يذكرنا السيد أسامة هيكل وزير الإعلام بقرارات صفوت الشريف وأنس الفقي حين يغلق قناة "الجزيرة مباشر مصر" بحجة أنها تعمل بدون ترخيص، ويذكرنا بإغلاق جريدة الدستور الأولى حين غضب عليها نظام مبارك وأيضا كانت الحجة "الترخيص"، ويذكرنا بإغلاق 12 قناة فضائية قبل قيام الثورة والحجة كانت مخالفة شروط الترخيص، ويذكرنا بالقرار الذي كانت دكتاتوريات الأنظمة العربية تحاول اتخاذه على مستوى الجامعة العربية للسيطرة على القنوات العربية تحت مسمى ميثاق الشرف الإعلامي، ويذكرنا السيد هيكل بازدراء نظام مبارك لعقولنا كشعب حين يريد منا أن نصدقه بأن الموضوع مجرد إجراء قانوني وأن المشكلة هي الترخيص.
وإنها لخطيئة أن يسئ أحد الظن بذكاء الشعب المصري وبقدراته العقلية، ربما كان ذلك جائزا قبل الثورة حين كان سكون الشعب المصري يوحي بأنه لا يدرك ما يجري أو أنه في حالة بلادة واستسلام واستهواء، أما بعد ما جرى في الثورة فقد أثبت هذا الشعب جدارته وتحضره، وأثبت خطأ وغباء من استهانوا به في الماضي وظنوا أنه لا يستحق الاحترام.
وربما لا يدرك السيد أسامة هيكل قيمة قناة "الجزيرة مباشر مصر" إبان أحداث الثورة، وربما لا يعرف أن دورها كان حيويا وحاسما في نجاح الثورة بحيث لا نبالغ أبدا إذا قلنا أن هذه القناة كانت أحد أبطال الثورة المصرية بما قدمته من تغطية إعلامية صادقة وحقيقية وجريئة، وكانت هي المصدر الأساسي والوحيد لمعرفة ما يجري بشكل صادق وواقعي وكانت حلقة الوصل بين الثوار وبين الشارع المصري والعربي، وكان فريق العمل بها يقومون بأعمال تتسم بالشجاعة والجرأة والمغامرة في سبيل رصد وتوثيق وتوصيل أحداث الثورة لحظة بلحظة، وقد بذلوا مجهودات خارقة لوضع الكاميرات في أماكن وزوايا تمكنهم من تصوير الأحداث بشكل عبقري (رغم تتبع ومحاصرة أمن النظام السابق لهم) في الوقت الذي كان الإعلام المصري الحكومي والخاص يقوم بعملية تعتيم وتشويه لحساب نظام مبارك المتهاوي.
وهكذا لعبت قناة الجزيرة بكل شبكاتها دورا محوريا في نجاح الثورات العربية ولهذا حرص الطغاة والمستبدون على التشويش عليها ومنعها من تغطية الأحداث وإطلاق الأقاويل والإشاعات لتشويهها ولم ينجحوا في ذلك بل سقطوا سقوطا مخزيا ولفظتهم شعوبهم وبقيت "الجزيرة" (رغم كل ما قيل ويقال عنها) تؤدي دورها المهني المتميز والذي ساهم بقوة في إيقاظ الوعيي العربي وكان أحد الأسباب المهمة في قيام ونجاح الثورات العربية الحالية.
و"الجزيرة مباشر مصر" كأحد أفرع قناة "الجزيرة" يعمل بها حوالي 43 شابا مصريا ويحققون كل هذه النتائج الإعلامية المبهرة بإمكانات بسيطة جدا بينما يعمل في التليفزيون الحكومي ما يقرب من أربعين ألف موظف ومع ذلك لا يستطيعون المنافسة على المستوى الإخباري.
ومن المعلوم أنه في زمن الثورات يكون للشرعية الثورية أهمية تعلو فوق القانون العادي السائد الذي وضعه الطغاة والمستبدون، فالثورة نفسها في نظر قانون حسني مبارك هي عمل عدواني يقع تحت طائلة القانون، وهي تقويض للنظام القائم وتحطيم لأركانه، ومع هذا حين تنجح الثورة نفرح بها ونكرم القائمين عليها رغم أنهم خارجون على القانون في نظر النظام المستبد. وبنفس المنطق يجب أن نتعامل مع قناة مثل "الجزيرة مباشر مصر"، فهي قد نشأت وسط أحداث الثورة، ولا أدري إن كانت قد حصلت على تصاريح أم لا في تلك الظروف، ولكنها في النهاية قامت بدور ثوري هائل، وكشفت ألاعيب النظام السابق وأبطلت حيل جهازه الإعلامي الذي كان يسعى لتشويه الثورة وإجهاضها، ثم أن القائمون على هذه القناة شباب مصريون (أعرف كثير منهم) شرفاء ومخلصون ووطنيون وثوريون وهم يقومون بدرورهم الإعلامي بدرجة عالية من المهنية والمصداقية، ويغطون الأحداث لحظة بلحظة صوتا وصورة، وينقلون الأخبار، ويستدعون التحليلات من الخبراء والمتخصصين ويعرضون الرأي والرأي الآخر بتوازن وموضوعية.
إذن والحال هكذا كان يتوجب على السيد وزير الإعلام أن يضع كل هذه الأمور في الحسبان، فهو رجل مثقف، وكان في صفوف المعارضة الإصلاحية قبل الثورة، وهو وزير في حكومة تشكلت بعد الثورة، والمفترض أنه يعرف قيمة وقامة من شاركوا في هذه الثورة وضحوا في سبيل نجاحها، وإذا كان ثمة خطأ قانوني أو إجرائي فمن الممكن تصحيحه بوسائل حضارية ليس من بينها المداهمة والقمع والإغلاق بهذه الطريقة البدائية الوحشية التي أساءت لصورة مصر وسمعتها.
وأخيرا فإنه لمن المعلوم بالضرورة أن لا أحد يستطيع أن يسكت صوتا حرا أو يطفئ مشعلا يضئ للأحرار وللثوار الطريق، فسوف تنتهي فترة الوزارة ويعود الوزير (أي وزير) إلى بيته، ولكن سيظل الناس يذكرون من ناصر الثورة ومن خذلها، "فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
واقرأ أيضاً:
الذين شوهوا المشهد في مصر / اللعب في الوعي وأسلحة الانقراض الكامل (2 من2) / مستويات وتشكيلات قراءة الأحداث