نحبها وتكرهنا: فلسطين.. آمال وآلام
السلام عليكم
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد:
بداية أقول لكم إني أحبكم في الله، وإني أدعو الله عز وجل أن يوفقكم في كل خطوة تقومون بها، وأن يرزقكم العلم النافع إن شاء الله. أشكركم على هذه الزاوية المتميزة بتلك العقول التي تنير درب الشباب الحائر في هذه الدنيا، وكله بفضل الله عز وجل عليكم، وزادكم الله من فضله. أنا صاحبة مشكلة (نحبها وتكرهنا.. فلسطين آمال وآلام)، كنت أريد أن أكتب لكم منذ فترة بعيدة، ولكن ظروف الاجتياح والظروف الصعبة التي نمر بها حاليًا منعتني من التواصل معكم.
أحب أن أشكر الدكتور أحمد على رده على مشكلتي بالعقل، حيث لم تزعجه صراحتي، بل وضّح لي الموقف، وهو ما جعلني أعيد الأمر في كثير من الأمور في نظرتي للعرب من حولي. ولن أبالغ إذا قلت يا أستاذ أحمد بأنك بردك على مشكلتي قد ساعدت على وجود فتاة جديدة قوية، فتاة لا تجزع، ولا تكره.. تفكر بالعقل وبالدين قبل أن تتسرع بالحكم على الأمور من حولها بمنطق العاطفة.
عندما كتبت لكم مشكلتي بلا شك كنت متسرعة وقد عممت كرهي على العرب جميعًا، وهذا لا يجوز بأي حال من الأحوال؛ لأني كتبت المشكلة وأنا متناسية (ربما لأن في نفسي شيئًا من الأنانية) أن هناك إخوانًا لي خارج فلسطين يتعذبون ويتألمون مما يشاهدونه من مجازر، وهم غير قادرين على نصرتنا إلا بالشيء اليسير، وأنا أشكر الله عز وجل على نعمة وجودي في فلسطين، والحمد لله على هذه النعمة العظيمة.
عندما كنت أكتب لكم مشكلتي كنت أبث لكم جرح روحي مما أراه يوميًّا ومما أعانيه ومما أحسه ليس ضعفًا مني، ولكن كنت أتمنى أن يكون لي إخوة منكم يقومون بمساعدة شعبي وينصروننا بعد أن أذاقنا اليهود وأعوانهم من أبناء جلدتنا الذل، كرهي لكم ليس كرها وحقدا بالمعنى المعروف وإنما هو نوع من العتاب كالعتاب الذي يحدث بين أخ وأخته فقد يشعر الإخوة في لحظة من اللحظات بالكره لبعضهم البعض، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يتخلوا عن بعضهم البعض (أتمنى أن يكون المعنى قد وصل).
ولقد ذكرت في مشكلتي أن ظاهرة الكره للعرب عندنا في فلسطين بدأت بالظهور وهي موجودة بالفعل.. السبب ربما هو الإعلام في الأساس فعندما ترى القنوات تبث الأغاني بينما نحن نذبح أو المهرجانات تقام ونحن لا ننام.. فأي ضمير هذا؟ .. على كل حال كتبت لكم هذه المرة لأعتذر لمن جرحته بكلماتي، وأنا آسفة، وأسفي هذا لكل مسلم عربي يدافع عن قضية فلسطين بأي الأساليب التي يقدر عليها، وأنا لا أستطيع أن أتخلى عن عروبتي وعن إسلامي بأي حال من الأحوال، فأرجو أن تقبلوا أسفي.
أخيرًا وبما أننا الآن نحن شباب فلسطين وفتيات فلسطين أصحاب القضية الأساسية، فإنه تقع على عاتقنا المسؤولية، وهذه المسؤولية كبيرة جدا، فنحن مطالبون بإصلاح أنفسنا أولا من الداخل، والعودة إلى كتاب الله عز وجل وسنته، والتضحية بالأجساد قبل الأموال في سبيل الله عز وجل (وعشق الشهادة والتضحية على تراب فلسطين هو من عشق الله عز وجل)، ومطالبون أيضا بتثقيف أنفسنا بالعلم، ومطالبون بالصمت!! والعمل يعني (يعني بالفلسطيني كلام قليل وفعل كتير)، ومواجهة مشاكلنا بشجاعة مستمدين القوة من الله عز وجل.
فكل فتاة في فلسطين مطالبة بإعداد نفسها لتكون أمًّا ومربية ومعلمة تخرج جيلا جديدًا واعيًا مثقفًا للجهاد إن شاء الله، وكل شاب مطالب في إعداد نفسه وإصلاحها لله عز وجل.
