظة.. من في عمره قد تخرجوا لكنه تأخر في الدراسة بسبب ظروف سفره، فلم يكن ذلك بالعمر الصغير).. سيدتي، لا أنكر أنني قد أعجبت بهذا الشاب إعجابا عميقا لدينه ولأدبه وكرمه، ولنيته الصافية ووضوحه فيما يتعلق بعلاقته بي ولإبائه وكرامته التي لا تدانى، مع الأيام زاد هذا الإعجاب فدخل في خانة الحب، ومن هنا بدأت تنسحل أوراق مأساتي.
أعاد الكرة بعد 6 أشهر فلاقى رفضا أيضا بطريقة مهذبة، عندها قرر الانتظار لمدة سنة حتى يحقق شيئا، وانتظرنا سنة خلالها تفوق هو دراسيا وحصل على منحة دراسية وحاول جاهدا أن يقوم بأي عمل بسيط يستطيع أن يدخر منه شيئا أو يعود عليه بالنفع، وفعلا وفق في ذلك أيضا، وكنت أساعده في الادخار حتى أننا جمعنا كل المبلغ المطلوب للشبكة بدون مد يد الحاجة إلى أحد، وخلال هذه الفترة زدت تعلقا به وبصدقه وتصميمه خاصة أنه قد أخبر كل الأصحاب في الجامعة بأنه يحبني (وسيلبسني الدبلة أول ما تنصلح الظروف).. خالج هذه الفترة بعض التغيرات التي اعتبرتها من حقه فقد طلب مني ألا أضع أي مكياج، وألا أرتدي البنطال، وإنما أستعيض عن ذلك بالجلباب الإسلامي؛ الأمر الذي حاولته لكن بعد فترة من الزمن لم أتمكن من مجاراته فأخبرته بكل صراحة بأنني ما زلت صغيرة عليه، وأنني لا أريد أن ألبسه حاليا، وسألبس بدلا منه ملابس الحجاب الأخرى المحتشمة فقبل بعد إبداء بعض الامتعاض.
الآن وبعد مرور سنتين على علاقتنا تقدم لخطبتي وعلم أهلي بأنه يحبني وبأنني أحبه فاضطروا أن يفكروا بالموضوع بجدية وقالوا له بأن ينتظر لمدة لم يتم تحديدها حتى يتمكنوا من السؤال عنه في بلاده، وكنا سعيدين بهذه الإجابة فالأمل الآن يبدو كبيرا.. والظاهر أن أهلي غير مقتنعين بالمرة بفكرة حتى الخطبة من طالب؛ الأمر الذي أخرهم بالسؤال عنه لمدة طويلة، ولا أكذب إن قلت لكِ بأنه بحدود الـ4 أشهر من بعدما جاء الرجل لخطبتي وأهلي لم يحركوا ساكنا، لم يسألوا عنه في الجامعة ولم يسألوا عن أهله، لم يكلفوا أنفسهم حتى أن يرفعوا السماعة ويتصلوا بأهله أو أقاربهم، على الرغم من توفر بعض الأرقام التليفونية لذويه وإخوته وحتى بعض فرع العائلة الذين سكنوا في نفس بلدي، هذا الأمر أرهقنا فقد بدت مؤشرات الرفض تلوح في الأفق فلماذا هذا السكون؟!
أربعة أشهر بأيامها ولياليها بعدها بدأت الأغلاط ولا أدري أكانت هذه الأغلاط بسببي أم بسببه أم بسبب أهلي، فبعد هذه المدة بدأ يسأل كل مرة أراه فيها: هل اتصل أهلك؟ وتأتي الإجابة بالنفي، ويبدأ التساؤل لماذا؟ كان يريدهم فقط أن يسألوا حتى يسمعوا بأنفسهم أخبار عائلته الطيبة وسمعتها الناصعة على طول الخط، فبدأ الضغط علي من كثرة الأسئلة من ناحيته وبدأت أنا أيضا أسأل أمي ماذا حصل؟ وأمي تجيب اليوم وغدا وهكذا.. مضت 6 أشهر على خطبته بعدها بدأت التحركات الميتة للسؤال، وكما كان متوقعا فقد جاءت النتائج إيجابية والحمد لله، ولكن بعدها بدأت بيني وبين أمي تظهر أشياء ما كنت متوقعة في يوم من الأيام أن تظهر، أمي معارضة كل المعارضة لهذه الخطوة حاليا، ونحن نرى أن الخطوة هذه ضرورية على الأقل لنفسيتنا، وبدأت تضرب لي أمثال الفتيات اللائي أحببن في الجامعة وانتظرن حتى أكملن دراستهن.. فيا سبحان الله توافق على أن نبقى على علاقة طوال الدراسة فقط حتى لا نخطب وتقول للناس خطيب ابنتي طالب!
