حصاد الالتزام: اكتئاب وعزلة وانهيار تام؟
السلام عليكم،
مشكلتي مشكلة نفسية أتعبتني كثيراً وكانت سبباً رئيسياً في عدة اضطرابات وتغيّرات نفسية أثّرت على حياتي الشخصية والعامة، وهي:
نشأت في أسرة ليست متدينة، وأقصد هنا عائلة أبي، حيث كنت الطفلة المدللة والمحبوبة من طرف الجميع، وبالطبع تربيت على ملابس العريّ وانطبعت على سماع الموسيقى و... إلخ. بعد فترة تديّنت أمي وانقلبت حياتنا رأساً على عقب؛ فلم تتقبل عائلة أبي الوضع وبدأت هجومها و... بالطبع بدأت أمي في محاولات إقناعي بلبس الحجاب وكنت حينها أبلغ ثلاثة عشرة سنة أي متمسكة كثيراً بأمي، فرضخت لأمرها وارتديته راعية لكل شروطه، فبالطبع ألبستني لباساً كبيراً على سني وفرضت عليّ عدم السلام على كل من أرتدي أمامه الحجاب -وخاصة أبناء عمومتي- وعدم مشاهدة التلفاز وسماع الموسيقى.
لكن لن تتخيلوا الإهانات التي تلقيتها من عائلتي؛ هجوم مرعب وجارح، بعدما كنت الطفلة المحببة أصبح الجميع يهرب مني حتى أبناء عمي، لا أسمع أي كلمة منهم إلا الإهانات والنقد السلبي لطريقة لبسي، كنت أهان أمام الجميع ولا أرى أي دفاع من طرف أبي فيلتزم الصمت لأنه لا يقدر على فرض رأيه بسبب الفروقات المادية.
كنت أنا الضحية لكل هذا الالتزام، الصمت والبكاء. ومع ذلك استمريت في تشددي لمدة عامين دون إدراك لأية عواقب، إلا عند دخولي إلى مرحلة المراهقة والإحساس بالذات؛
فأولاً، بدأت أرى الحياة من جانب آخر، أحسست بالفرق بيني وبين بنات عمي وبنات خالاتي، أراهن متمتعات بحياتهن وغير محرومات وأرى نفسي الوحيدة في عائلتي التي تعاني.
ثانياً، بدأ ظهور آثار الانتقادات والإهانات التي تلقيتها من عائلتي وهروب الجميع مني، بالرغم من أنني جميلة جداً والكل مهتم بي: صديقاتي، أساتذتي... إلا أن العقدة التي تسببت فيها أمي وعائلة أبي جعلتني دائماً أشعر بالنقص والرغبة بأن أكون كما أريد، وهذا الإحساس جعلني أبتعد من الناس وأفضّل العزلة وعدم الرغبة في الخروج والسفر لئلا أرى بنات جيلي. وتدريجياً أصبح عندي نفور تام من كل أشكال الالتزام لكي أتقرب ولو قليلاً من عائلتي؛ أصبحت أخرج من تشددي بطريقة غريبة رغم انتقادات أمي لي وكلامها الجارح الذي أشعرني بمجرد أنني خففت قليلاً أن الله لم يعد يحبني فيئست، عندها تركت صلاتي ورفضت أي تدخلات في حياتي أو محاولات للكلام عن الدين أمامي، ورغم ذلك بقيت عائلتي كما هي ما دمت لابسة للحجاب.
اجتمع إحساسي بالنقص وكلمات أمي الجارحة وإهانات عائلتي لي الذي أدى بي في النهاية إلى اكتئاب وعزلة وانهيار تام، ولا أعرف كيف الخروج من هذه المشكلة النفسية؟! لدرجة أنني أحلم بفتيات في زينة جميلة وأقوم أبكي من النوم.
أرجوكم ساعدوني أنا أضيع،
أرجوكم.
18/08/2009
رد المستشار
وعليكم السلام أختي "غيثة"،
إن ما تعانين منه من آثار نفسية ناتج عن الصراع بين ما فُرض عليك فعله وبين ما تقتنعين به فعلاً، ولتتخلصي مما أنت فيه عليك أن تحققي السلم بين ظاهرك وباطنك.
