صدر الحكم على قرنيّ النظام: "حسني مبارك" و"حبيب العادلي" بينما بقي جسد الثور (النظام) سليما معافى كما هو نظرا لخلو أوراق الدعوى من أدلة إدانة تطمئن إليها المحكمة (فالمحكمة تحكم بما توافر لديها من أدلة ، هذه قاعدة قانونية هامة)، وهذا نفسه ما حدث في الثورة حين أطيح بالرأس وبقي الجسد ينتظر إعادة تركيب رأس له من خلال انتخابات الرئاسة القادمة. وفيما يلي نحاول قراءة وقائع الجلسة من الناحية النفسية مبتعدين عن التعليق على الحكم كحكم إذ أن عظمة الأحكام القضائية أنها قابلة للنقض في مستوى قضائي أعلى لهذا وجب الاحترام والكف عن المدح أو الذم.
حضر مبارك إلى المحكمة بطائرة هليوكوبتر فخمة "جدا"، لينتقل منها إلى عربة إسعاف "أكثر فخامة"، وهذا في حد ذاته إخلال بمبدأ المساواة بين المصريين إذ لا يتم نقل المتهمين من الشعب المصري بهذه الطريقة بل يتم في عربات ترحيلات معتمة ومقبضه وخانقة، على الرغم من أن جرائمهم أقل بكثير من الجرائم التي يحاكم عليها مبارك، وهذا يعتبر إخلال بالعدل يتم خارج جدران المحكمة.
وخارج المحكمة كان يتجمع العشرات من جماعة "أبناء مبارك" و"آسفين ياريس" ومعهم أبواق عسكرية؟؟؟!!!، وفي المقابل يقف المئات من أهالي الشهداء والناشطين السياسيين رافعين الشعارات المطالبة بحق الشهداء.
يدخل حبيب العادلي القفص بثقة شديدة وبخطوات رياضية ليجلس في الأمام كعادته بينما يجلس مساعدوه خلفه في تراتيبة سلطوية تعكس بقاء المنظومة الأمنية كما هي حتى في القفص وأثناء المحاكمة. ومع هذا كانت نظرات العادلي أكثر وجوما وحزنا وترقبا وقلقا مقارنة بالجلسات السابقة، وعلى الرغم من محاولاته للتماسك، وعلى الرغم من ثباته الانفعالي الناتج عن كونه رجل دولة بوليسية تمرس في العدوان والظلم والصراع والبلادة الانفعالية التي تحملت أنات وصرخات المعذبين حتى الموت، على الرغم من كل ذلك كانت حركة عينيه التي ترمش كثيرا تكشف عن قلقه الداخلي خاصة أثناء النطق بالحكم وقد ركزت كاميرات القنوات الفضائية عليه بشكل قريب لتكشف تلك الحركة الواضحة.
ويدخل جمال وعلاء إلى القاعة يرتديان ملابس بيضاء أنيقة وكأنهما حضرا من منتجع سياحي بعد أداء تمرينات "إيروبيك" على شاطئ البحر، ومع هذا يتحركان كثيرا في عصبية واضحة، بالذات جمال الذي حاول أن يتماسك بتشبيك يديه خلف ظهره، أو عقد ذراعيه أمام صدره وتثبيت عضلات وجهه حتى لا تكشف مشاعره، إلا أنه لم ينجح طول الوقت حيث زالت بعد قليل نظرات الثقة والعنجهية والتعالي لتحل محلها نظرات انكسار وخيبة أمل وحزن لا تخطئها العين خاصة بعد مقدمة الحكم التي وصمت عهد أبيه ووصفته بالفساد ومجدت ثورة المصريين، وازدادت هذه المشاعر حين النطق بالحكم على أبيه، بينما كان علاء يتمتم بشفتيه من وقت لآخر ربما هو يردد بعض الأدعية.
كان الوجوم سيد الموقف خلال وقائع الجلسة، فقد دخل مبارك يلبس كالعادة نظارة شمسية رئاسية فخمة (لا أدري من يدفع ثمنها الآن)، وقد غابت عن وجهه تلك النظرة الاستعلائية المتغطرسة لتحل محلها حالة وجوم ممتزجة بالحزن العميق واللامبالاة. ولم ير متحدثا لأحد أو متفاعلا مع أحد، ولم ينطق بكلمة باستثناء لفظ "موجود" حين نادى عليه القاضي. وقد بدت عليه علامة القلق حين لامست يده وجهه ثم مسح منخاره بإصبعه، وهذه هي اللازمة التي تعكس قلقه الداخلي الذي يحاول إخفاءه ليبدو ثابتا كعادته.