حاولت إقناعها بشتى الطرق أن هذا الشيء ليس حراما، وأننا لا نفعل ما يغضب الله أو الناس وأننا إن نخطب فحالنا سيكون 100 مرة أحسن من أن نتكلم مع بعضنا بحضور الناس بدون رابط شرعي أو عرفي على الأقل.. بعدها تدخل أبي في الموضوع ليحسمه لصالحي، وقال لي بأنه عنده شرط واحد وهو ألا يتم عقد القران قبل التخرج، وليس قبل أن يجد وظيفة يعيل بها نفسه ويعيلني؛ فسعدنا بهذا الخبر أشد السعادة وعاهدناه على ذلك فهذا ما كنا نريده على الدوام وها هو الحلم بدأ يتحقق.. سافر أبي بعدها لأداء بعض المهام، وبقي هنالك ما يقارب الشهر من الزمان وعاد ليبقى معنا لمدة 10 أيام فقط ليسافر مرة أخرى، خلال هذه الأيام كنا في فترة امتحانات، وكان عندنا يوم واحد فقط لا غير وهو يوم الخميس الذي لم يصادف عندي أو عنده امتحانا فيه فأخبرت أهلي بأنه سيأتي مع بعض الناس لقراءة الفاتحة، وفعلا تمت قراءة الفاتحة.
وعاد ليتصل بي بعدها ولم ألحق أن أسمع "مبروك يا عروسة" حتى دخلت أمي إلى غرفتي وأبدت امتعاضها الشديد، وقالت إن ما فعلناه يعتبر جنونا، وإننا قد مارسنا ضغطا كبيرا عليهم، وأن المفروض أن ننتظر مثل غيرنا ورجعت تعيد الأسطوانة نفسها؛ الأمر الذي أبكاني ذلك اليوم بحرقة.. سافر أبي ليعود بعدها بحدود الشهر وكان المفروض أن نلبس الدبل، إلا أن أمي منعت ذلك والسبب كان أنها قد اتصلت ببلدنا وأن الأهل لم يوافقوا على الزواج من عربي آخر غير بلدي واتهموا أهلي بالتسرع وغيرها، أبي لم يعر الموضوع أي اهتمام وقال إن البنت بنتي وأنا وحدي من يقرر صلاحية الشاب الذي وافقت عليه وأنا من رأيته وسألت عنه.
أما هي فقد حطمتني وأذلتني بكثرة إعادة موضوع الضغط الذي مارسناه عليهم وغيرها، ووالله لم يمض يوم إلا وتكون عندنا مشكلة في البيت في هذا الخصوص حتى إنني بدأت أشعر أنني مريضة نفسيا وأنني مذنبة وأنه حرام علي ما أفعله فيها وأنها بسببي لا تنام.. قبل مدة بسيطة طلب منا أبي أن نلبس الدبل وقال إنه لا داعي للانتظار أكثر، أما هي فقد صممت أن يكون يوم الخميس، وكنا -أنا وهو- مشغولين يوم الخميس فقررنا تأجيلها ليوم الإثنين، هنا كان انفجار آخر.. وهو أننا أردنا يوم الإثنين لأننا أردنا أن "نمشي رأينا" وليس لكوننا طلابا وعندنا دروس ومحاضرات!!! لا أدري كيف أقنعها لا أدري ماذا أفعل لها حتى ترضى وتكون سعيدة.
