كنت هناك في باريس عام1969 حين اتخذ أو اقترح ديجول إجراء لا أذكره فقامت المظاهرات في الحي اللاتيني, المعروف بشبابه وفنونه ويساريته وإبداعه, تعلن اعتراضها, وإذا بديجول يظهر علي شاشة التليفزيون التي كادت لا تتسع لطول قامته, ويدعو من يؤيده إلى التجمع في ميدان الإتوال, وفي خلال ساعات, يندفع الناس إلى هناك فتقوم طائرات الهليكوبتر بتصوير وبث كل من المظاهرات المؤيدة حول الإتوال, ثم المظاهرات المتجمعة في الحي اللاتيني بالتناوب, فترجح كفة ديجول معلنة نوعا جديدا من الديمقراطية المباشرة, فيستمر ديجول بضعة أشهر, ثم يستقيل بعد حركة في الاتجاه العكسي.
ببساطة: إن النظام الأصلح هو النظام الأقدر على تصحيح نفسه, وليس النظام الحسن بما هو كذلك, إن ميزة الحضارة الغربية (الشمالية) ليس في أنها أرقى الحضارات وأصحها أو أنبلها, وإنما في أنها تملك في عمق تكوينها آلية نقد فاعلة قد تصحح مسارها, أغلب الذين ينقدون الديمقراطية الغربية ويبحثون عن مستوى أقدر وأكثر فاعلية وعدلا واستقلالا عن ألعاب السلطة وجرائم المافيا, يخرجون من عباءة نفس الحضارة التي يقومون بتعريتها ومراجعتها دون أن يتخلوا عنها, لا يوجد مفكر عاقل عبر العالم, بالذات في العالم الغربي, لا يعرف عبث وزيف وهشاشة ما يسمي الديمقراطية بالإنابة بدائل هذا النوع من الديمقراطية ليست بالقطع الحكم الشمولي حتى لو كان على رأسه من يسمي المستبد العادل.
يطرح مفكرو المعلوماتية والشفافية والتواصلية بدائل عملية واقعية لأنواع أخرى من تنظيم المشاركة في اتخاذ القرار, ومراجعته, هو نظام أقرب إلى الديمقراطية المباشرة إلى مستويات متصاعدة, بحيث يسمح بعد إزاحة المركزية الجاثمة المشبوهة بأن يقوم كل أفراد مجموعة نوعية بالمشاركة في اتخاذ قرارات تخصها في مسألة بذاتها, وفي نفس الوقت أن تشارك المجموعة ككل غيرها من مجموعات أعلى وأعقد في شبكية نشطة, مرنة وعادلة ومبدعة, متصاعدة ذاهبة راجعة طول الوقت (وهذا ما تسمح به التكنولوجيا الأحدث).
على مستوى الفعل السياسي العام لم ينتظر الناس, عامة الناس, فراحوا يمارسون ديمقراطيات أخرى صغيرة متباعدة ضامة في آن من أول قياسات الرأي العام حتى مواقع النت المتكاثرة, بسلبياتها وإيجابياتها, إلى أن ظهرت مؤخرا ديمقراطية واعدة منذرة معا, وملونة (برتقالية, قرنفلية.. الخ). ظهرت لتمارس ضغطا حقيقيا قادرا على تصحيح سريع لانحراف أكيد, إن ما حدث في أوكرانيا ثم في قرغيزستان ليس بعيدا عما حدث في لبنان في الاتجاهين الواحد تلو الآخر, ثم سرعان ما انتشرت العدوى وراحت موجات البشر تملأ الشوارع وتتزايد تحت رعاية الفضائيات. صحيح أن الخوف من استغلال اندفاعات القطيع قائم حيث لا يمكن التيقن ممن وراء اللعب بغرائز المجاميع بشكل علني أو خفي, لكنه صحيح أيضا أن المحاولات مستمرة وأن التصحيح ممكن فقط بضمان ألا تفرض أية سلطة مركزية وصايتها علي الآن أو المستقبل بما يحول دون النقد المتجدد, فالتغيير الحتمي باستمرار.
للأمانة, أنا لست من أنصار الديمقراطية بصورتها المعروضة من واقع معرفتي بألعاب شركات الأدوية العملاقة وتربيطاتها مع مجالس إدارة الجمعيات ومجالس تحرير المجلات العلمية لحساب أسواقهم ومنتجاتهم على حساب المرضي, حتى صار كثير من العلماء والأطباء أشبه بوكلاء الشركات أو مندوبي المبيعات (دون أن يدروا غالبا) فما بالك في السياسة والمرشحون يشترون أصوات الناس الانتخابية بوعود وهمية بشاليهات في القرى السياحية, أو قصور في الجنة.
برغم كل ذلك, فليس أمامي إلا أن أدفع ثمن هذه الديمقراطية الناقصة المشبوهة متألما مثابرا, حتى نجد معا ما يمكن أن نحقق به ما يضمن للإنسان أن يستمر نوعا متميزا بالوعي والإبداع.
المصدر: جريدة الأهرام العدد: 43218
الاثنين 25 من صفر 1426 هـ-_4 ابريل 2005
واقرأ أيضا:
مجانين على الجزيرة، وقل اعملوا مشاركة / خبر هام ومفرح جداً.. / وقل اعملوا يا دكتور؛ مجانين على الجزيرة