وهناك عدة أمور أمرنا الله تعالى أن نراعيها عند التزامنا بالشرع حتى نضمن هذا السلام خلال مسيرتنا في تطبيقه، وإلا وقعنا في الصراع لا محالة! فالله عزّ وجلّ أمرنا بالأحكام لنرتاح لا لنعاني ونمرض، فإن حصل شيء من هذا علمنا أن هناك خطأ ما في مسيرتنا الإيمانية ولا ريب.
- فأول شيء يجب أن نراعيه: أن نأخذ الأحكام من الناس المعروفين بالعلم والتقوى، وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله ينصح من يطلب علوم الشريعة فيقول: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم). فالذي يأخذ الدين من غير طريق هؤلاء سيقع ضحية المعلومات المغلوطة عن الدين الإسلامي، وهذا يوصله إلى أحد أمرين:
* إما أن يرى الإسلام من منظار تلك المعلومات المغلوطة فيكرهه لأنه لا يناسب العقل ولا يناسب الواقع، ويرفض بعد ذلك سماع أي شيء يتعلق بالدين لأنه قد كوّن فكرة مسبقة عنه بأنه غير جيد، تماماً كالذي أحضر له فتات من الخبز المحروق وقيل له: هذا هو اللحم المشوي، فلما ذاقه وجده غير لذيذ ولا مستساغ...، فجاءه أحدهم بعد أيام وقال له: هل تأكل اللحم المشوي؟ فأعرض وقال: أنا لا أحبه! هو غير لذيذ بالمرة! ولا أدري كيف تحبونه؟!.
* وإما أن يعيش صراعاً مريراً، فلا هو يستطيع ترك الدين لأنه يعلم أن الدين شيء عظيم وأن الله سيعاقبه إن أعرض ولا هو يستطيع التطبيق لأنه غير مقتنع بما يقال... فإما أن يرفض الدين ليرتاح ولكن بطريقة غير مباشرة، وإما أن يرفض عقله ليرضي ضميره فيغدو كالدمية بين يدي من يأخذ دينه عنهم يحركونه كيف شاؤوا في الحق والباطل، دون أن يكون له نصيب في بناء ذاته، أو بناء مجتمعه وتصحيح ما فيه.
- وأما الشيء الثاني: فهو ألا نقدم على الأعمال إلا عن قرار عقلي، بمعنى أننا نعرض الفعل على العقل أولاً، فنعرف مصدره ونعرف عظمة الآمر وصدقه، ونتبين محاسنه والثواب على فعله في الدنيا والآخرة، ونعلم عقوبة الترك وعواقبه في الدنيا والآخرة أيضاً. فإذا صدّق العقل واقتنع، وركنت النفس إلى ما صدّق به العقل واطمأنت إليه، اندفعت من غير تردد للتطبيق وتشبثت بما آمنت به فلا يمكن لحد أن يصدها عن مرادها لا بترغيب ولا بترهيب، ذلك أن العقل هو الذي يحرك الأفعال لا العكس.
وبهذه الطريقة ربّى الله عزّ وجلّ المسلمين الأوائل ليعلمنا كيف نتصرف، فقد خاطب عقولهم أولاً، وقوى إيمانهم ورغبهم ورهبهم، ثم بعد ذلك أنزل الأحكام... قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: ((...... إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ [أي القرآن] سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ [رجعوا إليه وتمسكوا به] نَزَلَ الْحَلاَلُ وَالْحَرَامُ. وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيءٍ لاَ تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا. وَلَوْ نَزَلَ لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: ((بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)). وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلاَّ وَأَنَا عِنْدَهُ [يعني في المدينة، والسورتان تشتملان على كثير من الأحكام]...)). [البخاري: فضائل القرآن/ باب تأليف القرآن].
ومصير الذي يطبق الأحكام بالإكراه أو تقليداً دون أساس عقلي: أن يصبح إسلامه قشوراً، وإيمانه ضعيفاً، فيتركه ولو جزئياً عند أدنى فرصة!.
