السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعاني من اكتئاب حاد لدرجة عدم قدرتي على مخاطبة أهلي؟ كما أني أدرس في الجامعة التخصص الذي لا أرغب.
22/2/2007
رد المستشار
الابنة العزيزة أهلا وسهلا بك،
وشكرا على برقيتك التي سنرد عليها بخطاب طويل، أولا لأنك من فلسطين الحبيبة، وثانيا لأنني سأعتبرك بمثابة من اشتكت لطبيب نفسي بجملة واحدة هي: (أعاني من اكتئاب حاد لدرجة عدم قدرتي من مخاطبة أهلي)، ووجد الطبيب نفسه بعد ذلك يسألها وهي لا تجيب!
أول الأسئلة هو ماذا تعنين باكتئاب حاد؟ هل الاكتئاب هنا هو الحزن أم الإحباط؟ وهي مشاعر بشرية يمر بها ويخبرها كل بني آدم، أم هو الاكتئاب بمعناه الطبنفسي؟ كما تجدينه مشروحا بدرجات شدته المختلفة في إجابة سابقة لنا على الصفحة هي: متى يجب أخذ عقار للاكتئاب؟
وهل الحدة تعني شدة الإعراض وهو ما يشيع على ألسنة الناس، أم الحدة تعني قصر العمر الزمني للاكتئاب أو للحالة كما يشيع على ألسنة أهل الطب؟ أغلب الظن عندي هو أنك محبطة وحزينة جدا، ولكن ذلك كثيرا ما يحدث؛ لأنك تعانين من مشكلات في التكيف مع وضعك الراهن في تخصصك الجامعي الذي تدرسينه وأنت لا تحبينه، وقد يكون هناك دخل في رأيك لظروف أو آراء وتوجيهات أهلك فيما آل إليه الحال فأصبحت تدرسين ما لا تحبين، كل هذه العوامل جعلتك غاضبة ناقمة وغير قادرة على الشعور بالراحة والهناء، كل هذا لا يشترط يا ابنتي أن يكون اكتئابا.
على أي حال سأعطيك بعض الأفكار عن الاكتئاب فهو -عافاك الله- إحساس يكون فيه الفرد نهبا للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والحبور والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بالآهات والتنهد دون مبررات جسدية أو بيئية وفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي، ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها.
وربما يتصاعد الاكتئاب وذلك الإحساس ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل والنظر للأمور بمنظار قاتم متشائم، إذ يصبح عندئذ كل جهد ممقوتا، وكل طاقات الجسم مفقودة مبعثرة، وكأنها نضبت حتى عن تحفيز الجسم للقيام بأبسط الحركات والنشاطات كالاستحمام، وغسل الفم والأسنان وحتى الابتسام والسلام الضروريين، إذ يشعر الفرد معه عندئذ بحاجة لذرف دموع الحزن والأسى بدون سبب ويود لو أنها تنزلق من مآقيه على الرغم من عدم وجودها.
وأنواع الاكتئاب عديدة، وإن اشتركت كلها في صفة إحساس المريض بعدم القدرة على الاستمتاع بالحياة حتى ما كان يحب منها وعدم اكتراثه بها أو فقدانه الأمل منها، وكذلك في رأي المريض في نفسه وحياته وأفعاله، فالاكتئاب تراجع في الفكر يصل إلى حد أنه يشل الدماغ والخلايا العصبية فيه عن ممارسة دورها السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده لإفراز أنزيماتها الوظيفية المعتادة، مثل مادة الأمينات الأولية والتي تعمل بمثابة الزيوت التي تيسر التفاعلات المتنوعة والمتعددة الخاصة بالانفعال والفرح والحبور والتي تنقص عادة بالمخ في حالات كثيرة ليصاب الإنسان بالاكتئاب.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن فقدان الاهتمام بالعالم أو البيئة المحيطة بما في ذلك أفراد أسرته المقربين مما يؤدي إلى جعل الناس المكتئبين معزولين، ومنسحبين من الاتصالات المهنية والاجتماعية، وأكثر عرضة لاجترار الأفكار الاكتئابية.
