سرت في شارع "الشانزليزيه" في قلب العاصمة الفرنسية مدينة الجمال والنور.. ابتلعنني الأضواء واحتضنتني ظلالها وقد زالت عني حالة الانبهار التي كانت مرتسمة دائما على وجهي منذ وضعت أولى خطواتي على أرض هذه المدينة المبهرة.. لم أتخل عن عقائدي الشرقية المتزمتة التي حملتها معي في حقائبي مع أغراضي الخاصة.. مارست هوايتي في شرب فنجان قهوتي الفرنسية إذ لم يكن يحلو لي شربه إلا بطريقة واحدة منذ كنت طالبة صغيرة وهى أن أغمس إصبعي فيها ثم أرتشف ما علق به من القهوة في متعة غريبة اكتسبتها منذ كنت صغيرة ولم أستطع التوقف عنها حتى أنني كنت أختبئ عن عيون الناس وأمارس عادتي في شرب قهوتي ورغم أنني كنت طبيبة نفسية إلا أنني لم أستطع علاج حالتي هذه..
ولكنني عندما أتيت إلى هنا لم أكن في حاجة لأختبئ لأداري عادتي الطفولية فكل شيء يحض على الحرية وممارساتها وعلى التلقائية دون أن يكون من حق أي أحد السؤال أو الاستفسار..
وانتبهت من غفوة أفكاري على وجه جميل يتفحصني.. وجه تشي ملامحه أنه عربي الأصل إن لم يكن مصريا.. نظرت إليها وشبح ابتسامة يتراقص على شفتي.. بادلتني الابتسامة بابتسامة عريضة أضاءت جبينها وتوردت معها وجنتاها في حياء بالغ رقت له مشاعري، واقتربت مني ويدها ممدودة لمصافحتي وهي تحييني بلغة فرنسية دقيقة الألفاظ.. وعرفت من اسمها ولكنتها أنها مصرية.. تهللت أساريري وقد وجدت مصرية مثلى في بلاد الغربة، ورغم أعداد المصريين من الذين تكتظ بهم عيادتي النفسية إلا أنني لا أمنع نفسي من الرقص فرحا عندما يطالعني وجه مصري جديد..
وطال بيننا الحديث.. واقتربت منى وقد احتويت مشاعرها الضالة في طريق الغربة وقد شجعها على ذلك كوني طبيبة نفسية تحتل مكانة علمية محترمة بين زملاء المهنة بعد رحلة عناء وسنوات قضيتها في بلاد الغربة.. يأتي لزيارتي العديد من المصريين ممن يعانون تبعات الغربة وترك الدفء العائلي والحميمية المصرية والعلاقات الأسرية خلفهم.. بخلاف مشاكل المجتمع الغربي من عنف واغتصاب وحالات اكتئاب تؤدى إلى الانتحار والعزلة.. والعديد من الأسباب الأخرى والتي هي نتاج العولمة والتقدم التكنولوجي الهائل على حساب القيم الإنسانية المندثرة...
وفى اليوم التالي أتت لزيارة عيادتي ونظرة الحزن المغموسة في القلق لا تبارح عينها تلك النظرة التي ينخلع لها قلبي لبراءة هذا الوجه الملائكي الشفيف، الكامل الاستدارة في جمال أخاذ وإبداع خالق وكأنه قطعة من القمر.. بهذه الأهداب الطويلة السوداء التي تنسدل في خفر وحياء على العينين السوداوين الواسعتين ببريقهما الذي يشي بذكاء لماح، جلست أمامي على المقعد الوثير وبدأت تحرك أصابعها في توتر وقلق بالغين وهى تطرق بعينيها في الأرض حياء وخجلا فتبينت كطبيبة قدر معاناتها من أجل الدخول إلى عالم الذاكرة واجتذاب طرف البوح منها وقمت بواجبي وأنا أخطو نحوها خطواتي الأولى لأزيح عنها حالة التوتر والقلق وقدمت لها كوب الفوار إلى استخدمه دائما من اجل الاسترخاء وجلبه لمرضاي حتى استرخت تماما وتبدل الوجه أمامي حتى بدت كقطة صغيرة مذعورة من هول تجربتها ومرارتها...
