أمر خطير وشاق أن تصدم الناس بمعرفة لا يتوقعونها، أو لا يريدونها، فيهتز بعضهم، ويزداد وعي أقلهم، ويلعنك الباقون، ولكن أخطر منه أن تجاريهم لترفيههم، فتحجب رؤيتك عنهم طلبا للسلامة، ومسايرة للشائع، حتى ولو كان الشائع يندرج تحت ما يسمى "علما" في مرحلة ما.
ونحن نتحدث كثيرا عن براءة الأطفال (في عينيه) وعن رقة الأطفال وعن طيبة الأطفال ... الخ، وكل هذه التعابير صور شاعرية أكثر منها حقائق علمية، فمازالت دراسة تصور عواطف الأطفال -للأسف- مجرد إسقاطات وتأويلات، فالعواطف أقدم من التعبير عنها، ومعرفتنا بها ووصفنا إياها أمور مشكوك فيها إذا نظرنا في أنفسنا فما بالك في طفل آخر!!
ولكنا إذا ما راجعنا تاريخ التطور من ناحية، وتأملنا نكوص عواطف بعض المرضى إلى مرحلة الطفولة من ناحية أخرى، استطعنا أن نجد قبولا للقانون القائل "إن نمو الإنسان الفرد، إنما يكرر تاريخ نمو الحياة" (أي: الانتوجينيا تعيد الفيلوجينيا) لنقول في شجاعة نسبية إن التعبير الشائع "الإنسان حيوان ناطق" إنما يصدق على الطفل أساسا أو أولا، علما بأن مجرد الكلام لا يعني التفكير المنطقي ولا الفعل المسئول.
فأين تقع الرحمة في صفات هذا الحيوان الناطق؟
يبدو أن "الرحمة" صفة ذات جلالة، فهي الصفة التي اختارها الله تعالى ليصف بها ذاته في كل بداية، وهي الصفة التي كتبها على نفسه واختص بها من يشار من عبادة إذا فلابد أن نميزها ابتداء من الشفقة المتعالية (يا حبة عيني!!) وعن التأثر العاجز (الصعبانية والمصمصة)، والرحمة لا تكون رحمة إلا إذا اقترنت بالعدل والقدرة معا، فليس رحيما من يتعاطف مع القريب دون الغريب، أو يشعر بآلام الإنسان دون الحيوان وليس رحيما من يقف عاجزا أمام الظلم، أو من لا يستطيع قولة "لا" ولو من خلال قسوة ظاهرة "ومن يكون حازما فليقس أحيانا على من يرحم" ولنا أن نستنتج أن صفة هذه المواصفات المسئولة الناضجة لا توجد عند الأطفال - مهما كان تصورنا لوجودهم أو انطباع والدي: وراثي أو بيئي (دون الدخول في تفاصيل علمية)
والتربية السليمة هي إتقان صحبة هذا الحيوان الناطق غير مراحل نموه الطبيعية دون افتراضات شاعرية، حتى يصل إلى الوجود البشري المتكامل الذي فيه من صفات الله ما فيه - ومن بينها الرحمة موضوع حديثنا هذا.
أمثلة من الريف والحضر:
وأكاد أحس بالتساؤل والرفض لما أحاول أن أصف به الطفل من قسوة، ولكني أتذكر منظرنا في بلدنا ونحن نمسك بزنبور مسكين (زنبور) نخرج زبانه (مع بعض أحشائها... يا خيبه الجراحين الصغار) ثم نزق رجليه في شق غابة مشطورة تدور أفقيا حول محور رأس قائم في "سلة" من شجرة السنط، وإذ يحاول الزنبور المسكين أن يطير ورجليه في شق، يدفع الغابة فتلف مثل "الساقية"، ونصيح في سعادة بهذا الاختراع ونظل نهرج حواليه وهو يزن ويدور حتى يموت.
وأتساءل أين كانت الرحمة في كل هذا؟
ثم منظر مجموعة من الأطفال وهم يربطون قطة حديثة الولادة من رقبتها يجرونها هنا وهناك دون إحساس - حتى تقضي نحبها.
أما في مجال أولاد الذوات (القدامى والمحدثين) فهواية الصيد العابث خير دليل على قسوة القلوب فنحن ندع أولادنا يقتلون العصافير (دون غرض وقاية لمحصول أو عنقود عنب) وينتزعون الأسماك من مجال حياتهم (دون دافع جوع أو نية شواء!! ولا أستطرد أكثر من ذلك لأدلل على قسوة الأطفال الطبيعية، ولكني أصرخ في وجه ذويهم أنه إذا أطلق الطفل قسوته بلا حسبا، فلأنه جاهل بعواقب الأمور، والمثل الصيني يقول "يقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يلعبون، ولكن الضفادع تموت جدا لا هزلا"، فالطفل لا يعرف معنى "الموت حقيقة" وفلعا إلا حول العاشرة، ولكن ما عذرنا نحن إذ نصفق لهذه الأفعال وننميها؟
فإذا كان الأمر كذلك - وهو عندي كذلك - فماذا نحن صانعون؟
أقول إن مجرد النصح والإرشاد ليس مهما فاعلية ذات بال، ولكن القدوة الحسنة في الجو المحيط الآمن المحب للحياة في كل كائن هو الخلاص، وهو الأمل، بل كما أنه النصح الكاذب (غير المحق مع حقيقة مشاعر الناصح) خطيرة ومشوه فليس أبشع ولا أضر من منظر أم تلقن ابنها الرقة في مراعاة شعور الضيوف القادمين بعد ساعة ليبدو مهذبا "ابن ناس" في نفس اللحظة التي تنهال فيها على الخادمة (لا تنافقوا فتقولوا الشغالة) بالضرب والتعذيب والإهانة بلا حدود، أو في القليل (بعد ارتفاع أسعارهن في سوق الرقيق العصري) بالاحتقار والرفض!! وأحذركم، فالطفل يعلم جيدا ومباشرة ما تخفي الصدور، مهما رسمنا على وجوهنا من تعبيرات، أو اختبأنا وراء ألفاظ تزعم حسن النية.
خلاصة القول: أن الطفل في مراحله الأولى عدواني قاس بطبعه، وهذا ليس عيبا في دابة فإذا تقبلنا عدوانه وسمحنا له بتطويره وتوجيهه من خلال القدوة والوعي الهادي، كان أملنا في الوصول إلى صفات الرحمن الرحيم واقعا وفعلا.
على أن أهم ما يمكن أن نضمن به نمو الرحمة بمعناها الحقيقي، هو أن نهرب كيف نضيف إلى براءة الطفل وطيبته صفات القوة والقدرة والعدل، مع تدريبه على التعامل المباشر مع الواقع المر بقسوته وتحديه، وتعليمه تجنب الإيذاء في كل آن ولكن ما أصعب كل هذا، في مجتمعنا هذا، في وقتنا هذا "تلك هي المسألة الصعبة أن نعطي للطفل الحكمة والنضج، أن نشرب من لبن الطيبة: سر القدرة أن نصبح ناسا بسطاء في قوة لكن فلنحذر دوما من غدر الشر المتحفز بالإنسان الطيب".
اقرأ أيضا:
التعايش التكافلي وقبول الآخر / الدين: تسكين أم إبداع / حكومة ذكية أم دولة منتجة؟