في إحدى ليالي ميدان التحرير (أيام أحداث شارع محمد محمود)، كنت أتجول في أرجاء الميدان أتحسس نبض الناس وتوجهاتهم في مرحلة تمر فيها الثورة بخطر الإجهاض أو السرقة أو الالتفاف، فوجدت أعدادا كبيرة من الشباب ذوي اللحى الطويلة المميزة يشكلون باصطفافهم ممرا أنبوبيا طويلا من مدخل ميدان التحرير ناحية كوبري قصر النيل إلى وسط الميدان، ومن وقت لآخر يمر عليهم زملاؤهم بأكياس مليئة بالتمر وأنواع من الطعام تعينهم على الاستمرار في الوقوف في أماكنهم. أثار فضولي المشهد واقتربت أسأل أحدهم، فقال لي بحماس إنهم يقفون في انتظار وصول الشيخ صلاح أبو إسماعيل إلى ميدان التحرير.
وقضيت ليلتي أتنقل بين أرجاء الميدان منصتا (أغلب الوقت) ومتحدثا (قليلا من الوقت)، وأتفقد هذه السلسلة البشرية التي تنتظر شيخها من وقت لآخر، وقد ظلوا هكذا من العاشرة مساءا إلى قرب صلاة الفجر، ولم أعلم بعد ذلك إن كان الشيخ قد حضر أم لا. وفي ليلة أخرى رأيت سيارة مرسيدس تشق زحام الناس ويحوطها نفس الشباب الملتحي بحماس شديد ويدفعون الناس من أمامها وحولها، وإذا بالشيخ حازم أبو إسماعيل يجلس في السيارة يتفقد الميدان في راحة وطمأنينة ورفاهية لا تليق بجو الميدان وروحه النضالية.
وفي مواقف تالية متعددة كان يبدو أن عددا كبيرا من المريدين يتجمعون حول الشيخ حازم، ويوزعون بوستراته للترشح للرئاسة في كل مكان في مصر، وبطريقة تسمى "الإعلان بالغمر"، وهي أن تضع صورة المعلن عنه في كل مكان بحيث تلاحق حواس ومدركات الناس فلا يستطيعون فرارا مما تدعوهم إليه. وكانت هذه الإعلانات والبوسترات مسار تعليقات ساخرة على الإنترنت لم يسبق لها مثيل، وعكست روح المصريين المرحة في التعامل مع الظواهر الغريبة في حياتهم. وقد حدث هذا الانتشار الواسع لبوسترات أبو إسماعيل في الوقت الذي نعلم فيه جميعا أن التيار السلفي إلى وقت قريب كان يحرم التصوير لأن فيه تجسيدا للبشر وتقديسا لهم وهذا يتعارض مع صفاء ونقاء وتوحيد العقيدة. والتيار السلفي في أصوله وقواعده لا يميل إلي تعظيم الأشخاص، حيث لا يستحق التعظيم إلا الله، ولا يميل إلى الصراع السياسي حيث يعتبره فتنة، ولا يميل إلى الحزبية حيث يعتبرها تفرقا وتمزيقا لوحدة الأمة التي يجب أن تجتمع على كلمة سواء ومذهب واحد. ومع هذا وجدنا بعد الثورة لهاثا على تكوين الأحزاب، ولهاثا أكبر من أنصار أبو إسماعيل على الترشح للرئاسة، فما هو التفسير لكل هذا ولظاهرة "أبناء أبو إسماعيل" الذين اصطفوا حوله ومن ورائه يؤيدونه حين كان مرشحا ويستمرون في تأييده حتى بعد استبعاده من سباق الترشيح.