- والشيء الثالث: أن نراعي طبيعة النفس عند التطبيق فنكلفها بالأحكام شيئاً فشيئاً وبالتدريج، وإن أبدت في أول أمرها نشاطاً وجداً، لأننا إن لم نفعل ذلك –مع أنفسنا أو مع غيرنا عند دعوته- سرعان ما تستثقل النفس ما تحمله فتمل منه وترميه. فكما أن الرياضي يدرب جسمه شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى المطلوب، فكذلك المربي –لنفسه أو لغيره- عليه أن يدرب نفسه شيئاً فشيئاً على الطاعات وترك المنكرات حتى يصل إلى المطلوب.
فإذا التزم الإنسان هذه الأمور الثلاثة في مسيرته الإيمانية، خرج قوي الإيمان متمسكاً بمبادئه لا يستطيع أحد أن يثنيه عن مراده لا بالترهيب ولا بالترغيب، بل هو الذي يقنع غيره ويدعوه إلى الالتزام بقوة إيمانه وثباته وحسن سلوكه.
ولعلك -يا أخيّتي- وقعت ضحيةَ فَقْدِ أحد هذه الأمور الثلاثة أو أكثر، فأنت قفزت من واقعك القديم إلى التدين والالتزام، دون أن يكون لقفزتك هذه أساس قوي كافٍ من العقل والمشاعر الإيمانية التي تعين على التطبيق من غير مشقة أو كلل، لهذا لم تستشعري فائدة الحجاب ووجدته قيداً ثقيلاً، ولهذا تأثرت بما يقال لك، فأنت في داخلك مقتنعة بهذه الأقوال لا بالتزامك، ومشاعرك ما زالت مغرمة بالتزين والأجواء القديمة، وأنت الآن تحنين إليها فترينها في النوم... ولكنك مع هذا تملكين شعوراً طيباً نحو التدين عموماً، فلا يمكنك رفضه، إضافة إلى أوامر أمك التي انتبهت أنك لا تملكين دليلاً كافياً عليها بعد أن كبرت ونضج عقلك.
والمفروض أن يربي الوالدان أبناءهما من خلال اتباع هذه الأسس الثلاثة، ولكن كثيراً من الآباء الذين يتدينون ويتألمون لواقعهم القديم، ويشعرون بعظم أخطائهم الماضية، يريدون من أبنائهم أن يصلحوا في خمسة دقائق ما توصلوا هم إلى إصلاحه بعد سنين، وذلك من باب الشفقة عليهم، وخوفاً منهم أن يذوق أبناءهم ما ذاقوه من ألم المعصية ومرارة الندم، لهذا قد يكون لديهم بعض العذر في مخالفة أسس التربية، ولكنها على كل حال تظل مخالفة!.
كذلك فإن الوالدين في كثير من الأحيان لا ينتبهان إلى سن أبنائهم وما تقتضيه هذه السن من المعاملة، فالصغير الذي لم يكتمل عقله، يمكن إجباره وتهديده، أما الذي اكتمل عقله فالخطاب الموجه إلى عقله هو مفتاحه الأول، فإن عومل بالإكراه والتهديد قبل الدخول إلى عقله، كان في أحسن أحواله مطيعاً أمام والديه، عاصياً في غيابهما.
بعد هذه المقدمة الطويلة: كيف السبيل إلى خلق السلام الداخلي لديك دون أن تعصي الله عزّ وجلّ؟
اعلمي قبل كل شيء أن نفورك من التدين ليس بسبب منه، وإنما لخلل وقع أثناء إيصاله إليك، لهذا فالحل بالتأكيد لن يكون بترك الالتزام والتدين بل بتصحيح المسار نحوه، فلنشطب حل الرجوع إلى واقعك القديم في العري واستماع الأغاني وغير ذلك، ولنبحث عن حل يجعلك تتركين ذلك الواقع وأنت غير آسفة وتتمسكين بالدين وأنت فخورة بذلك، كما تفعل كثير من الغربيات اللواتي ينالهن أشد الإيذاء بسبب إسلامهن فيبقين ثابتات فخورات بما نالهن من الأذى في سبيل الله!.
