إن ما مررنا به في هذه السنوات الثلاثة ونصف، أعني في هذه الثلاث وستون عاما ونصف، يدعونا إلى مراجعة كل ما هو نحن أو ما نتصور أنه نحن بجهد لا يكل. إن تاريخ "البطل" و"البطولة" يمثل منظومة محورية عبر تاريخ الحياة البشرية برمتها، يتجلى ذلك في التاريخ والأسطورة كما يتجلى في واقع الحياة معا، ولعل له وضع خاص في التاريخ المصري القديم والحديث. عبر التاريخ وحتى الآن: لم يعدم الناس وسيلة لتخليق الأبطال ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، فإن لم يتمكنوا من ذلك على أرض الواقع فإنهم يصنعونهم صناعة فيما يمارسون من فنون مختلفة على مستويات متعددة: من أول الملاحم الشعبية حتى التصوير التشكيلي مرورا بفن الحكي طولا وعرضا. الأمثلة أشهر من أن يشار إليها تفصيلا (مثلا: الزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي من أبطال الملاحم الشعبية). ثم إن الإبداع الحكائي الحديث قد تناول القضية من أبعاد أروع، وربما أكثر مصداقية من توثيق التاريخ الرسمي، (راجع فتوات نجيب محفوظ عموما ثم خاصة في ملحمة الحرافيش)، وقد بدأ مؤخرا أنه لم تعد هناك حاجة أصلا لأن يركز أي عمل إبداعي على بطل فرد أو يتمحور حول بطل بذاته.
فضل الديمقراطية الحقيقية:
إن من أهم أفضال ما يسمى الديمقراطية -قبل تشويهها واستعمالها حصريا لجمع المال وتزييف البطولات -أنها حين طبقت بشكل جيد حدت من إلحاح ظهور ودوام دور ما يسمى "البطل" (الزائف عادة). أثبتت الديمقراطية الصحيحة أنها قادرة على أن تلغي من قاموس البطولة صورتين متميزتين هما: صورة "الزعيم البطل -الأوحد "وكذلك صورة "الزعيم -البطل -الخالد (وليس فقط خالد الذكر) أضف إلى ذلك أن ما يسمى "الشفافية" وهي إحدى آليات الديمقراطية، راحت تلاحق هؤلاء الأبطال أولا بأول فتخفف من، أو تحول دون، تقديسهم وهي تسارع بتعريتهم. ومن ثم تحول دون تمنطقهم أنواط البطولة عمرا طويلا أو إلى الأبد.
مؤخرا حلت ألاعيب الإعلام الأحدث عبر الفضاء محل الملاحم الشعبية وكادت تحل قنوات الإعلام الأهلي محل الإعلام السلطوي. فترتب على ذلك أن ظهرت بطولات براقة زائفة ولو لفترة قصيرة لكنها سرعان ما تتعرى أمام خبطات الواقع فضلا عن ملاحقة الوعي الشعبي (من خلال نفس الوسائل). يا ترى لماذا أحتاج ويحتاج الناس إلى تصنيع الأبطال؟
سوف أكتفي في هذا الصدد بثلاث مداخلات:
1) الحاجة إلى الاعتماد
الكائن البشري لا يكون كذلك إلا في حضور وعيه في مواجهة وعي "آخر" من نفس نوعه على أرض واقعهما معا.. يستتبع ذلك ما يمكن أن يسمى حق الاعتمادية (المتبادلة في النهاية). الناتج الموضوعي هو أن أية جماعة من الناس سوف تفرز قائدا لها تعتمد عليه، ولو في مجال بذاته، ولو لفترة معينة.. يتخلق القائد أو الرئيس بطلا بعد ذلك حين يتسع مجال تأثيره، وتتعدد مجالات نفوذه، وتطول مدة الاعتماد عليه.
2) إسقاط الأسطورة الذاتية
لكل منا أسطورته الذاتية، وهي الصورة العميقة الخيالية التي يتمنى أن يكونها الواحد منا، وهي منظومة غائرة غامضة وإن كانت راسخة متمادية مبدعة أبدا ونحن حين نفشل في تفعيل أسطورتنا الذاتية لتحقيقها نسقطها خارجنا على بعض من يمكن أن يمثلها، أو يرمز، لها ليس فقط بما هو وإنما أيضا بما نتصوره فيه، فينشأ البطل.
3) وهم الخلود
من بين ما يدعونا إلى تخليق البطل واتباعه إلحاح داخلي (وخارجي) بأننا كيانات باقية، أو لابد أن تظل باقية. نحن نعجز عن تحقيق ذلك في واقعنا الشخصي (وحتى في مخيلتنا) من هنا يصبح البطل مسْـقـَطا مناسبا ليس فقط لأسطورتنا الذاتية، وإنما لخلودنا الملوح مع استحالته فينا حالا .البطل من هذا المنطلق يقوم باللازم حيا وميتا، ولعل ذلك هو ما يجعل أبطال التاريخ يوصفون بـ "البطل الخالد" أو على الأقل "خالد الذكر".
تعرية الأبطال:
تعرت مؤخرا أكثر فأكثر صورة البطل تاريخا حين اكتشفنا باضطراد أن البطولة في عدد غير قليل من الحالات تقيّم بعدد القتلى (الذين يقتلهم البطل)، أو عدد النساء اللائي يسبيهن (أو يتزوجهن)، البطل، أو عدد (وحجم) المفاجآت التي يـبهــر بها البطل تابعيه، أو مساحة الأراضي التي يغتصبها (أو يغير عليها)، أو عدد الأكاذيب التي يروجها (أو يروجونها عنه)، أو عدد الحيل التي يحذقها، أو عدد البلهاء الذين ينخدعون فيه، أو عدد الوعود المؤجلة التي يلوح بها البطل، أو كل ذلك أو غير ذلك.
على الجانب الآخر انكشف البطل المعاصر حين عجز عن القيام بإشباع تلك الاحتياجات المسئولة عن تصنيعه وتقديسه والحفاظ عليه، فلا هو حمل أعباء تبعية من ألـَّهوة، ولا هو ممثل حقيقي لأسطورتهم الذاتية، ولا هو أثبت قدرته على الخلود من واقع حركية النعوش.
وبعد:
أخشى ما أخشاه أن نكون مازلنا –خاصة في مصر –نحلم بالبطل، المنقذ، الساحر، المعجزة، برغم تأكيد أغلبنا بما في ذلك الذين نورطهم في البطولة، أنه لم يعد ذلك ممكنَـا، وأن الشعب هو البطل، وكلام من هذا:
على كل واحد يحترم نفسه، ويحب وطنه، ويعبد ربه ويتعلم من التاريخ أن يكون هو البطل الحقيقي عبر حياته، له ولنا، وأن يستعد للقاء ربه فردا، وبالتالي سوف لا نحتاج إلا إلى ربـَّانٍ يقود سفيتنا بحذق إلى شاطئ الأمان والإنتاج والإيمان والإبداع.
وعلينا نحن أن نحذق العوم، الاحتياط واجب.
اليوم السابع، الأربعاء: 30-4-2014
نقلا عن موقع أ.د يحيى الرخاوي
واقرأ أيضاً:
نحن لصوص ولسنا خونة! / الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصري / نادين شمس: شاعرة تكتب قصيدتها الأخيرة