جاء يوم الإثنين فقامت بتأجيل الموعد -انتقاما- للثلاثاء، وعندما أكملت المحاضرات ورجعت للبيت وجدت أنها قد قامت باستدعاء جماعة من الأصدقاء ليتناولوا عندنا الغداء (خاصة أن أبي لم يبق على سفره غير هذا اليوم فقط) والذين تركوا البيت بحاجة إلى بعض التنظيف، والصدمة الأكبر أنني وجدتها نائمة لأنها متعبة من الوقوف بالمطبخ منذ الصباح؟ كان الباقي نصف ساعة فقط على وصول خطيبي، دخلت بهدوء إلى غرفتي وبكيت بكل طاقتي حتى إن الإحمرار لم يذهب من عيني طوال تلك الليلة.
جاء خطيبي تلك الليلة وبعد جو من المشاحنات الواضح أمرتني أن أجلب الدبل (بنفسي) الأمر الذي سبب لي إحراجا أمام إخوتي وأبي، بعدها وكمجاملة وتغطية على التقصير الواضح الذي بدا تلك الليلة طلبت من أخي أن يحضر الكاميرا لتصويرنا (وكنت قد أخفيتها أنا لأنني لم أرد أن يصورني أحد في تلك الظروف) فارتبك وبدأ يبحث عنها لمدة ½ ساعة حتى وجدها.. اليوم وبعد انقضاء أقل من 10 أيام على خطوبتنا طرحت فراشا بسبب مرض شديد ألم بي، وخطيبي يتصل بي تلفونيا فقط، فأراد زيارتي وهذه ستكون المرة الأولى التي سيدخل بيتنا بعد لبس الدبل، وعندما أخبرتها بذلك رفضت الفكرة وقالت لي بأنه كان من المفروض أن يستأذنها هي قبل أن يقول لي ويرى إن كان بإمكانه المجيء أم لا؟
سيدتي، بعد أن سردت لك القصة كاملة أرجوك قولي لي ماذا أفعل؟ أنا أحب خطيبي وأريد أن أكون معه، وأود أن تحبه أمي أيضا لكن كل ما أجده هو الرفض! لماذا؟ فقط لكونه طالبا فهي لا تملك أي سبب آخر بل بالعكس فهي تجامله كثيرا عندما كان يأتي قبل الخطبة.. لم أعد أحتمل ما يجري، وهو أيضا بدأ يتعب، تحمل كل أنواع الاعتراض لأجلي، وقالها لي صراحة: لولاك ولولا حبي لك لما انتظرت ساعة واحدة عند أناس ينظرون إلي بنظرة دون.
لا أدري ماذا أفعل إن هجرني يوما بسببهم وبسبب قسوة أمي، ولن ألومه فهي بالضبط كما قال: "هذه ليست جوازه بل جنازة"، المفروض أن تكون هذه من أجمل أيام حياتي لكن أرى بأنها أتعسها وأستغفر الله تعالى 1000 مرة وأتوب إليه عندما أقول لك إنني كنت أسعد بكثير عندما كنا نحب بعضنا بهدوء في الخفاء.. ما هو الحل؟ .. لا أستطيع الاستمرار هكذا، فكرت أن أرجع الدبلة له وأطلب الرجوع إلى بلدي، لكنني أعلم أن نهايتي ستكون بعدها؛ فأنا لا أتخيل نفسي لحظة بدون وجوده في حياتي فهو الأمان عندي ومن يستطيع العيش دون أمان؟! ولا أستطيع أن أعيش دون إرضاء أمي، فهي أمي وأفتقدها كثيرا، أفتقدها وهي أمام عيني الآن.
أرجوك أخبريني من أنا؟ هل أنا الابنة؟ أم الحبيبة المخطوبة الممنوعة؟ وما هذا الذي يجري حولي؟ أرجو ألا يُذكر اسمي أو عنواني في هذه الرسالة، وجزاك الله عني ألف خير، وجعلك ممن يشربون من كفه صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمئون بعدها أبدا.
29/1/2023
رد المستشار
بسم الله الرحمن الرحيم
الابنة الكريمة "سماح" حفظها الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد،،،
أشكرك على مقدمتك الرائعة، أسأل المولى عز وجل أن يكون عملنا خالصا لوجهه الكريم، وأن يستخدمنا ولا يستبدلنا، وأن ينفع الله بنا البلاد والعباد، ونكون دائما عند حسن ظنكم بنا.
