على هامش قضية العنف المدرسي
العلاقة بين المعلم المتعلم.. وليّ الأمر والمؤسسة التعليمية
يقضي أولادنا ما يقرب من 5 -7 ساعات يومياً عشرة أشهر، المعلم وولي الأمر نفسه مّر بالتجربة المدرسية بحلوها ومرها، وكل منا له مدرسة المفضل الذي حرك فيه طموحاً، أخرج موهبة وربت على الظهر، والذي أهانه لدرجة أن الكبار يتعلثمون في المواقف الحساسة في العمل والشارع، بذكرى مطالبتهم بالقراءة وهم غير جاهزين، بل وهم يرتمون على أريكة فرويد، يبكون لأثر عصا أو لطمة على الوجه لسماع صدى بذاءة أو إهانة بسبب أو بدون.
العلاقة الإيجابية بين المعلم والمتعلم يجب أن ندركها، عندما كنت في مدينة "Cirencester" بجنوب بريطانيا قد عقدنا مؤتمرناً وورش عمل لأيام ثلاثة عن (من يُعلِّم المُعلِّم).. من يطوره ويرعاه ويربت على ظهره، خاصةًً إذا كان عازباً غضاً شاباً قليل التجربة. إن الإيجابية في عملية التعليم لا بد وأن ترتكز على العملية التربوية، وعلى التربية التي غابت عن البيت وعن المدرسة.
تعنى الإيجابية في لُبِّها الحيوي دعوة الأولاد إلى التعليم، بث الرغبة في المعرفة في صدورهم، عوضاً عن الأداء واجتياز الامتحان والواجب، تحمل العقاب وذنب الرسوب.
العملية ككل لا بد وأن تتم من قبل الجانبين فلا المدرس موظف ولا التلميذ مؤدي لواجب ثقيل، وإنما هي ثنائية رائعة ضمن معزوفة لا تعزِف الآن في جلَّ أحوالها سوى النشاز.
المعلم والمتعلم في غرفة الدرس لا بد وأن يحترم كلاً منهما الآخر ولا بد من احترام العلم بزمانه ومكانه وظروفه دون خوف.
لابد أن يحب المعلم علمه ومهنته المقدسة، وأن يحب نفسه وحياته، لأن الساخط الغاضب لا يمكن أن يعلم أحداً، ولأن المكتئب يشيع بظله القاتم على الأقلام والكراسات وصفحات الكتب.
إن التلميذ الخائف المرتعد لا يتعلم.. لكنه يظل قابعاً حبيس قفصه في انتظار انتهاء اليوم الدراسي ونهاية العام، ونهاية حياته بتوقف قلب مغرد عن النبض أو إثر ضرب أو ضربة في البطن تهتك الأحشاء وتخلع من الوطن إحساسه بالانتماء والأمان.
لنا أن ندرك بديهيات أن الطلاب مختلفون في طبائعهم فهناك من يلتقط العلم ويدركه ويدركه ويحققه ويتحقق فيه دون مشاكل وبسرعة.. وهناك من يجد صعوبة أو يتعثر أو يحتاج إلى أسلوب خاص به وبمجموعته، بمعنى تطويع المنهج وطريقة التدريس وأسلوب التعامل، مما يسمح بمرونة بين المعلم والمتعلم في إطار عملية التعليم، ويسمح كذلك بلدونة في نقل المعلومة وتحقيق أفضل فائدة منها بصرف النظر عن المجموع وعن الترتيب الأول فحسب، وعن السعي إليه ببصيرة عمياء أو بالتوسل والإرهاق دون تمييز للوصول إلى المائة في المائة التي لا تعنى شيئاً على الإطلاق في مجتمع المعلومات والبحث المكدود إلى المعرفة المجهولة.
بالطبع هناك هؤلاء التلاميذ الأشقياء الذين يذهبون إلى المدرسة للفسحة واللهو والعبث والسخرية من المؤسسة التعليمية برمزها الماثل أمامهم "المدرس".. هنا يستحيل التعليم دون تواصل ناعم وحقيقي بين أطرافه، ولكن كيف بحق نخلق بيئة تعليمية صحية وصحيحة وواقعية في ضوء ظروفنا المجتمعية الاقتصادية والسياسية الراهنة.
لنا أن نعلم أن مدرسة المشاغبين تتكون من فصول فقيرة النظام والتنظيم، وأيضاً في فصول ينعدم فيها الحب والرغبة في التعليم، وتلك ذات الروتين والملل بدون تدريبات ذهنية أو حوارات مثمرة، وأيضاً تلك التي تنعدم فيها حيوية العقل ويحلّ محلّها الحفظ والصّم والتلقين بلا إبداع أو ابتكار.