وبدأت رحلة البوح والفضفضة تروى عن تجربة زواجها وهى ابنه قرية صعيدية وعاداتهم في ليلة الزفاف وما يعرف هناك بقماشة الشرف إذ لابد من عرض دماء ليلة الزفاف على المدعوين ليتبينوا أن العروس شريفة وسط طلقات البنادق وزغاريد النساء..
وحانت اللحظة المرتقبة وقد أغلق عليهما باب حجرة نومهما.. كانت هي وزوجها قد استعدا لبداية رحلة تذوق العسل والشهد مع الأمل والحب.. وبعد محاولات الزوج التي أسفرت عن نبأ ذبح الحمل الوديع على مقصلة الظلم والبهتان فقد تبين أنه ليست هناك دماء لتغرق قماشة الشرف وسط مزاعم الزوج بأن عروسه ليست بكرا... وأنها ليست شريفة لأنها لا تملك علامة الشرف وكأنه نسي أن الشرف ليس مجرد دماء تراق بقدر ما هو دين وخلق وأشياء كثيرة... ذبحت الصغيرة على مقصلة واقع تجهل كنهه وهى البرعم الذي لم يتفتح بعد ولم تشمه أنف أخرى بالطبع.. طلبت منه أن يصحبها إلى الطبيب ليتبين صدقها وظلمه لها.. ذهب صوتها أدراج الرياح ولم تجد غير سياط الشك تلهب ظهر عذريتها.. ضربها بقسوة، أصدر الحكم بالإعدام وهى التي لم تر باب محكمتها ولم تر وجه حكامها...
وانقلب فرحها إلى عزاء ولم يكن المتوفى سوى كرامتها المهدرة.. حتى والدها أتى مثل البركان الذي لم يستطع الصمود أمام قشرة الحقيقة الواهنة.. ضربها هو الآخر ليثبت لزوجها أنه لم يفرط ولم يتهاون في تربيتها.. واسترحمت والدها ليذهب بها إلى الطبيب وبعدها فليهدر دمها كما لم يهدر دم بكارتها... وألقى الطبيب بقنبلته هو الآخر إذ أقر بأنها بالفعل بكر وقد فضت بكارتها في زمن متلازم مع زفافها.. ولكنها من نوع من النساء نعرفه نحن من خلال دراستنا الطبية.. وهو العذرية دون دماء تراق.. خلق من خلق الله سبحانه وتعالى.. وكثير من هذه الحالات كنا نواجهها خلال رحلة عملنا.. رفض الزوج كلام الطبيب وقام بتطليقها.. بعد أن أهدر كرامتها وتركها خلقه ملطخة الشرف رغم أنه شاب متعلم مثقف ولكنه في لحظة المعترك الحقيقي عادت له جذوره الصعيدية القروية التي لا تعترف إلا بقماشة الشرف...
نهشت الأصوات في عرضها ولم تجد أمامها إلا أن ترحل إلى الخارج فربما استطاعت عائلتها أن تتخلص مع الزمن من فضيحة مزعومة وربما أيضا نسيها الناس ولفها الزمن في عباءة النسيان..
وقفت خلف نافذة عيادتي ارقب قطرات المطر التي تتساقط ويستقر رذاذها على زجاجها وهذا الضباب الذي يسكن ذاتي وتذكرت مقولة "أدونيس": لكي لا تتعثر في طريقك.. أو تسقط قل لقلبك أن يترجل ويمشي أمامك" وجلست أمام مكتبي أخطط رحلة علاج لهذه الصغيرة التي ذبحت من أجل "قماشة الشرف" المزعومة.
واقرأ أيضًا:
د. هبة رؤوف : قتل الشرف ليس من الدين/ خسران الشرف، تأملات في التأملات