كانت مقدمة المحكمة إدانة قضائية مهمة للعهد السابق حيث اعتبرت الحكم السابق كابوس مظلم وأن الثلاثين عاما التي أمضاها النظام في الحكم كانت ظلاما حالكا أسودا وأنه انقشع مع الثورة إلى ضياء مشرق. وأدانت من تربعوا على عرش النعم والثراء والسلطة ووصفتهم بالفساد الشديد، وبتجاهلهم لمعاناة الشعب ونداءاته للإنقاذ من عذاب الفقر وهوان النفس، وتطلعه إلى ظروف عيش مناسبة. وأثنت المقدمة على الثورة وعلى الشعب المصري وعلى خروج أبنائه السلميين متجهين صوب ميدان التحرير مسالمين في وجه من أحكموا قبضتهم وارتكبوا كل الظلم والفساد وتبلدت مشاعرهم وعميت قلوبهم، وزهق الباطل فكان زهوقا، ومحا الله آية الليل المظلمة. هذه المقدمة (باستثناء التعثرات اللغوية والنحوية) أعطت الأمل للمتابعين للمحاكمة من حيث كونها أدانت بقوة النظام السابق، وهذه الإدانة تنبع قيمتها من حيث كونها إدانة قضائية وليست إعلامية أو سياسية.
وأثناء المقدمة بدأت تظهر علامات القلق والترقب على وجه حبيب العادلي وإسماعيل الشاعر على وجه الخصوص، كما ظهرت بدرجات أقل على وجه الباقين. وقد طأطأ جمال مبارك رأسه لأول مرة وزم شفتيه فكأنه لم يستطع أن يدافع عن نفسه وعن نظام أبيه أمام هذه الإدانة القضائية الدامغة.
وفي المجمل لم تظهر علامات دهشة أو غضب أو فرح لدى المتهمين، لا الذين أدينوا ولا الذين برئوا، باستثناء اثنين من مساعدي وزير الداخلية ظهرت على وجه أحدهما ابتسامة مجهضة وعلى وجه الآخر دموع لا نعرف أهي دموع فرح أم دموع ندم، إذ واكبها عض على الشفتين. وتفسير ذلك ربما يرجع إلى أن المتهمين كانوا يتوقعون مثل هذه الأحكام فلم تكن مفاجأة لهم، أو أنهم يعرفون أن ثمة جولات أخرى من التقاضي في محكمة النقض وأن الأمر ليس نهائيا، أو أنهم يخشون ما تأتي به الأيام من حكم الشعب عليهم بعيدا عن قاعة المحكمة. وعلى الرغم من اكتساء وجه إسماعيل الشاعر بحزن عميق في بداية الجلسة واستمرار بعض هذا الحزن بعد النطق بالحكم إلا أنه تنفس الصعداء بعد الحكم.
ويبتهج أهل الشهداء بالحكم على مبارك والعادلي في البداية، ولكنهم يصدمون ببراءة مساعدي وزير الداخلية الذين كانوا في نظرهم ونظر الآخرين واسطة وذراع تنفيذ الجريمة التي عوقب عليها مبارك والعادلي، ولكن حيثيات الحكم تكرر أكثر من مرة عبارة "خلت أوراق الدعوة من الأدلة التي تطمئن لها المحكمة لإدانة باقي المتهمين". ولا تعقيب على الحكم ويترك الأمر للنقض.
ولكن بقيت المحاكمة السياسية لمبارك ونظامه والتي تحتاج لقوانين ومعايير أخرى وأدلة أخرى تقدم لتحيط بتلك الجرائم التي لم تشملها المحاكمة الحالية، وبقي حكم الشعب وحكم التاريخ على مبارك ونظامه، وبقي أن نتأمل عبارة "خلت أوراق الدعوة من أدلة الإدانة" لكي نتساءل من الذي منع الأدلة من الوصول إلى أوراق القضية وكيف لعبت الأجهزة الأمنية والأجهزة السيادية دورا أساسيا في تشتيت وإخفاء أدلة الإدانة حيث أن كثيرا من القيادات الأمنية كانت شريكة في الجريمة ومع ذلك ظلت في مواقعها ومارست الضغوط الرهيبة على الشهود وحتى على أهالي الشهداء لتغيير مسار القضية، وأن الخطأ الفادح للثورة أنها لم تطهر وزارة الداخلية، ولم تطهر أجهزة الدولة من أركان النظام السابق الذين بدوا متحكمين في تسيير عجلة الأمور حتى الآن، وهم يستعدون الآن للعودة بشكل شرعي من خلال مرشح للرئاسة يمثلهم ويقضي على ما تبقى من الثورة لكي تصبح مجرد عرض طارئ، وهاهم أركان النظام وقواعد الحزب الوطني يجتهدون الآن -وقد نجحوا- في تزييف وعي نسبة غير قليلة من الجماهير (بما فيهم مثقفين وكتاب ومفكرين وإعلاميين) ليروجوا لعودة الحزب الوطني (الذي تمت إدانته بالفساد وحله بحكم قضائي) والنظام القديم (الذي تمت إدانته بالفساد في مقدمة الحكم القضائي اليوم) وذلك على يد الفريق أحمد شفيق المسئول عن موقعة الجمل وغيرها من محاولات إجهاض الثورة، ولا عزاء للبلهاء.
واقرأ أيضاً:
ماذا لو زُورت الانتخابات لصالح شفيق؟ / نصيحتي للإخوان المسلمين