عزيزتي: بارك الله لك في والدتك، وقد أسعدني انشغالك بها، واهتمامك بإرضائها، فلا شك أن بر الوالدة فضيلة عظمى، وطاعة كبرى، وفريضة مأمورة، بها يتقرب المرء إلى ربه سبحانه وبها تنال الدرجات العليا من الجنة ... والدتك كما ذكرتي في رسالتك، سيدة مثقفة، جامعية (أتمت دراستها الجامعية بتفوق)، أنت ابنتها الوحيدة، تعاملك كأخت وليس كابنة، أعانتك على تجاوز مرحلة الطفولة والمراهقة بنجاح، لم تبخل عليك بالنصائح المفيدة التي أفادتك في حل كل المشاكل التي يتعرض لها المراهقون في هذه الفترة من عمرهم، ولا شك أن محبة الأم لأبنائها أمر مركوز في فطر العباد، ومن ضرورات ذلك حرصها التام على مصلحتهم، ومن أهم ما يؤرق الأم زواج ابنتها، وأن تتيسر لها أفضل الفرص للعيشة السوية الكريمة
نعم، قد لا تحسن بعض الأمهات تقدير ذلك، والموازنة بين المصالح، ومراعاة المصلحة الحقيقية، قد تنظر إلى اعتبارات لا ينبغي التعويل عليها، قد .. وقد .. ولكنني أتفهم موقف والدتك جيدا، بل وأتعاطف معها وأشفق عليها، فالأسرة مغتربة بعيدا عن موطنها الأصلي، وأنت الابنة الوحيدة التي تعلق قلبها بشاب من بلد عربي آخر، وهذا الشاب لازال طالبا في مرحلة الدراسة، وقد تخرج من هم في مثل عمره لكنه تأخر في الدراسة بسبب ظروف سفره، وفي الحقيقة يا عزيزتي أن الارتباط بطالب في مرحلة الدراسة الجامعية يعد مشكلة عند بعض الآباء والأمهات، ولعل هذا ما يبرر رفض أهلك للأمر منذ البداية، وتعللهم بأن الوقت لازال مبكرا على الزواج، ويبرر مماطلتهم لفترة طويلة في السؤال عنه وعن عائلته، لماذا؟
لأنه – وبغض النظر عن كونه من بلد عربي آخر – فترة الدراسة في الجامعة – لا سيما في السنوات الأولى – تُعرف على أنها استكمال لمرحلة المراهقة للفتيات والشباب وقصص الحب الأولى في حياتهما، وقد تحتار الفتيات في التصرف في مثل تلك المواقف لقلة الخبرة، ولكن يدفعها الانجذاب للشاب والشغف للدخول في قصة حب لأن تميل للتقرب منه والتعرف عليه .. إن مرحلة الجامعة – يا ابنتي – هي أكثر المراحل المعروفة بظهور قصص الحب والإعجاب بين الفتيات والشباب، حيث يكون بداية الانفتاح للمجتمع والتعامل بين الشاب والفتاة وذلك تزامنًا مع مرورهم بفترة المراهقة والتخبطات وعدم استقرار المشاعر والقدرة على اختيار شريك الحياة، وفي الوقت نفسه الشغف على الارتباط والزواج والدخول في قصص حب مثلما يشاهدون في التلفاز.. ومع الأسف، فإن شغف الفتيات على الدخول في قصة حب يمكن أن يضعها في خطر كبير، فهذا الشاب لا يزال مجرد زميل في الدراسة ولا يعني اعترافه بالحب للفتاة أنه سيصبح خطيبها وزوجها المستقبلي، فماذا لو تغيرت مشاعره نحوها بعد فترة – لأن هذا الحب كما ذكرت لك يشبه بدرجة كبيرة حب المراهقة – وكلما تقدم الشاب في العمر تغيرت نظرته ومقاييسه لمعايير الحب والزواج، وقد يؤدي هذا الحب إلى استنزاف المشاعر مع الشخص الخطأ، لذلك يجب أن تتأنى الفتاة في اختيار الشخص الذي تعطيه قلبها ومشاعرها مع ثقة في أنه الاختيار الصحيح حتى لا ترجح مشاعرها ويكسر قلبها