من المهم جداً أن ينتبه المدرس لتلاميذه فيدرك من الخائف ومن الحزين ومن اللعبى.. من المشغول ومن الكسلان من المشوش؛ فإذا كانت هناك مشكلة كصعوبة التعلم ـ مثلاً ـ عمل على حلّها مع أولى الأمر وإدارة المدرسة، فلربما احتاج هذا الجمع من الطلاب مدرساً صبره أطول ونفسه أعمق، أو مدرسة يُحس معه الطفل معها بأنه آمن ومرتاح.
إن التواصل بين المدرس والتلميذ يوصل فيما بينهما ويوفر المناخ اللازم والملائم لبيئة درس مناسبة لعملية التربية والتعليم بكل نواحيها.
يدلّنا البحث العلمي على أن التحصيل الدراسي، عملية مرتبطة في أساسها بنوعية العلاقة بين المعلم والمتعلم فكلما زاد ارتباط المعلم بالمتعلم وتواصل معه كلما زادت فرص تحقيق أكبر قدر من التعلم بسرعة.
يحتاج المدرس إلى أن يفهم أن تلاميذه يأتون من قماشات اجتماعية وثقافية مختلفة، ومن ثم تختلف درجات التفهم والوعي والإدراك لديهم، وكذلك السلوك والقدرة على تحقيق الذات داخل الفصل، إذن فلابد أن يُدَّرب المعلم ويُهيَّئ لفهم رحب متسع وعميق لطلابه قدر الإمكان.
في بحث هام لـ David Thomas تحت عنوان (عقل الإنسان) أن هؤلاء الأطفال والمراهقين الذين نصرخ في وجوههم ليل نهار، ينهارون من تقطيب الجباه في مُحيَّاهم ومن الصراخ في وجوههم، مما يولد لديهم موانع للفهم؛ فالصراخ والشتيمة والهُزء والتحقير ليس الحل للطالب المشاغب أو النائم أو المرهق أو البليد، لكن السهل هو رد الفعل الانفعالي والتلقائي بزعيق المدرس وشتيمته وفقدانه لأعصابه.
في المقابل فإن المعلم الذي يظهر احترامه لطلابه يحصد حُبهم تلقائياً، أما المدرس العنجهي (المفتقد لأدب الحوار)؛ فسيخسر كل المقومات الإيجابية، وسينفرط العقد في يديه ولن يتمكن من التحكم في فصله، وربما ناله من رد الفعل التلقائي العصبي نصيباًً من طلابه سخرية وعدم احترام وعدم تحصيل وعدم التزام، هنا لابد من المعادلة الصعبة لتحقيق مزيج من الدفء الإنساني والصرامة في آنٍ واحد تجاه الأولاد في الفصل كل ٍ في حدود المعقول.
كذلك ما نجده في معظم مدارسنا ـ للأسف - أن المدرس لا يصحح التلميذ المخطئ أو الذي يتلفظ بالسوء، لكنه يعاقبه ويوبخه، بل ربما يشتمه بنفس الأخطاء ولكنه يضع المثل والمثال واضحاً لكي يُحتذى في طريقة التعامل بين الناس عموماً، بل وأحياناً يُخيَّل للبعض أن ثمة لعبة سخيفة مسلية يتبادل فيها الطلاب السخرية والفتونة على بعضهم البعض دون تدخل من المدرس الذيـ ربما عمداً أو دون قصد ـ يشارك في تلك اللعبة القذرة إمعاناً في تعميق العلاقات الشائهة بين الأقران.
أما هؤلاء الأطفال ضحايا العنف اللفظي والبدني من قبل زملائهم ومدرسيهم وذويهم؛ فيتعثرون دراسياً، بل وفي بعض المواقف بالغة الشدة يكرهون أنفسهم مما يؤثر عليهم لحظياً ولاحقاً في رحلة معاناة مستمرة من الكرب والاكتئاب وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين، فقدان الثقة بالنفس بل والرهاب الاجتماعي والعزوف عن التجمعات وتجنب الآخرين مما يخلق لهم مشاكل زوجية وعملية.
إن الخطأ الجسيم الذي يرتكبه بعض مدرسينا هو تسمية بعض الأولاد المتعثرين دراسياً أو الأشقياء بنعوت مثل (الغبي، الحمار، وما هو أسوأ منها).. نعوت تدخل إلى أعماق أنفسهم تدمر إحساسهم بأنفسهم، وتدمر اعتبارهم الذاتي، لذلك يلزم الأمر احترام الأطراف كلها لبعضها (الطالب ـ المدرس ـ وولي الأمر).
