في البداية
في البداية كانت القاعدة، ثم جاءت الدولة الإسلامية التي أعلنها تنظيم داعش لتضع المنطقة بل وجميع دول العالم أمام تحدٍ خطير على أمنها. كان الظن أن بالإمكان القضاء على هذه التنظيمات الإسلامية الساعية إلى إكراه الناس على الإسلام وعلى تحكيم الشريعة، لكن الأيام أثبتت أن القضاء على هذه الجماعات المسلحة -التي كان ظهورها ونشاطها مرغوباً من بعض القوى الإقليمية والعالمية- لن يكون سهلاً ميسراً، وقد لا يكون ممكناً على الإطلاق.
نبتت داعش في الشام والعراق وتعهدتها استخبارات بعض دول المنطقة بالسقاية والتغذية بطرق غير مباشرة، بحيث يظن الداعشيون أن المال يأتيهم هبات وتبرعات من أفراد مؤمنين مثلهم، يريدون أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم؛ فنمت هذه النبتة، وضربت جذورها في أرض الشام والعراق، وصار اجتثاثها عسيراً جداً. سيكون اجتثاث داعش مطلوباً بعد أن يتحقق الهدف الذي من أجله ساعدت القوى الإقليمية والعالمية على نشوئها وتمكنها. فداعش تحقق لهم -دون أن تدري- ما لا يستطيع أحد غيرها أن يحققه.
داعش وانقسام الأمة
تحلم إسرائيل والصهيونية العالمية أن تقسّم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية متناحرة وضعيفة ولا أمل في توحدها من جديد، وأتت داعش والقاعدة وغيرهما من تنظيمات، لتؤدي دورها المشؤوم، المكمل لدور إيران في إثارة الطائفية بين السنة والشيعة، على مستوى المنطقة كلها، بل على مستوى العالم بأكمله. ليس كمثل هذه التنظيمات أحد يستطيع غرس الكراهية والأحقاد بين السنة والشيعة، وبخاصة أن إيران أنشأت ورعت تنظيمات شيعية مقابلة، لا يختلف تفكيرها عن داعش وأخواتها إلا في أنه من منظور شيعي.
كلا الفريقين يكفّر من ليس معهم، ومن ليس على عقيدتهم والولاء لهم، ويستحلون قتله ونهبه واغتصاب نسائه. يطلق الجهادي الإكراهي السني النار ليقتل شيعياً يبادله إطلاق النار، ويصرخ الجهادي "الله أكبر"، ويفرح بنصر الله كلما أردى مسلماً شيعياً أو أصابه إصابة بالغة. كما يهتف الشيعي الذي يصوب طلقاته إلى مسلم سني "الله أكبر" و"يا حسين"، ويشعر أنه كلما قتل سنياً نال أجراً عظيماً عند الله وارتفعت درجته في الجنة. فهل هنالك من هو أقدر من هذين الفريقين الضالين على تمزيق الأمة وخلق الأحقاد والثارات فيها؟ هذا هو الهدف الأول لمن يعبثون بمنطقتنا.
الأهداف خمسة
والهدف الثاني لهم هو تنفير المسلمين وغير المسلمين في منطقتنا وعلى مستوى العالم، من تحكيم الشريعة الإسلامية في حياتهم، على الرغم من إيمان أكثرهم وتقواه. إن ما تقوم به هذه المنظمات التكفيرية الإكراهية من تطبيق غبي للشريعة، هو بمثابة التطعيم أو اللقاح الذي يصيب البدن بالمرض مخففاً، كي لا يبقى للمرض سبيل للعودة إلى هذا الشخص. إن ما يرتكبونه من جرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويتقربون إلى الله، يبث في نفوس الجميع الخوف وكراهية أن تحكّم الشريعة الإسلامية في أوطانهم، وبخاصة الطوائف غير المسلمة وغير السنّية.
ثم الهدف الثالث المرغوب والذي من أجله تمت رعاية نبتات هذه التنظيمات فهو ترسيخ تقسيم المنطقة على الأرض وجعل التقسيم أمراً واقعأ لا بد للأمة من الاعتراف به وتقبله ولو بعد حين.
ورابع الأهداف الذي تسعى إليه إسرائيل والصهيونية العالمية هو تدمير بلادنا ومواردنا ليتحقق الحلم الصهيوني في تسخير العمالة العربية للعمل عند الرأسمالية الإسرائيلة والصهيونية، ليكون منهم المال والعلم ومنا السواعد التي تعمل بأقل الأجور.
والهدف الخامس هو تجميع الجهاديين من السنة والشيعة في منطقة واحدة يقتل بعضهم بعضاً حتى يفنون، وإن لم يفنهم القتال ما بينهم تكفلت أمريكا بإفناء الباقين.