أما بعد انتهاء المرحلة الجامعية فتكون الفتاة قد نضجت بعض الشيء، وتمكنت من التحكم فى مشاعرها والتفكير بمنطقية تجعل عقلها يتغلب على قلبها، فتستقر مشاعرها، والأمر نفسه يحدث مع شريكها، ويتمكنان من اتخاذ القرار المناسب لهما .. ولذلك كانت النصيحة دائما للفتيات في مرحلة الدراسة الجامعية وفي هذا العمر الخطير بعدم الدخول في علاقة عاطفية مع زميل الدراسة، فحتى لو كان زميلك في الجامعة يحبك فلا يجب أن تعطي له قلبك بكل سهولة وتدخلين معه في علاقة عاطفية بل يمكن تأجيل ذلك حتى يكون الوقت مناسب لذلك والمشاعر الجميلة يمكن أن تبقى أيضًا .. ولعل هذا ما يفسر معارضة والدتك لهذه الخطوة حاليا، وضربها الأمثال لك للفتيات اللائي أحببن في الجامعة وانتظرن حتى أكملن دراستهن، واعتبارها خطوة قراءة الفاتحة جنونا وممارسة للضغط عليهم، وأنه كان يتوجب عليكم الانتظارمثل غيركم، والسعيد من وعظ بغيره
ليس هذا فحسب – يا ابنتي – فالارتباط بطالب لازال في مرحلة الدراسة الجامعية يعرض الفتاة للتحكمات التى اعتدنا عليها من الرجل الشرقى، ستجد الفتاة نفسها محاصرة طوال الوقت لا تستطيع ارتداء الملابس التى تريدها، وسيعترض أيضا على ماكياجها وطريقة كلامها وغيرها من التفاصيل، رغم كونها فتاة متدينة، ومحتشمة، وحافظة لكتاب الله، ولعل هذا ما حدث معك بالفعل حيث طلب منك خطيبك ألا تضعي المكياج، وألا ترتدي البنطال، وأن تستعيضي عن ذلك بالجلباب الإسلامي؛ الأمر الذي لم تتمكني من مجاراته لأنك ما زلت صغيرة عليه، وارتديتي ملابس الحجاب الأخرى المحتشمة عوضا عنه .. أيضا ماذا عن الوضع المادي لطالب تقدم للارتباط بزميلته في الجامعه، وماذا عن استعداده لإتمام الزواج وتحمل المسؤولية بعد التخرج!؟ من المؤكد أنه مازال طالبًا، لن يستطيع أن يجهز نفسه ويتحمل مسئولية زوجة وأطفال قبل مرور عام واثنين على الأقل من التخرج، هذا في حال تمكن من الحصول على وظيفه سريعه تعيله وتعيل زوجته بعد تخرجه .. والدتك كما ذكرتي في رسالتك، سيدة مثقفة، جامعية، فماذا لو كانت والدتك تخطط لأن تكون ابنتها الوحيدة متفوقة دراسيا ومهنيا أسوة بها، وماذا لو أنها أرادت بهذا الاعتراض أن تصرفك عن موضوع الزواج حتى تهتمي بجامعتك ومستقبلك المهني، وبعد ذلك يأتي الزواج فتهتمي به في وقته المناسب .
أنتي أيضا لديك مشكلة أخرى وهي أن خطيبك – بجانب كونه طالب – هو أيضا من بلد عربي آخر، وهذا دافع آخر لقلق والدتك واعتراضها على التسرع في اتخاذ أي إجراءات رسمية لحين انتهائكم من دراستكم لاتخاذ قرار صائب متأني آنذاك، فأنتي ابنتها الوحيدة ومن المؤكد أنها لا تريد أن تخسرك حتى لو بالزواج حتى لا تبتعدي عنها، فماذا لو أنهى الشاب دراسته وقرر العودة إلى موطنه الأصلي، هل ستذهبين معه وتبتعدين عن أسرتك وأنتي ابنتهم الوحيدة، وأبنائك اللذين سيحملون جنسية والدهم ويعيشون بعيدا عن أجدادهم، ما مصيرهم وكيف سيكون التواصل بهم والتعامل معهم فيما بعد!؟، ماذا لو كان الشاب ليس على قدر المسؤولية وقرر الهرب إلى موطنه وعدم استكمال إجراءات الزواج لأي سبب وتركك بقلب مكسور!؟ من المؤكد – يا عزيزتي – أن كل هذه المخاوف تدور في رأس والدتك وقلقها يزداد وهي تراكي مندفعه في مشاعرك وتتعجلين لاستكمال إجراءات الارتباط الرسمي، وأكاد أجزم أن هذه المخاوف كانت سببا رئيسيا لاعتراض والدتك على لبس الدبل لاسيما بعد اتصالها بالأهل في البلد الأم لأنهم من المؤكد ناقشوها في هذه الأمور، ولذلك لم يوافقوا على زواجك من شاب من بلد عربي آخر واتهموا أهلك بالتسرع في اتخاذ القرار، وهو ما يبرر أيضا ثورتها لتحديدكم يوم بعينه للبس الدبل والمضي في اتخاذ إجراءات رسمية لهذا الارتباط.
