مع كل هذا الفيضان الغامر من المعلومات والأخبار والآراء والنكت السخيفة، والقفشات الذكية، واللعب في الوعي، لم يعد يصلح أن نقرأ الأحداث بنفس الطريقة التي كنت أقرأها طفلا مع والدي في "الأهرام" في الأربعينيات، حين فوجئت بصدور مجلة أسبوعية شابة اسمها "أخبار اليوم" كما ذكرت في مقال سابق، ونفس الشيء حدث لي بالنسبة للإعلام المسموع (فالمرئي)، فقد كنت أيامها أسمع القرآن الكريم من الراديو المستطيل القائم على رف عال في الصالة، وكنت أحسب أن شيخا طيبا صغير الحجم يجلس القرفصاء بداخله.
قراءتنا للأحداث وسط هذا الفيض المعلوماتي تختلف، وقد يترتب على كيفية قراءتنا هذه اختيارات مصيرية، خاصة تحت لافتة الديمقراطية، رحت بيني وبين نفسي أعدد أنواع القراءة المحتملة فوجدتها لا تقتصر على ما خطر لي أولا من أن ثمة قراءتين أساسيتين هما: القراءة المحلية القاصرة على أحوال البلد المعنية، والقراءة العالمية (وليست المُعولمة) التي تربط بين الحدث المحلي والأحداث والتخطيطات عبر العالم، اكتشفت أنه توجد تشكيلاتت ومستويات تفوق ذلك بكثير، ففضلت أن أقصر المقال على عرض مجرد تعريف موجز لما خطر لي حتى نعود – أو لا نعود – إلى تفصيلها. ومن ذلك:
القراءة الجماعية الانفعالية:
وهي أن تقرأ الأحداث كما يقرأها أغلب الناس، خاصة المجتمعون معا، ناهيك عن المتظاهرين معا، أو المستثارين معا، خاصة في بدايات تحركاتهم، وهذه قراءة قد تبلغ من الإيجابية أن تسمى "إرادة الشعب"، في حين أنها قد تبلغ من السلبية أن تسمى "غلبة الغوغائية" أو "ديكتاتورية الجموع".
القراءة (السببية) المحلية:
وهي القراءة التي تقرأ الأحداث وتفسرها بالأسباب الأقرب فالأقرب، مكانا وزمانا، وهي عادة تربط الأحداث ربطا خطيا بسبب –أو عدة أسباب– قريبة مباشرة، دون النظر إلى احتمالات علاقة الحدث المحلي بأحداث أوسع فأوسع، أحداث جغرافية أو تاريخية أو اقتصادية عالمية، هذه القراءة تبالغ عادة في التركيز على السبب أكثر من التركيز على معنى الحدث أو الهدف منه.
القراءة المثالية:
وهي القراءة الطفلية الخفيفة، التي تأخذ من الأحداث ظاهرها الممتلئ بالأمل والبهجة، وعادة ما ترتبط بالتوقعات المثالية، والأحلام النظرية، وهي تتكلم عادة بلغة أخلاقية، أو دينية بسيطة، وتتغافل عن المصالح، وعن الواقع، وعن التخطيط، وهي تفرح بالتقريظ، والتصفيق والتحميس، وتتغنى بالمطلقات مثل الحرية والكمال، وهي ليست مرفوضة على طول الخط، وإن كانت قصيرة العمر، قريبة الهدف
القراءة العقائدية (الأيديولوجية):
وهي القراءة التي تنظر للأحداث من خلال عقيدة محددة المعالم سواء أرضية (أيديولوجيا) أو سماوية (دينية مغلقة) أو حتى اقتصادية مذهبية (مثل سياسة السوق) وهي لا تقرأ الأحداث إلا بعد فك شفرتها بأبجدية أيديولوجيتها المرتبطة بوجهة نظر ومنافع أصحاب هذه الأيديولوجية أو ذاك الدين.
هذه القراءة لها علاقة ما بالقراءة المثالية من جهة، والقراءة النفعية من جهة أخرى.
القراءة النفعية:
وهي ذات مستويين:
(أ) الأول: القراءة النفعية العامة، وهي التي تفسر الأحداث، حاليا ولاحقا، بما ينفع الوطن وجموع ناسه، وهي لا تقتصر على النفع القريب مثل تحقيق المطالب الشخصية أو الفئوية القريبة، وإنما تمتد إلى حسابات العمل على النفع العام الذي يمكن أن تعود به هذه الأحداث على أكبر عدد من الناس.
(ب) الثاني: القراءة النفعية الخاصة والمغلقة، والتي تحكم على الأحداث وتقيمها بالنفع المباشر الذي يعود على فرد بذاته، أو شركة بذاتها، أو مجموعة صغيرة من الناس لا ترى في هذه الدنيا إلا مصالحها حتى على حساب الصالح العالم.
القراءة التآمرية (في مواجهة العولمة):
وهي القراءة التي تقرأ الحدث (والأحداث) من خلال فروض شاملة تستمد أبجديتها من التاريخ وأيضا من الشكوك والحذر والبحث الأعمق عن المستفيد والمتآمر لتحقيق أغراضه الخفية عادة، وهي قراءة تتجاوز الظاهر إلى ما تحت السطح كما تتجاوز المنطق الخطي، إلى التفسير الغائي، وهذه القراءة لا تتم على جانب واحد فما دام ثَمَّ متآمر، فهو يفرز في مواجهته متآمر مضاد، وهكذا، وهي قراءة سيئة السمعة، لكنها بقائية وقائية ضرورية.
القراءة النقدية الموضوعية:
هذه القراءة تبدو ثقيلة الظل عادة، باردة التعقل، مع أنها مبدعة في حقيقتها، إذ هي تحاول أن تتفهم ضرورة ووظيفة القراءات السابقة كلها وتستوعبها، ولكنها لا تتوقف عند أي منها، وهي تتجاوز الحكم على الأمور إلى الإسهام في الحدث بقدر ما تقوم بإعادة تشكيل الأحداث، تماما كما يكون النقد الأدبي ليس هو مجرد إظهار الحسن من السيئ وإنما هو محاولة إعادة تشكيله على مستوى النقد، كذلك تكون قراءة الأحداث نقدا مبدعا هي الإسهام في إعادة تشكيلها.