ومن الناحية المعرفية فإن الاكتئاب يخل بالقدرة على التركيز وحصر التركيز في ناحية معينة (أو القدرة على مواصلة الانتباه لمثير ما)، كما أنه يمكن في حالاته الشديدة أن يؤثر على قدرة المريض على الاستدلال المنطقي، فيقفز المكتئب إلى استنتاجات (من حدث أو مجموعة أحداث) غير مؤكدة بالنسبة لأي عاقل (وبالنسبة للشخص نفسه لولا اكتئابه) ويراها حقائق لا تقبل الجدل، ورغم عدم منطقية مثل تلك الاستنتاجات فإنه أيضا يعمم تلك الاستنتاجات على كل شيء في حياته رغم عدم منطقية التعميم، وبعض المرضى يبدأ في التذكر الانتقائي حين ينظر إلى حياته الماضية فلا يتذكر منها إلا كل ما يعضد استنتاجه الخاطئ أصلا! كما يشكو المصابون بالاكتئاب من ضعف في الذاكرة في كثير من الأحيان، كما أن أفكارهم المثمرة تستبدل غالبا بتأملات متكررة في الأعراض البدنية، والمرض، والموت.
إلا أن هناك فارقا بيّـنًا كما ذكرت لك من قبل بين استخدام الناس لكلمة حاد واستخدام الأطباء لها، فبينما تقصدين أنت شدة ما تشعرين به وقت الوصف، يفكر الأطباء في الزمن الذي استمرت وامتدت خلاله الأعراض؛ لأنها بعد مدة معينة فقط تصبح مزمنة، فما رأيك أولا في أن الاكتئاب لا يشخص أصلا كاكتئاب جسيم أي مرض نفسي إلا بعد مضي أسبوعين متصلين على الأقل من بقائك على الأعراض التي كلمتِك عنها منذ قليل، وتجدينها مرتبة ومدرجة في إجابة متى يجب أخذ عقار للاكتئاب؟، وأما متوسط عمر النوبة دون علاج فهو ما بين الستة إلى تسعة أشهر، وكل هذا يدخل تحت تسمية الاكتئاب "الحاد" بدرجاته المختلفة في الطب النفسي، فمتى إذن يكون الاكتئاب مزمنا؟
الحقيقة أن الاكتئاب المزمن غالبا ما يكون من النوع الخفيف أو المتوسط الشدة فهذا اكتئاب يعيش به الناس بين الناس، -لكنهم طبعا يقدرون على مخاطبة ذويهم بل وكل العالم-، وغالبا ما ينتج إما عن نقص دراية من الشخص ومن حوله بأنه مريض يمكن علاجه، أو هو نتيجة علاج منقوص، أو ربما يكون الاكتئاب تعبيرا عن شكل آخر من أشكال اضطرابات المزاج الطويلة العمر أصلا مثل عسر المزاج، وسأحيلك على ما تفهمين منه معنى عسر المزاج، المهم أننا في حالتك أنت يجب أن نعرف قبل أي كلام من قال لك إنها حالة اكتئاب حاد هل هو طبيب نفسي مثلا أم أنت نفسك أم من؟ وهو ما يعني أننا قد نتوقع أكثر من احتمال، فخففي عنا المعاناة بالمتابعة بالتفاصيل.
وعلى أغلب الظن أنا لا أظن حالتك اكتئابا، فهناك ما نسميه باضطراب التأقلم Adjustment Disorder، وأعراضه غالبا ما تمثل خلطة ما من القلق والاكتئاب Mixed Anxiety Depression، والمشكلة التشخيصية هنا ترتبط بالمسافة الزمنية التي لم توضحها إفادتك لنا؛ لأنه إذا كانت المسافة الزمنية بين دخولك مجال الدراسة التي لا تحبينها، وما تتحدثين عنه من أعراض أقل من ستة أشهر فإننا نكون في مجال اضطراب التأقلم ذي الأعراض المختلطة Adjustment Disorder with Mixed Emotions، فإذا كان الأمر قد زادت مدته عن ستة أشهر فإن العرض على طبيب نفسي هو ما أنصحك به، لأن احتمال الاكتئاب أو عسر المزاج أو غيرهما ساعتها قد يكون قائما، وأنصحك بأن تقرئي الروابط التالية من على موقع مجانين:
الانطواء.. وعسر المزاج
الاكتئاب المتبقي أم العلاج المنقوص؟ متابعة
أتمنى أن أكون قد وفقت في تحديد نوعية المعاناة، رغم قلة كلمات برقيتك، وأنا في انتظار متابعتك، فلا تطيلي انتظارنا.