ولعل هذا ما يبرر أيضا ثورتها لزيارة خطيبك لك أثناء مرضك دون أخذ موافقتها أولا، حيث شعرت بأنكم تتصرفون في الأمور من تلقاء أنفسكم، وتقومون بإبلاغ الكبار بالقرارات دون الرجوع لهم وأخذ إذنهم أولا، فأنتم من يحدد موعد لبس الدبل، وتحددون موعد قراءة الفاتحة، ويقوم خطيبك بزيارتك أثناء مرضك دون أخذ الإذن من أصحاب المنزل، ورغم تقديري لظروفكم بأن تحديد موعد لبس الدبل وقراءة الفاتحة كان لأنه اليوم المتاح لكم كطلاب، ولكن الأمر يختلف تماما بالنسبة لوالدتك .. ابنتي الكريمة لا أريدك أن تفهمي من كلامي أنني أدافع عن موقف والدتك، وأنني أؤيدها في ردة فعلها، ولكن أردت فقط أن أوضح لك طريقة تفكيرها في الأمر، وأبين لك أسباب ثورتها ضدك وقلقها عليك، لتتفهمي موقفها وتختلقي لها الأعذار، ولا تفسري موقفها خطأ بأنها تقف ضد سعادتك، وأنها تكره لك الخير.
إذن، ما العمل الآن، وكيف التصرف وقد ذكرتي لي في رسالتك أنك مرتبطة بخطيبك وتشعرين أنه الأمان، وهو أيضا يحبك ويبادلك نفس الشعور، وهو كما جاء في رسالتك من أسرة كريمة وأصل طيب، وقد صبر، وتحمل كثيرا، بل وكرر المحاولات حتى استطاع الوصول إلى هذه المرحلة من الارتباط بك، مما يدل على أنه جاد في قراره ومتمسك بك .. أن الزواج – يا عزيزتي – من شريعة الله تعالى، وهو من سنن المرسلين عليهم السلام، قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّة))، وإذا كنا سنناقش الأمر بعقلانية ومنطقية فيجب أولا نؤسس الكلام عبر السطور التالية على "الحرية" و"المسؤولية" وما ينجم عنها من اختيارات وقرارات، وهذا منتهى ومقتضى النضج، كونك بالغة وراشدة وناضجة ومسؤولة .. أنت من اخترت هذا الشاب، وترينه مناسبًا، وأنت من ستتزوجينه، وهذه كلها اختيارات وقرارات وحدك تتحملين مسئوليتها .. المسئولية إذاً أمر خطير، الزواج اختيار، وهو قرار مصيري خطير، لا يجب الاستخفاف به، ولا الاستهانة، ولا تحكيم المشاعر وحدها والانسياق وراءها، لذا راجعي قرارك، فربما ترى والدتك في الزيجة بحكمة السنوات وخبرتها ما لا ترينه أنت بفعل المشاعر وتوهجها، هذا ما يمكن أن تكون والدتك محقة فيه، لكنها ليست محقة في الاختيار لك، ولا الوقوف حائلًا دون اتخاذ قرار صائب لمجرد أنها تريد منك اتخاذ قرار يعجبها بشكل شخصي
الخلاصة، أنت حرة يا عزيزتي والحرية مسؤولية، وحبك لوالدتك يكون بإحسان اختيارك لقرارتك خاصة تلك المصيرية، وعندها سيكون هذا إثباتًا فعليًا لها أن تعبها لم يذهب هدرًا، وهذا ما يجب أن تعقليه، وتوازنيه قدر المستطاع، من أجلك أنت، وتأكدي أن ما سيكون في صالحك هو ما سيسعد والدتك وسيعبر لها عن حبك وتقديرك.. لو وجدت أن قرارك صائب، فلا يكون إصرارك على إتمام الأمر بعناد، وشجار، وتحدي، بل امتصي ما استطعت غضبها، وتفهميه، وتلطفي معها أيًا كان الأمر في القول والفعل