رَعَوْهم ثم عادَوْهم
لقد أعانت القوى الإقليمية والدولية على قيام داعش وإعلانهم الدولة الإسلامية، ثم قالوا عنهم "إرهابيون" ونعتوهم بكل وصف قبيح، من مجرمين، إلى عملاء، إلى مرضى عقليين ومتعاطي مخدرات إلى فاسدين مفسدين، لا يتورعون عن الاعتداء على أعراض الناس وتبرير ذلك فقهياً. وكان ذلك مقدمة لإعلان الحرب عليهم، وتشكيل تحالف دولي للقضاء عليهم؛ لكن أمريكا التي تدعي حرصها على تخليص المنطقة من شرورهم، لا تريد سوى تحجيمهم وحصرهم في حدود جغرافية لا يتجاوزونها.
قبل سنة ونصف كتب كاتب أمريكي عن تقسيم العراق والشام إلى دويلات طائفية، وكان ملفتاً للنظر أن الخارطة المقترحة للمنطقة في المقال، فيها دولة سنية اسمها "سنّة- ستان" تضم الأنبار وأغلب شرق سورية. استغربت يومها هذا التقسيم، فقد كنت قبلها أؤمن أنهم سيقسمون العراق إلى ثلاث دويلات، ثم يقسمون سورية إلى دويلات أخرى، لكن دون تداخل التقسيمين؛ وزال استغرابي عندما أعلن داعش دولته الإسلامية على مناطق سنّستان التي حددتها خارطة التقسيم المقترحة من أمريكا.
قيام دولة سنية طائفية في هذه المناطق مطلب استراتيجي للذين يخافون من امتداد نفوذ إيران، حيث تكسر هذه الدولة الهلال الشيعي، وتحرم إيران وشيعة سورية ولبنان من التواصل عبر طرق برية، يستطيع الطرفان بواسطتها نقل العتاد والسلاح.
كان بإمكان أمريكا والقوى الإقليمية السنيّة أن تنشىء دولة سنيّة موالية لهم، بدل الدولة الداعشية المعادية، وبذلك يتحقق كسر الهلال الشيعي. لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل أتاحوا لداعش أن تقيم دولة معادية لهم ومعادية لإيران، لأنها رغم عداوتها لهم ستحقق لهم أهدافهم الخمسة التي ذكرتها أعلاه، لذلك كثر حديثهم عن الحاجة إلى عشرات السنين كي نقضي على داعش ودولته، أي إن نيتهم ترك داعش ودولته قائمة عشرات السنين قبل أن يسحقوها، ليكون ذلك بعد تحقق الأهداف الخمسة كلها.
أما دول المنطقة التي أدركت خطورة داعش عليها فقد عملت بكل طاقاتها لمحاربته وتجفيف منابعه وموارده.. فصنفوه منظمة إرهابية، وصنفوا كل من يقدم له شيئاً إرهابياً، وبالتالي مجرماً يلاحقه القانون، وتناله العقوبات القاسية.
الظن الخاطىء
ظنت هذه الدول -وكلها مسلمة-، أنها قادرة على تجفيف منابع هذه المنظمات الإكراهية عن طريق تصنيفها لداعش والقاعدة وأخواتهما كإرهابيين مطلوبين للعدالة، وعن طريق وصف ما يقومون به أنه جرائم يرفضها الإسلام، وأعلن كثير من علماء الدين فتاواهم بأن هؤلاء الإرهابيين خوارج، يجب قتالهم وقتلهم، ومنع ما يفعلونه من إكراه غير المسلمين على الإسلام، وإلا فإنهم يخرجونهم من ديارهم ويسبون نسائهم ليبيعوهن جوارٍ يستحل من يشتريهن أن يستمتع بهن متعة الزوج بزوجته. تعمل الآلة الإعلامية الموجهة ضد داعش والقاعدة والدولة الإسلامية -التي يرأسها من نصّب نفسه خليفة- ليل نهار، والحكومات تحسب أنها بذلك وبفتاوى العلماء ستنتصر على داعش وتقنع الشباب المسلم بعدم الانضمام إليها.
كان من الممكن أن يصدق هذا الظن، لولا أن داعش التي نزدريها، والقاعدة التي نسعد كلما تلقت ضربة موجعة، وبوكو حرام وغيرهم هم في عيون الكثيرين من المتدينين والإسلاميين شيء آخر مختلف، كما إن هنالك حقائق أخرى هامة لم تأخذها هذه الحكومات في اعتبارها.
لابد من الأخذ بالاعتبار
أول هذه الحقائق التي على الحكومات أخذها في الاعتبار، هي أن الداعشيين والقاعديين ومن على نهجهم، يراهم الكثيرون من الذين يتمنون أن ترجع دولة الخلافة، أبطالاً ومجاهدين مخلصين، أخذوا الكتاب بقوة، كما فعل يحيى عليه السلام، لتصبح قسوة التكفيريين الإكراهيين مبررة ومظهراً لأخذ الكتاب بقوة، لا تأخذهم في الله لومة لائم.