وأنا –بسبب طريقة التواصل بيننا- لا يمكنني من خلال هذه الشبكة ومن خلال رسالتك هذه أن أحل لك جميع مشكلاتك، أو أغير من قناعاتك التغيير الكافي لحصول راحتك النفسية، ولكن أنصحك:
- بأن تجدي الرفقة والبيئة الصالحة التي تلتزم الشريعة دون إفراط أو تفريط والتي تجعلك تفتخرين بنفسك وبالتزامك بينها، والتي تشجعك على الخير، وبهذا لن تعودي بحاجة لسماع كلمات المديح والإعجاب من عائلتك مقابل ترك دينك، بل وستنقلب الموازين عندك: فترين بنات عمك وبنات عماتك هن اللواتي حرمن أحلى ما في هذه الدنيا، وأنت التي حزت كل شيء في الدنيا والآخرة! ولن تشعري بالخزي تجاه انتقاداتهن ولن تعتزلي الناس، بل ستفخرين بما تنالينه في سبيل الله وستسيرين رافعة الرأس بين الجميع، ناظرة نظرة إشفاق إلى الذين غابت عنهم الحقائق التي تعرفينها. هذه مشاعر حقيقية تعيشها الكثيرات فلا تفرطي في الحصول عليها، وقد كانت أجمل ما عندي عندما كنت في سنك! أنت التي فضلك الله تعالى على بنات جيلك واصطفاك، فكيف تشعرين بالخزي بينهم؟! فالله إذن يحبك! فكيف تعتقدين العكس؟! هو يريدك وأنت تهربين؟ هو اصطفاك من بين أترابك الشاردات، وأنت تحزنين؟! عجيب أمرك! عندك الكنوز ولا ترينها!.
لكي تستطيعي رؤيتها: عودي أخيتي -أيضاً- إلى ما أمرتك به أمك فتعرفي على أحكامه مرة أخرى، وعلى أدلته، وحاولي إيجاد قناعة عقلية لما تفعلينه، ثم حولي القناعة إلى مشاعر من خلال تعاونك مع صديقاتك الملتزمات، وقراءة سير الصالحين والصالحات، وأعطي نفسك حقها من التزين كي ترتاح فإن القلوب إذا كلّت عميت! ولكن دون أن تعصي الله عزّ وجلّ: فتزيني في البيت، وفي المناسبات والاجتماعات العائلية وسائر الزيارات غير المختلطة، ولا بأس بالكلام مع أبناء أعمامك في حدود الأدب وبالقدر الذي تصلين به رحمك، فتسألينهم عن صحتهم وأحوالهم وتهنئينهم في أفراحهم، وتعزينهم في أتراحهم دون أن تجاريهم في معاصيهم، وإن سمعت منهم أذى أو استهزاء فهذا لقلة معرفتهم، ولك فيه جزيل الثواب. واصبري فسيتغير كل شيء بمرور الزمن، فقد نال الصحابة أكثر من ذلك من الاستهزاء والعذاب ثم كانوا هم سادة الدنيا وخضع لهم هؤلاء الذين كانوا يستهزؤون بهم! فحاذري أن تبيعي دينك من أجل كلام الناس ونيل رضاهم، فلن يرضوا عنك حتى تتركي ما أنت فيه، وإن كانوا كذلك فلا أرضاهم الله! ومن هم حتى يتحكموا بك ويرغموك على مرادهم بكلامهم وتهديداتهم؟ كذلك حاذري -أيضاً- أن تتديني من أجل الناس، بل اطلبي رضى الله في كل أحوالك.
أرجو أن أكون قد أعطيتك بعض مفاتيح الفرج مما أنت فيه، فحاولي استخدام تلك المفاتيح وستوصلك هي إلى غيرها، ولكنها مسيرة طويلة فالنفس لا تتغير في يوم وليلة كما شرحت لك.
خفف الله عنك، وأخذ بيدك، وأنار قلبك بأنوار معرفته.
وتابعينا بأخبارك وأحوالك.
ويتبع>>>>>>>>: حصاد الالتزام: اكتئاب وعزلة وانهيار تام؟ مشاركة