نستطيع إجمال التفسير في عاملين أساسيين:
العامل الأول: يتعلق بشخصية أبو إسماعيل وخطابه، بمعنى أنه يبدو شيخا ملتحيا لحية سلفية مؤكدة، وتعلو وجهه ابتسامة هادئة في معظم الأحيان (وفي بعض الأحيان تختفي ويحل محلها علامات غضب وعصبية واضحة)، ويعطي إحساسا بالطمأنينة والأبوة الحانية، وهذا الوجه يمثل في الوعي المصري البسيط صورة "الرجل الطيب.. بتاع ربنا"، وهذا له وزن كبير عند المصريين. كما أن خطاب أبو إسماعيل كان منذ البداية وحتى النهاية ملتزما بثوابت إسلامية لم يغيرها أو يعدلها على الرغم من تعرضه لهجمات ومحاورات إعلامية هائلة، وهذا جعله يمثل بالنسبة لأتباعه رمزا إسلاميا يحافظ على الثوابت ويتبنى المشروع الإسلامي "دون لف أو دوران أو التواءات أو موائمات أو صفقات"، وقد منحه هذا الخطاب مصداقية عالية لدى الشباب الذي يتصف بالبراءة والبساطة ، ويفضل الخط المستقيم. وربما لهذا كان من الصعب على أبو إسماعيل أن يغير خطابه بخصوص جنسية والدته، إذ يعتمد رصيده بين أتباعه على الصدق، ونحن لا نعلم على وجه اليقين مدى صدق خبر حصول والدته على الجنسية من عدمه ولكن ثمة مؤشرات عديدة تقول أن هناك شيئا ما في هذا الأمر لا يستطيع الشيخ أبو إسماعيل الاعتراف به أو مواجهته حرصا على مصداقيته أمام أتباعه والذين يصدقونه تصديقا مطلقا مهما ظهرت علامات تفيد غير ذلك.
العامل الثاني: يختص بالتركيبة والاحتياجات النفسية لدى أتباعه، فهم في معظمهم من الشباب يغلب عليهم الانتماء إلى الطبقات البسيطة في الريف أو المدن (على الرغم من انتماء بعضهم إلى طبقات اجتماعية ومستويات تعليمية أرقى)، بعضهم تظهر عليه علامات التدين السلفي والبعض الآخر ليس كذلك، وكلهم يجمعهم الحماس الشديد لمرشحهم والتصديق المطلق لما يعلنه من تصريحات (دون إعمال للعقل النقدي، فأتباع الرموز الدينية والروحية يتصرفون بدوافع الوجدان أكثر من العقل)، وكأنه بالنسبة لهم يشكل رمزا لمشروع نهضة إسلامي لا يجدون رمزا آخر غيره يصدقونه، فبقية الرموز مجروحة نظرا لالتفافاتها أو التواءاتها أو تحالفاتها القديمة أو الحديثة، وهم يعتقدون اعتقادا جازما أن ثمة مؤامرة دولية وكونية لإسقاط مرشحهم للرئاسة، لأن في ذلك منع للمشروع الإسلامي أن يظهر لأن فيه تهديد للمصالح الغربية ولمصالح الليبرالييين والقوميين والعلمانيين في الداخل.
إذن فنحن أمام غالبية من أنصار أبو إسماعيل معجبين بشخصه وبأسلوبه ومقتنعين به كأفضل مرشح للرئاسة حرم منها، وهؤلاء ينظرون إليه كسلطة أبوية ويكرسون العودة لتبجيل وتعظيم الزعيم وربما يتورطون دون أن يدروا في صناعة دكتاتور بلون إسلامي. وحائط الصد الوحيد أما تورط هؤلاء في تعظيم الفرد وتمجيد الشخص هم مشايخ السلفية الكبار والذين استنكروا فعلا هذا المسلك، وكثير منهم لم يكن عالي قناعة بجدارة الشيخ أبو إسماعيل لهذا المنصب فهم يرونه حديث عهد بالسلفية، ويرون في كثير من تصرفاته خروجا على ثوابتهم وعلى إجماعهم، ويرون في سلوك أتباعه خرقا للكثير من الأعراف السلفية، وبعضهم دعا هؤلاء الشباب صراحة إلى الانصراف.
أما إذا لم تصل تلك الأصوات العاقلة إلى أنصار أبو إسماعيل، وإذا استمر شحن الشيخ أبو إسماعيل لهم وتحريضه إياهم ضد ما يعتقده ويعتقدونه مؤامرة دولية عليه وعلى مشروعه، فإن ذلك سيشكل حالة من المواجهة الساخنة والإحباط والغضب يؤدي في النهاية إلى التورط في أعمال عنف موجهة ضد أي جهة تقف في وجه تحقيق حلمهم. وقد يقول قائل منهم أنهم حريصون على سلمية تظاهراتهم واعتصاماتهم، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن من السهل أن يندس بينهم من يؤجج خروج دفعات الغضب والعنف تحقيقا لأهداف معينة يرغبها من يسعون لتوريط التيار الإسلامي أو أي فصيل منه في العنف تحضيرا لإقصائه أو تحجيمه أو تشويهه.
واقرأ أيضاً:
مرشحو الرئاسة والبيئة/ عمر سليمان.. السيناريو الأسود/ بروفيل مرشحي الرئاسة 3