أما ما يكال للإكراهيين من دواعش وغيرهم من أوصاف سيئة، فإن من يراهم مجاهدين أبطالاً، لن يبالي بها‘ وسيعتبرها مجرد دعاية كاذبة تهدف إلى تشويه صورة هؤلاء الأبطال، لتبرير القضاء عليهم وعلى مشروع دولتهم الإسلامية، ولن يكون لهذه الدعاية رغم صدقها أية مصداقية لديهم، وسيبقى متعاطفاً ومؤيداً لهذه التنظيمات الإكراهية، ولن يتردد في دعمها بالدعاء لها، وبالمال، إن أمن على نفسه، أو الانضمام إليها إن أراد أن يضحي بنفسه في سبيل جنة عرضها السماوات والأرض.
ومما يرسخ اعجابهم بهؤلاء، وعدم تصديق ما يقال عنهم، أن التحالف الذي يحاربهم، تحالف أمريكي - أوربي إضافة لدول إسلامية، وكثير منهم يعتبرون الكراهية والعداء من هذه الدول -وبخاصة غير المسلمة منها- دليلاً على إخلاص هؤلاء الجهاديين الإكراهيين، وعلى أنهم على الحق، لذلك يحاربهم الجميع، كي لا تقوم للمسلمين دولة تطبق الشريعة وتعيد الخلافة وتفرض عزة المسلمين على الجميع. إنه منطق: عدو عدوك هو صديقك دائماً، وهو منطق خاطىء إذ ما أكثر ما يكون عدو عدوك عدواً لدوداً لك أيضاً.
لن يزيد وجود دول مسلمة ضمن التحالف من مصداقية الدعاية المضادة للجهاديين الإكراهيين، لأن للتيار الإسلامي تجارب مريرة مع كثير من أنظمة هذه الدول المسلمة التي لا تخفي عداءها لكل من يسعى إلى تطبيق الشريعة من جديد، ولأن الاعتقاد أن حكومات الدول المسلمة هي إما عميلة ومتعاونة مع الغرب الصليبي أو خاضعة لإملاءاته ولا تجرؤ على مخالفتها.
دعاية مضادة غير مجدية
ومما يجعل الدعاية المضادة للمنظمات الجهادية الإكراهية غير فعالة، أن ما يقال عن أعمالهم، أنها مما يأباه الإسلام ولا يقره بحال من الأحوال، إنما هو تصريحات لعلماء دين، كثير منهم متهم في صدقه، ظنّاً أنهم من علماء السلاطين، الذين يفتون بما يريده الحاكم. وهذه التصريحات يطلقها المفتون دون تأصيل شرعي مقنع، إنما هي شعارات سياسية، على النقيض من الفقه الموروث ومن التاريخ، الذي تباهي به الأمة الإسلامية. نعم وللأسف لم ينجح علماؤنا في إثبات أن الجهاديين الإكراهيين خاطئون من الناحية الشرعية ولم يقدموا أدلة قوية على فتاواهم وتصريحاتهم. وبالمقابل هنالك مفكرون -رغم قلة عددهم- يؤصلون تأصيلاً قوياً مدعما بالنصوص وأقوال العلماء الكبار السابقين، يثبت لهؤلاء، أن ما يقومون به هو الحق الذي يرضي ربنا، ويجب من أجله التضحية بالنفس والمال، دون أن تأخذنا في الله لومة لائم.
من يقرأ لأبي محمد المقدسي مثلاً سينبهر وسيظن أن هؤلاء الجهاديين الإكراهيين على الحق المبين حتى لو كفروا الشعوب المسلمة واستحلوا دماءها، فإن ذلك جهاد قصرت فيه الأمة كثيراً، وأحياه هؤلاء الرجال المخلصون.
هؤلاء الشباب المتحمسون لدين الله، ولاستعادة عزة المسلمين، ولتحكيم شرع الله، والمتعجلون للوصول إلى الجنة من أقصر وأسرع طريق، هم في الغالب زادهم من الفقه قليل وعلمهم الشرعي هزيل، هم أناس يريدون أن يعملوا دون أن يفلسفوا الأمور، حيث تبدو لهم الأشياء واضحة بسيطة، لا تحتاج إلى تخريجات العلماء، سواء السابقون منهم او المعاصرون، طالما هنالك آيات وأحاديث شريفة ظاهرها يؤيد ما يفعلونه. إنهم لا يريدون إضاعة الوقت والجهد في التنظير، بل هم يستجيبون لداعي الجهاد في سبيل الله، ولا يهمهم من خالفهم أو خطّأهم.
وللحديث بقية............. الإرهاب الإكراهي 2
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3/ ما لنا غيرك يا الله(3)/ الطائفية والثورة في سورية3/ الثورة السورية بين العنف واللاعنف5/ ثورة سلمية محمية9