وتحملي كل ردود الأفعال منها، أتمي أمرك بحكمة، ولطف، ومنتهى المسؤولية، وفعل ما يشبع احتياج والدتك للتقدير، واحذري الإساءة إليها بأي كلمة من الكلمات التي تقال وقت الغضب، طمئني قلبها، والزمي قوله تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) ورغم أن الزواج حق من حقوقك، ومنفعة الزواج لك أنت، وليست لوالدتك، إلا أنه وبإجماع أهل الدين، يجب عليك تجنب الصدام مع والدتك ومحاولة إقناعها بشتى الطرق، والبحث عن وسطاء موثوقين للشفاعة عند والدتك لكي تعطيكي بركاتها، فالأم عاطفية يسهل إرضاؤها مع الصبر والرفق، والكلمة الطيبة . المسألة قد تتطلب بعض الوقت، عليك بالصبر والمثابرة وتأكدي أن أمك سترضى عن خطيبك يوم تجده قد تحمل المسئولية، وأوفى بوعوده لك بعد التخرج
هناك كلمة أخرى أريد أن أهمس بها في أذن والدتك الكريمة علها تقرأ ردي على رسالتك وتستمع لنصيحتي، أقول لها:
"على الأمهات أن يكففن عن معاملة أولادهن وكأنهم أطفال صغار لا يفقهون في الدنيا شيئا، لقد تغير العصر وتغيرت طرق التعارف، وعلينا كأمهات أن نحترم اختيار أولادنا، وهذا الاختيار يحملهم المسؤولية، نفعل ذلك الآن بدلا من أن يأتي يوم – يا سيدتي – يحملوننا مسؤولية فشل زواجهم وتعاستهم، وإن لم يفصحوا عن ذلك، سيأتي يوم نرحل فيه، ولا نريدهم أن يتهموننا بأننا كنا سببا في تعرضهم لظلم كبير، وأن من ظلمهم كانت أمهم الحنون، أتفهم موقفك وثورتك، فجميعنا – كأمهات – عنصريات نرجسيات حين يتعلق الأمر بأبنائنا وبناتنا، ولكننا في النهاية لا يجب أن نحمل على عاتقنا نتائج اختيار شريك الحياة لهم، ولا يجب أن نجعلهم مضطرون للاختيار بيننا وبين من اختاروه شريكا للحياة، فلكل منا حبه ومكانته في قلوبهم". سيدتي، إن الشاب الذي يتقدم للزواج، فهو قادم للابنة وليس للأم، وعلى الأم أن تترك لابنتها حرية الاختيار، وفي الوقت نفسه عليها بالنصيحة والتوعية، وطالما اطمأنت ابنتك لهذا الشاب وشعرت بالراحة النفسية تجاهه، ووثقت في أخلاقه وحسن معاملته، فعليك بالتوكل على الله والموافقة عليه، وأنا أذكر كلمة قالها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قال: "النكاح لا يتدخل فيه أم ولا أب إلا إذا رأوا شيئاً يخل بالدين"، فسبحان من ألف بين قلوبها وجعلها تشعر بهذه المشاعر النبيلة، يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: "الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، ما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ"
وبعد كل ذلك – ابنتي الكريمة – استعيني بالله تعالى، وأكثري من دعائه أن ييسر لك الخير، وأن يلهمك رشدك، ولا تفعلي شيئاً إلا بعد استخارة الله عز وجل
وأخيرًا نسأل الله أن يرزقك برَّ أمِّك، وأن يؤلف بين خطيبك وأهلك، فهو ولي ذلك والقادر عليه .
دمت بكل خير ووعي وسكينة