لم تنجح الثورة المصرية -بقدر عظمتها وحضاريتها- في الفوز بالضربة القاضية، وبقي لها أن تفوز بالنقاط، وشروط وآليات الفوز في كل حالة مختلفة عن الأخرى، وهذا ما يجب أن يعيه الثوار ومؤيدوهم جيدا. فالفوز بالقاضية كان يتطلب تكسير عظام النظام وتفكيك مفاصله بالكامل، وربما انصرف الشعب المصري الثائر عن هذا الخيار بدافع لا شعوري يعكس طبقات تحضره لأن ذلك الخيار كان يستدعي انهيار الدولة وبالضرورة يستدعي مواجهات مسلحة للسيطرة على مؤسستي الشرطة والجيش، وهذا أمر يحمل في طياته الكثير من المخاطر والسيناريوهات المفزعة خاصة في بلد كبير مثل مصر فضلا عن أنه لا يتفق مع طبيعة الشخصية المصرية التي تعاف وتخاف العنف وتفضلها "سلمية".... "سلمية". وترك المصريون للميدان صبيحة تنحي مبارك وعدم إصرارهم على استكمال طريق الثورة حتى نهايتها بما يعني الوصول إلى الحكم بعد انتزاعه من المؤسسة العسكرية بقوة الحشد الجماهيري التي لم تكن لتقاوم في ذلك الوقت، لم يكن هذا خطأ ثوريا، أو تراخيا أو استسهالا بل هو سلوك شعب متحضر قدّر موقف المؤسسة العسكرية من الثورة (على الأقل في مراحلها الأولى) وقرر الإبقاء على جسد الدولة (بعد الإطاحة برأسها) على أمل التطهير وإعادة البناء بشكل سلمي آمن.
ولكن للأسف الشديد كان الرد على سلمية وتحضر وحسن نية الشعب الثائر هو التباطؤ والالتفاف والمراوغة بهدف تفريغ الثورة من مضمونها وإتاحة الفرصة للنظام القديم كي يبقى بأسماء مختلفة مع بعض الإصلاحات الديمقراطية الشكلية. وانقسم الصف الشعبي الثائر إلى فرق متناحرة يمكن ضمها في فريقين رئيسين أحدهما يرى ضرورة استمرار الحشد والتظاهر والاعتصام في الميادين والشوارع لإنقاذ الثورة وتحقيق أهدافها وإجهاض الثورة المضادة التي باتت تستفيد من البطء والتباطؤ في عمليات التطهير والتغيير، والفريق الثاني يرى المصلحة في خوض معركة الانتخابات وصولا إلى تكوين مؤسسات دستورية منتخبة تحقق أهداف الثورة.
وقد استغلت الثورة المضادة هذا الانقسام، وأشعلت مزيدا من النيران بين الفرقاء حتى صاروا أعداء يتنابذون بالشتائم ويتبادلون الاتهامات، والنتيجة النهائية أن أصبحت الثورة في خطر شديد، ولم يع الطرفان المتناحران (الميداني والبرلماني) حتى الآن أن خطرا داهما يهددهما في حالة نجاح الثورة المضادة في إعادة إنتاج النظام القديم في ثوب جديد.
وإجهاض الثورة أو فشلها احتمال مرعب لأنه سيعود بمصر إلى الوراء عشرات السنين ويفتح الباب أمام صراعات قد يكون بعضها مسلحا، إذ لا يتخيل أحد أن الشباب الثائر سيعود إلى بيته بعد إجهاض ثورته ليجلس أمام التليفزيون يشاهد رموز النظام القديم أو مواليهم يعودون إلى سدة الحكم ويمارسون الإذلال والقمع ضد المصريين مرة أخرى وأن تذهب دماء زملائهم من الشهداء سدى. وحين يساور هذا الكابوس شباب الثورة ينطلقون في الميادين ويعاودون الاعتصام مرة بعد مرة في محاولات استعادة الثورة مرة أخرى وإبعاد المتآمرين عليها والخائنين لمبادئها. وتستغل الثورة المضادة هذا الحشد المتكرر وتتهمه بالتسبب في الفوضى والانهيار الاقتصادي وتستعدي جمهور الخائفين والخانعين والخاضعين والجائعين على شباب الثورة لتعزلهم عن التيار الشعبي العام وتلقي عليهم بتهم العمالة للخارج والبلطجة وإثارة الشغب ووقف الحال، وللأسف الشديد حققت الثورة المضادة نجاحات في هذا المجال أصبحت تهدد مسار الثورة وتسرق حلم الثوار.
وتوقف الثوار عند آليات الحشد والتظاهر والمليونيات، تلك الآليات التي نجحوا بها في أول الثورة، ولكن يبدو أن الأمور قد تغيرت وأن فريق من المؤيدين للثورة قد تعبوا أو انصرفوا أو تشككوا، ولهذا بات حتميا ابتكار آليات جديدة لمواجهة الثورة المضادة وتحقيق أهداف الثورة على أن تكون تلك الآليات توافقية وإبداعية وتسعى إلى المصلحة العامة متجاوزة المصالح الفردية والحزبية الضيقة. ومن هذه الآليات ما يدعو إليه العقلاء في هذا البلد وهو التحالف بين التيار الثوري في الميدان والتيار الانتخابي في البرلمان بحيث يشكل كلا منهما جناحا للثورة يمكناها من الطيران بنجاح والوصول إلى مبتغاها.
وقد يبدو هذا التحالف الآن حلما رومانسيا بعيدا عن الواقع خاصة وأن التيار الثوري في الميدان يختلف ايدولوجيا مع التيار الانتخابي في البرلمان، ولكن مع هذا هناك وحدة في المصير لأن غياب أحد الطرفين عن المعادلة يؤدي إلى انهيار الثورة بالكامل وخسارة الجميع، فالخط الثوري وحده في الميدان لم يعد قادرا على حسم المعركة (رغم قدرته على الضغط وتحقيق مكاسب سياسية مهمة)، والخط البرلماني وحده غير قادر على حماية مكاسبه البرلمانية بدون ضغط التيار الثوري. وليتذكر أهل البرلمان فضل أهل الميدان عليهم إذ لولاهم ما وصلوا إلى البرلمان، وليتذكر أهل الميدان حاجتهم لأهل البرلمان إذ لم يعد الحشد الثوري في الشارع كما كان وبات واضحا الحاجة للقوة الشرعية الدستورية المنتخبة من الشعب، ولا يليق أن يستأثر أحد الفريقين بمكاسب الثورة ويستبعد الآخر أو يخونه أو يتعالى عليه.
فهل يجتمع الفرقاء مرة أخرى لينقذوا الثورة في مرحلة من أكثر مراحلها خطرا؟... أم يتمادوا في الفرقة والتنابذ على صفحات الصحف ومواقع الإنترنت وشاشات التلفزيون ليجدوا أنفسهم جميعا في سجون الثورة المضادة متهمون بالشغب والتطرف وتهديد سلامة البلاد؟
واقرأ أيضاً:
افهموا سيكولوجية الثائر يا ولاد الطغاة / وجوه مصرية في التحرير / يوميات الثورة 2: ماذا فعلت بأخيك!؟ / سيكولوجية السلطة