أستاذي أحمد عبد الله أتدري ماذا قدم لنا شارون في الاجتياح الأخير؟ قدم لنا ثلاثة أشياء: الحزن، والألم، والغضب.. كل هذه الأمور جعلتنا نزهد في هذه الدنيا ونتوق للآخرة ونتقرب لله عز وجل. هذا لا يعني بأن الحياة هنا سهلة الحياة صعبة، والله إن الحياة هنا تشبه حال من يمسك جمرة من النار في يده.. ملاحقون من أبناء شعبنا تارة ومن اليهود تارة أخرى، يعني كل يوم يزيد الأمر سوءًا، ولكن لا بأس فطريق النصر طويل ولازم الصبر.
وأخيرًا أستاذي الفاضل عذرًا على تشتت أفكاري، وأرجو أن تعذروني على هذه الكتابة، ولكن في القلب حزن وألم لا يعلمه إلا الله عز وجل، والحمد لله رب العالمين على هذه النعمة؛ لأنني بالحزن والألم عرفت الله.
نهاية أستاذي الفاضل أرجو منك أن تقدم لي نصائح عن كيفية التعامل مع الأطفال في حالة الفزع؛ فهنا يقومون بتفتيش البيوت فجأة، وينتهكون المحارم، ويقومون باعتقال الأطفال وضربهم على الرؤوس أحيانا؛ فكيف لنا أن نساعد على إيجاد جيل غير معقد بالعقد النفسية، وأرجو أن يكون سؤالي قد فهم. وأخيرًا لا تنسونا من دعائكم؛ لأنه هو الشيء الوحيد الذي سوف يصل إلينا، وهذا ما نريده منكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أختكم الفلسطينية المشكلة
14/2/2023
رد المستشار
أختي الكريمة، هزتني رسالتك وكتب لي د/ وائل أبو هندي ملاحظة عندما قرأتها فيها: "لم أكن أستطيع منع نفسي من البكاء أثناء قراءتها أرجو أن تخبر الأخت السائلة بأننا معها بكل قلوبنا أرواحنا وإن تباعدت أجسادنا".
وطالما أن ردي السابق عليك قد ساعد في تحولك إلى فتاة جديدة قوية لا تجزع ولا تتسرع بالكراهية، وتفكر بالعقل والدين، فإنني أكتب لك اليوم ولكل أحبابنا في فلسطين التي يبدو أننا نقول لها اليوم كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".
أو كما قال أحد كتَّاب الأعمدة في جريدة مصرية قريبا: "وليس أمامنا ما نقوله لأشقائنا الفلسطينيين سوى أن العدو أمامكم، والعدو وراءكم، والعدو بينكم، وليس لكم إلا ما تستخلصونه بأيديكم ودمائكم.. وهو كفيل بالنصر"!!
بثثت لنا يا أختي جرح روحك في المرة السابقة وتوازنت نظرتك بردي، فلا تعميم ولا تسرع في إطلاق الأحكام، فهل تسمحين لي اليوم أن أفصح بين يديك عن بعض مشاعري؟!! هل يمكنني أن أشاركك بعض همومي، وأقول لك بعض ما يجول في نفسي على مرأى من إخواني وأخواتي في فلسطين وغيرها؟!
أولا: دون كثير ندب أو ولولة وزيادة في جلد الذات أقول بأن الحالة التي كنا عليها في إبريل الماضي حين كان الاجتياح وحين خرجت الجماهير من جاكرتا إلى موريتانيا تعلن سخطها عما يحدث لكم، هذه الحال قد تم تفريقها أو كسرها بآليات وأحداث وأساليب ينبغي أن ندركها، فمنها الصدامات مع الأنظمة، وجحافل الأمن حتى صار الخروج في مسيرة احتجاج غامرة غير محسوبة العواقب، ولعلك تتابعين الاعتقالات الأخيرة بحق شباب جامعي، وأساتذة وأطباء وغيرهم، والتهمة الموجهة إليهم هي "محاولة استغلال قضية فلسطين في تحريك الجماهير وإثارتها"!! وجاءت مباريات كأس العالم، وكنت وقتها في "بيروت"، ورأيت الأعلام الفلسطينية التي كانت ترفرف وحدها في إبريل قد تاهت في يونيو بين الأعلام الفرنسية والألمانية، وطبعا البرازيلية!!
وكانت امتحانات آخر العام ثم المصايف والمنتجعات التي تتنافس من المحيط إلى الخليج في جذب السائحين ببرامج الترفيه والترويج.