وقد يجد التلميذ الدرس مملاً والمدرس منفراً، ومن ثم قد يسلك سلوكاً مشيناً، وقد يكون ذلك مقابلاً للمدرس الضعيف، المدرس الطيب الهادئ المستكين، الذي (يطنش) والذي يؤدى سلوكه هذا إلى تمادي الطلاب في غيّهم وإدراكهم أن كل ما هو مُتاح مسموح به وحقٌ لهم، هنا لابد من وقفة وتصحيح ولابد للمدرس من مشرف عليه وأن تسمعه بل وإدارة تسمح له بالبوح والفضفضة.XXXX
التعليم عملية ذهنية لا يمكن فرضها قهراً لابد من الراحة والاستقبال الهادئ لها، لابد من حبها، وانتظارها من أجل ذاتها فقط، وليس من أجل المجموع وإرضاء الأهل وغيظ الأقارب والخلان والجيران.
إن ما يثيرنا للمعرفة هو ما يدعونا للتعلم، وإلى تطبيق ذلك على شئون الحياة الدنيا.
تلاميذ المرحلة الابتدائية هم الأكثر حاجة إلى البوح بمشاكلهم ومخاوفهم، ومن حقهم علينا أن يكون هناك من يحس بهم ويراهم (كبني آدميين) وليس (كأشياء) أو (شوية عيال مالهمش لازمة).
يشعر الطفل بالفخر والتقدير إذا ما دعاه المدرس إلى المشاركة والإدلاء برأي في جو (ديمقراطي)، لأن المدرس الديكتاتور المتسلط المخيف يكتم الأنفاس ويخنق الصدور، وفي المقابل لا بد وأن يتحقق التوازن بين الحرية، الديمقراطية، والانضباط الشامل.
عندما يُدرس المدرس فهو يشكل عقولاً وينظم أدمغة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتبادل الرأي والمعرفة بين المُعلم والمُتعلِّم (حتى لا تكون المسألة سؤال وجواب.. صح وغلط) لكن مناقشة حرة وحيوية تثرى كل الأطراف.
إن التفاعل البناء بين المعلم وتلاميذه خلال العام الدراسي أمرٌ في غاية الأهمية لتأسيس علاقة ناجحة بين المدرس وتلاميذه خلال العام الدراسي ككل، كما أن العلاقة الحميمة بين الطرفين تساعد الطفل الخجول وتعالجه، تنزع الخوف عن الخائف وتتيح لمن لديه مشكلات في التعبير، التحدث أمام الآخرين، وتتيح فرصة للتدريب التدريجي والمواجهة المحسوبة الناجحة مما يدعم شخصية الطفل ويحفظ لها عافيتها.
أما هؤلاء المُعلمين التقليديين المبرمجين الكلاسكيين المُطبقين المنهج بحذافيره، يمنعون الإبداع، وسيخرجون طلاباً فاقدين لمتعة القراءة، باحثين عن (الزُبد والبهاريز) عن (الكبسولة) (الملخص) وإجابات الأسئلة التي (يمكن أو حتماً) سيجيء بها الامتحان.
هنا تصبح العملية التعليمية فاقدة للتشويق، بل ومدعاة للتشوش وصعوبة التعلم.
الطالب المُهدَّد الفاقد لبعض السواء في سلوكه، يحتاج إلى يد تساعده لا لتلطمه، يحتاج إلى ربتة على الظهر لا إلى ركلة في البطن.
لابد وأن نركز على كل أمور الحياة الدنيا لا عن الكتاب فحسب، لابد من التفاعل مع حال الناس والمجتمع (ولنل في الطالبة آلاء خير مثال).. لا بد للمدرس من البحث الدائم عن الجديد والمهم والجاذب للانتباه له ولطلابه.
لكن كيف يمكن للمدرس أن يتوصل إلى علاقة مع تلاميذه تُمكنه من تعليمهم فعلاًَ.. لا بد وأن يفهم نفسية طلابه وشخصياتهم خاصة في السنوات الأولى من عمرهم (المرحلة الابتدائية).. ولابد في تلك المرحلة من إتاحة حرية اللعب واضفاء جو من المرح على المدرسة وتشجيع التواصل الإيجابي وتبادل الاحترام، هنا سيبحث الطالب عن العلم ولن يشربه كالعلقم في معلقة دواء أو صحن حنظل.. هنا سيبحث عما يريده وسيقترب من أهدافه.. إذا تحققت كل تلك الرؤى والأحلام لا (التي ليست مستحيلة).. وهنا فعلاً ستبدأ مصر طريق التقدم الحقيقي.
واقرأ أيضاً :
الشباب العربي وملامح ثورة جديدة / الحالة النفسي سياسية