إذا كنت ممن يتابعون صفحتنا بانتظام فستعرفين أنني آخر من يمكن اتهامه بمعاداة الترفيه أو الترويح أو التخفيف عن النفس، ولكن استراحة المجاهدين تختلف عن استرخاء المترفين اللاهين، والمرح هو حق للمتعبين الذين أنتجوا وأنجزوا، أما نحن فما أنتجنا أو أنجزنا من أجل فلسطين، أو من أجل غيرها سوى بعض الصراخ والتبرعات، والتشنجات؟!! لعبة لطيفة أن نختار أسلوبا للاعتراض أو الدعم ترفضه الأنظمة أو تديره، ثم نخطط بعد إبريل ومايو، وكأس العالم والامتحانات أين سنقضي الصيف؟! وكيف؟!
ثانيًا: الإعلام العربي سقط في الامتحان بامتياز فهو كما كان غوغائيا أثناء اشتعال الأزمة ينثر الدماء وينشر العويل على شاشات لم يستطع أن يقدم أفكارا مبتكرة للناس لمناصرة القضية غير اجترار الكلام المكرر من مطالب سياسية ترفضها الأنظمة أو مهرجانات جمع الأموال التي لا يعرف أحد بالضبط أين تذهب؟! وفي يوم وليلة انقلب "عرفات" من رمز للصمود تحت الحصار إلى راع للفساد المطلوب تغييره، وبدلا من المساهمة في جمع الشمل الفلسطيني بفصائله كان اللعب على نقاط الخلاف، ودخل الإعلام العربي في لعبة المزايدات، وبدت القنوات متنافسة في معركة النضال حتى آخر فلسطيني!!
وبدلا من كشف عورات العدو، والثغرات التي تنفتح في أدائه، وتمكين المشاهد من أدوات ومهارات خدمة القضية إعلاميا حيثما هو، وبخاصة في الغرب، تغلبت الدعاية والخطب الرنانة وإحراج هذا النظام لمصلحة ذاك مما ساهم في أن يعاف الناس الأمر برمته!!!
ثالثًا: بلا من تنسيق الجهود والعمليات في الداخل الفلسطيني، والمحيط السياسي والجماهيري العربي والإسلامي بدت كل الأطراف وكأنها تريد تسجيل نقاط لصالحها، وغير مستعدة للتوصل إلى نقاط تقارب ومساحات تقاطع في أداء منسجم داخليا وعربيا ودوليا.
وبدلا من الأسئلة الصحيحة انفجرت ألغام وقضايا مغلوطة عن المقاومة في مقابل التفاوض أو جدوى العلميات الاستشهادية، بل حكمها الفقهي رغم أن الواقع كان قد حسم العديد من هذه التساؤلات بما كان ينبغي معه الاهتمام بجوانب أخرى أهم.
وقد دعوت مرارًا وأكرر أننا جميعًا نحتاج إلى تقييم ومراجعة ما قمنا ونقوم به من أجل أهلنا وأنفسنا؛ لأن فلسطين قد أصبحت بوضوح قضية الجميع، ومن لم يفقه هذا بعد فلن يفيقه إلا الصاروخ الذي سينسف بيته في بغداد أو بنغازي أو القاهرة.. كفانا تضييعا للوقت، وعلينا واجب المراجعة والمصارحة وتصحيح المسار، وتقوية سواعد البذل، وتحسين شروط وبرامج العمل والنضال والدعم.
أختي، لا يتعارض هذا مع أنكم داخل فلسطين بمثابة رأس الحربة، والصف الأمامي في المواجهة، ودوركم أساسي ورئيسي في الانتباه لمؤامرات العدو، وسخافات الأصدقاء، وفهم أسباب وجذور تخبطنا في دعمكم، أما نحن فعلينا الكثير في ميادين إصلاح النفس، والعمل الكثير بالنفس الطويل، والإحكام المطلوب، وإذا كان شارون قد قدم لكم الحزن والألم والغضب فهي ثلاثية قد تؤدي إلى الجنون، ويمكنها أيضا أن تؤدي إلى إنضاج أمة تعرف طريقها نحو النصر، وتدرك أن الصبر والإيمان والتخطيط أسس العمل الناجح.
وبالنسبة لمسألة التعامل مع الأطفال يمكنك مراجعة الارتباطات التالية:
الآثار النفسية للحروب على الأطفال
الدعم النفسي للأطفال ضحايا الحروب
أختي الكريمة، في قلبي كما في قلبك حزن وألم وفي النفس غضب وشجن، وأقول معك مثلما تقولين: لا بأس.. طريق النصر طويل. ولعلك تجدين في كلماتي بعض المواساة، والتوضيح لآفاق لتحسين أسلوب عملنا جميعًا، ولنكن على صلة دائما بنفس الصدق والمصارحة. أعرف أن الملايين تدعو لكم بالليل والنهار، فهل تسمحين لي أن أدخر دعوتي لهذه الأمة أن يبرم الله لها أمر رشد ترى في الحق حقا والباطل باطلا، نحن والله المحتاجون لدعائكم فلا تنسونا منه.